«دور الشباب في تحقيق رؤية مصر 2030» فعاليات المؤتمر الطلابي الأول بسوهاج    وصلت لحد تضليل الناخبين الأمريكيين باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي.. «التصدي للشائعات» تناقش مراجعة وتنفيذ خطط الرصد    «تعليم الأقصر»: اليوم الثقافي الياباني تجسيد حي للصداقة بين مصر واليابان    رئيس جامعة المنوفية يعقد اجتماع لجنة البحوث العلمية «أون لاين»    "المصري الديمقراطي" يعقد جلسة نقاشية بعنوان "الإصلاح الاجتماعي من منظور الديمقراطية الاجتماعية"    رئيس «كهرباء جنوب الدلتا» يقود حملة ضبطية قضائية للحد من سرقات التيار    سفيرة الاتحاد الأوروبي ومدير مكتب الأمم المتحدة للسكان يشيدا باستراتيجية مصر لدعم الصحة والسكان    نتنياهو: الهجوم الجديد على غزة سيكون مكثفاً    جانتس: التأخير في تشكيل لجنة تحقيق رسمية بأحداث 7 أكتوبر يضر بأمن الدولة    مشادة بين لاعب بتروجت وسيراميكا وبطاقة حمراء «فيديو»    رئيس الخلود ل «المصري اليوم»: لن نترك ديانج يشارك في كأس العالم    سيخضع لفحص طبي جديد.. يوفنتوس يعلن إصابة كامبياسو    مصر تحصد 62 ميدالية بالبطولة الأفريقية للمصارعة بالمغرب وتتصدر كؤوس المركز الأول    مشهد جنائزي مهيب.. أهالي الشرقية يودعون روان ناصر طالبة كلية العلوم    الأرصاد: طقس غداً الثلاثاء حار نهاراً معتدل ليلاً على أغلب الأنحاء    جنايات بورسعيد تؤيد سجن متهم ثلاث سنوات لتهديد سيدة بصورها الخاصة وابتزازها ماليًا    وفدان من تايلاند ورومانيا يزوران المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية    تعرف على مكان وموعد عزاء الفنان نعيم عيسى    الغرف السياحية: التأشيرة الإلكترونية ستؤدى إلى زيادة كبيرة في أعداد السائحين    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم 5 مايو    مهرجان مسرح الجنوب يُكرم الكاتب محمد ناصف    ما حكم الاقتراض لتأدية فريضة الحج؟.. عضو مركز الأزهر تُوضح    هل يجوز التحدث أو المزاح مع الغير أثناء الطواف؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى المنصورة التخصصي: يثني على أداء المستشفى والاطقم الطبية والتمريض    تقارير تكشف موعد سحب قرعة بطولتي كأس العرب ومونديال الناشئين    حقيقة تعثر مفاوضات الزمالك مع كريم البركاوي (خاص)    بعد جنازته بمصر.. كارول سماحة تقيم عزاء زوجها في لبنان الخميس    الرئاسة الروسية: سننظر إلى أفعال المستشار الألماني الجديد    أسعار الأسماك اليوم الإثنين 5 مايو 2025 .. البلطي ب 100 جنيه    «المركزي» يطرح سندات خزانة ب3 مليارات جنيه    لمدة 20 يوما.. علق كلي لمنزل كوبرى الأباجية إتجاه صلاح سالم بالقاهرة    رئيس الاتحاد الدولي للترايثلون: مصر تستحق تنظيم دورة الألعاب الأولمبية    مستقبل الذكاء الاصطناعي ضمن مناقشات قصور الثقافة بالغربية    شام الذهبي: الغُناء بالنسبة لي طاقة وليس احتراف أو توجه مهني    وزير التعليم العالي يُكرّم سامح حسين: الفن الهادف يصنع جيلًا واعيًا    "قومي حقوق الإنسان" ينظّم دورتين تدريبيتين للجهاز الإداري في كفر الشيخ    وزير الاتصالات يغادر إلى طوكيو للمشاركة في فعاليات مؤتمر "سوشي تك"    محافظ الجيزة يوجه بصيانة مصعد فرع التأمين الصحي ب6 أكتوبر    محافظ المنوفية يلتقى وفد الهيئة العامة لاختبارات القطن    الهند تحبط مخططا إرهابيا بإقليم جامو وكشمير    العملات المشفرة تتراجع.. و"بيتكوين" تحت مستوى 95 ألف دولار    ترامب يرسل منظومتي باتريوت لأوكرانيا.. ونيويورك تايمز: أحدهما من إسرائيل    وزارة الصحة تعلن نجاح جراحة دقيقة لإزالة ورم من فك مريضة بمستشفى زايد التخصصي    قطاع الرعاية الأساسية يتابع جودة الخدمات الصحية بوحدات طب الأسرة فى أسوان    "وُلدتا سويا وماتتا معا".. مصرع طفلتين شقيقتين وقع عليهما جدار في قنا    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    فيديو.. ترامب يكشف عن نيته بناء قاعة رقص عالمية في البيت الأبيض    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    جوري بكر في بلاغها ضد طليقها: "نشب بيننا خلاف على مصروفات ابننا"    هيئة الرعاية الصحية: نهتم بمرضى الأورام ونمنحهم أحدث البروتوكولات العلاجية    جدول امتحانات الترم الثاني للصف الثاني الثانوى في القليوبية    الكرملين: بوتين لا يخطط لزيارة الشرق الأوسط في منتصف مايو    مصرع طالبة صعقًا بالكهرباء أثناء غسل الملابس بمنزلها في بسوهاج    مقتل شاب على يد آخر في مشاجرة بالتبين    نتنياهو: خطة غزة الجديدة تشمل الانتقال من أسلوب الاقتحامات لاحتلال الأراضى    ارتفعت 3 جنيهات، أسعار الدواجن اليوم الإثنين 5-5-2025 في محافظة الفيوم    محظورات على النساء تجنبها أثناء الحج.. تعرف عليها    على ماهر يعيد محمد بسام لحراسة سيراميكا أمام بتروجت فى الدورى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصدمة
آخر ساعة .. قبل الضرب!


هناك.. عند شارع قصر العيني
كان الثوار يقترحون حلولا للخروج من الأزمة الراهنة..
كانوا يرسلون أرواحهم للسماء لتقول لله: إنا قد تعبنا هنا
وكانوا يغرسون في أجسادهم الطلقات لتثمر فيما بعد
ابتساماتنا الآمنة..
وكانوا يصرخون من الألم
حين تتهشم رؤوسهم وقد أصابها الحجر
كانوا يرددون الشهادة كلما وجدوا الموت علي
مرمي حجر
كانوا الورود التي داستها الأقدام الخشنة
والأطباء الذين لم يكتب لهم الشفاء..
من موت مبكّر.في ساعة الهدوء التي تسبق العاصفة كنا هناك، نجلس مع المعتصمين الذين وجدناهم يمارسون مهامهم التقليدية في النقاش، والغناء، ولعب كرة لم نكن نعلم - أنها بعد مغادرتنا بقليل - ستستقر داخل المبني ليتفجر بعدها الوضع.
كان شارع مجلس الشعب أشبه بمعرض لفن تشكيلي، تصطف الخيام علي جانبيه، بينما تتوسطه نعوش فارغة كتب عليها أسماء شهداء محمد محمود ووضع فوقها الريايحين والورود.
بمجرد دخولك من البوابة ستجد المستشفي الميداني علي يمينك، لكنه هذه المرة لا يتواجد فيه مصابون، تستقبلنا الطبيبة الشابة بابتسامة شاحبة، وهي تحكي لنا عن تجربتها الخاصة في تناول السم مع باقي زملائها من الثوار.
"سندوتشات محشوة بخلطة من الأرز والعدس" بهذه الكلمات تصف الوجبات التي قدمتها إليهم امرأة منتقبة تخفي وجه الفاعل الحقيقي الذي حرضها علي اغتيال شبان لا يحملون في قلوبهم إلا الخير.
"لقد تناولنا سم فئران" تشير إلي مصادر وصفتها بالموثوقة وهي تخبرنا بالمعلومة، بينما نسألها عن نيتها بعد أن تجرعت السم.. فنجد في كلامها ما يؤكد إصراراها علي مواصلة مهمتها في ثورة قالت إنها لا بد أن تكتمل.
قراءة اللافتات، والأشعار التي تم تدوينها علي النعوش يستغرق من الوقت ما يمكنه أن يجعلك تطيل البقاء في مربع واحد، فإذا بنا نصطدم بشيخ طاعن في السن يقف منتصبا وهو يعلق علي صدره رقعة من الكرتون يحذر من خلالها الشباب من سرقة ثورتهم.
سنعرف بعد قليل أن اسمه محمد، وسيطلب منا أن نناديه ب "أبو الثوار" كما يفعل كل من حولنا، نسأله عن سبب الوصف فيخبرنا بأن شباب التحرير كلما تجمعوا في مكان يرونه أمام أعينهم مما جعلهم يطلقون عليه هذه التسمية التي أحبها .
"لست بطلا" يقولها بصوت هادئ، قبل أن يشير إلي النعوش التي أمامه وهو يحكي عن شهداء دفعوا الضريبة من دمائهم ليفاخر بهم الوطن ويستطرد: "مافيش أعز من الضني" ويصمت، كأنه يحبس دموعا في طريقها إلي الظهور قبل أن يتحدث عن أمهات وآباء الشهداء الذين ينتظرون قصاصا لا يحصلون عليه.
نطلب منه أن يصف لنا حالة المعتصمين بعد تناولهم للوجبات التي أودت بحياة أحدهم فلا يتذكر سوي كلمة واحدة كانت تخرج من أفواه المصابين " سمّونا "ويضيف: امتلأ المكان بعدها بسيارات الإسعاف التي حملتهم إلي المستشفيات للعلاج.
ملامح الرجل وتفاصيل وجهه الذي يمتليء بالتجاعيد العميقة فضلا عن عمامته الكبيرة تجعلنا وكأننا أمام ولي صالح من هؤلاء الذين تحكي عنهم الأساطير، ونراهم في الأفلام القديمة.
أنت صوفي يا حاج ؟
يجيب ببساطة "أنا لا صوفي ولا حريري الكلام ده ميلزمنيش"
ما زالت عيناه المصوبتان إلينا كأنهما تستشفان ما بداخلنا تغرياننا بمواصلة الحديث معه حتي نسأله عن توقعاته لجمعة الغد فيقول: ربنا يسلم ياولدي.. احنا قرفنا من الدم!
وبدون أن نوجه له سؤالا، يشير إلي مجلس الشعب ويقول: عايز أقولكوا إن هذا الوقت ليس وقت انتخابات ولن أذهب لأدلي بصوتي حتي لو حبسوني خمس سنين مش غرموني 005 جنيه .
من كفر الشيخ جاء الشيخ بعد أن ترك وراءه عائلة كبيرة، قال لنا إنه أنجب تسعة واحد منهم من يدرس في جامعة الإسكندرية، ويتظاهر أمام مسجد القائد إبراهيم.
يثير فضولنا ثلاثة شبان سلفيين وهم يفترشون الأرض نصافحهم ونجلس بينهم لنسألهم عن سبب وجودهم، يعترف أحدهم ويدعي خالد بأنه قد تم تكليفهم من حزب النور لمراقبة الموقف، ومعرفة ما يقوله الناس هنا بعد موقعة الحواوشي، وتخوفهم من أن يتم اتهامهم بالتورط في الجريمة التي قال إنها لا ترضي أحدا، ولا تتفق مع المبادئ الإسلامية.
"ليس بعد الكفر ذنب" بهذه الكلمات يتهمون المتسبب في تسمم الثوار، ويتذكرون أيام الثورة حين تم الدفع بالبلطجية في موقعة الجمل، وإطلاق الرصاص علي الثوار، فضلا عن قطع النت والموبايل حتي لا يتم التواصل بينهم.
أما زميله محمد فأشار إلي العساكر الموجودين بالقرب منا ونعتهم ب " جند الطاغوت " وحين حاولنا أن نستفسر منه عن مقصده قال إنهم عبيد للأوامر إذا طلبوا منهم أن يضربو أحدا فسينفذون ما يؤمرون به.
وعن رأيه في الاعتصام قال: إنهم لا يرون ضرورة من هذا الاعتصام خاصة بعد البدء في اجراء الانتخابات البرالمانية التي ستفرز قادة بإمكانهم أن يديروا دفة الحكم في البلاد.
يلتقط خالد طرف الحديث ليتحدث عن السلفيين الذين كان بإمكانهم عدم الدخول في أمور السياسة ليلتزموا بمنهجهم الدعوي، ويقول إنه يتفق شخصيا مع هذا الرأي الذي يتبناه الشيخ محمد حسان، ويتمني لو أنهم لم يلتفتوا للسياسة.
نسأله عن السبب فيقول: إن السياسة سوف تجعلهم يهملون الدعوة بينما يشكل خطر السلطة في أنهم سيتحفظون في أقوالهم خوفا علي مقاعدهم.
ولم يفوتوا الفرصة قبل أن يصبوا غضبهم علي وسائل الإعلام التي قالت إن السيدة التي قدمت الطعام المسموم منتقبة، رغم أنه كان من الممكن أن تحمل صليبا علي صدرها دون أن يركز أحد علي ذلك.
وفي منتصف دائرة من البشر كانت تقف سيدة عجوز وهي تصرخ في الناس لتحريضهم علي مطالبة المجلس العسكري بإقامة محكمة ثورية لمبارك ورموز حكمه وإعطاء حق الشهداء والمصابين فورا وإعلان حدين: أقصي وأدني للأجور.. وقبل أن نغادر الشارع وقفنا لنتفرج علي مهارة مجموعة من الألتراس وهم يتقاذفون الكرة فيما بينهم، ولم نكن نعلم أن هذه الكرة هي ما ستفجر أحداثا دامية تخلف وراءها مئات المصابين والشهداء.تضاف موقعة شارع قصر العيني لزميلاتها من مواقع: الجمل، ومحمد محمود، والحواوشي، لتتجاور قطع الضباب في مشهد كابوسي لا يعرف أحد كم من الشهداء يحتاجه حتي تظهر الصورة الناصعة التي يتمناها الثوار لمصر.
ما أشبه الليلة بالبارحة وكأنني – بالضبط - أقف أمام السفارة الإسرائيلية، والثوار يحاولون إسقاط علم الكيان الصهيوني ، الذي تحول هذه المرة إلي فرد أمن يلوّح لهم فوق المبني الملحق بمجلس الشعب بإشارات قبيحة، يسخر، ويتبول، ويقذف الجموع – بمساعدة زملائه - بحجارة ومولوتوف ورصاص مطاطي. وحي.تتضاعف الكراهية كلما سقط طفل مصاب، تهشمت رأسه، أو أصابه الحجر في ظهره فظل يتلوي، أو أفقدته الطوبة عينا تنزف دما، أو اخترقت الرصاصة فخذه.. بينما لن أنسي شيخا استقرت الرصاصة في بطنه، فصار يتلو الشهادتين وهو يرفع سبابته في وجه السماء فنفعل مثله ونردد من حوله.
هتاف وصراخ لثوار - هو ما يمكنك أن تسمعه كل دقيقة في مساء الجمعة الماضية بشارع القصر العيني - يخرج من أفواه تسيل منها دماء طازجة، تنادي علي من يسعفها من ألم لا طاقة لبشر علي احتماله..
شاب صغير يطلب مني وأنا أحمله أن نتوقف ليري ما حدث لساقه، فإذا به يشاهد الرصاصة مستقرة في عضلة قدمه اليسري، لا يصدق ويسألني: هل هذه رصاصة؟!.. وأجيب كاذبا: "لا"!.. يرفض أن ندخل المستشفي الميداني للعلاج بشارع الشيخ يوسف، استفسر عن السبب فيخبرني بأنه لا يحمل بطاقة (!).. أطمئنه: الرصاصة إثبات لشخصيتك.. فيقول: إذن هي رصاصة!
تمضي الساعات دون أمل في أن يكف أصحاب الزيّ الكاكي فوق المبني عن مهاجمتنا، فنعاود الهتاف بإسقاطهم!
نوافير الدماء تنتشر علي أجساد صغيرة، جاءت من كل مكان تقاوم بأذرع غضة وصدور مكشوفة هؤلاء الذين يصوبون عليهم الموت بأفئدة أشد قسوة من حجارة يستهدفون بها رؤوس الأطفال.
تتزايد الجموع وكلما حدث، وجدنا من يجبرنا علي التقهقر للخلف، بعد أن يطلق الرصاص، في الهواء، فإذا لم يفلح في مهمته، وجه فوهة البندقية إلي اللحم الحي لنجد من يقع بيننا فنسارع لننقله إلي المستشفي الميداني الذي يغص بالمصابين، وتتزايد فيه أعدادهم كل لحظة.
إنهاء مهمة المعتصمين وكسر إرادتهم وتلقينهم درسا قاسيا، أهداف حاول الجنود المتمركزون أعلي المبني تحقيقها بأسرع ما يمكن، لكن صلابة الثوار فوق الأرض لم تمكنهم من أوهامهم.
بائع الخوذات هذه المرة وجد ضالته في شارع تمطر فيه السماء الحجارة، بينما من لم يجد في جيبه ثمنا للخوذة يستخدم كل ما يتاح له ليحمي نفسه من الخطر؛ ألواح معدنية، وفوارغ كراتين، وغير ذلك، ومنهم من رأيت "حلّة" مقلوبة مثبته علي رأسه، وكأنه جاء مستعدا للمواجهة قبل أن يخرج من منزله.
اقتحام المبني الملحق بمجلس الشعب لم يكن هدفا للثوار، لكن اهتمامهم بإحراقه والقاء زجاجات المولوتوف داخل نوافذه وسيلة حاولوا من خلالها الإعلان عن تفوقهم في تدمير مكان يعتليه من يهديهم الموت بدم بارد.
هل ما زلتم تتحدثون عن نتائج انتخابات مجلس الشعب الذي يموت أمامه الآن الشعب!؟.. سؤال يستنكر به رجل بجانبي حديثا حول الانتخابات بدأ لتوه بين مجموعة من الشباب، أمام المستشفي الميداني.
"عفن في مقايضة وطن" أرددها في سري، وأنا أنضم إليهم لأشاركهم الحوار حول خطأ الثوار في مغادرتهم الميدان والذهاب إلي صناديق اقتراع أتت بمن لا يهمه إلا السلطة، في حين أن الثورة لم تحقق واحدا من أهدافها الستة.
مشاجرة علي القرب تجعلني أغادرهم، وقد لفتني طفل - في العاشرة من عمره تقريبا- يبكي بحرقة، وأمامه من يحاول أن يهدئ من روعه، يخبرني الصغير أنه بعد أن تعب من إلقاء الحجارة علي المبني، شعر بالجوع فجاء إلي هنا ليطلب علبة عصير، وبمجرد أن امتدت يده إليها، تلقي صفعة من هذا الرجل ليحرمه منها.. نفس الرجل الذي أشار إليه حاول امتصاص غضبي، وهو يقبل رأس الغلام الذي تتدفق علي وجهه دموع، جففتها بباطن كفيّ، فإذا ما عاد إليه الهدوء أسأله: منذ متي وأنت تشارك في المظاهرات..فيقول: منذ أيام "محمد محمود" التي اختنق فيها زملائي، أقبّل رأسه بدوري قبل أن يلمح ما يشبه الدموع في عيني.
كر وفر، ووقت يمر بين ثوار يتوافدون علي الشارع وجنود يواصلون إلقاء قطع الرخام من فوق السطح، بينما كاميرات تلاحق متظاهرين يحاولون تهشيم النوافذ الزجاجية لمبني مجلس الوزراء، فإذا ما لاحظ الناس ذلك حاولوا منعهم من نقل نصف الحقيقة التي يشير نصفها الآخر إلي طرف يعشعش فوق المبني الملحق بمجلس الشعب ويلحق بمواطنين إصابات أفضي بعضها للموت!
كان من الواضح أن هناك تجهيزات علي مستوي عالٍ لإطفاء أي حريق ينشب، وهو ما جعل أنابيب الإطفاء وخراطيم المياه تستخدم بسرعة ودقة متناهيتين كلما شبت النيران في أي جزء من المبنيين (مجلس الوزراء والمبني الملحق بمجلس الشعب)، وهو ما جعلني أندهش من عدم إقدام أحد من هؤلاء علي إطفاء الحريق الذي اندلع بمبني هيئة الطرق والكباري، ولم يتوقف حتي الساعات الأولي من صباح السبت..
(لعلك تلاحظ أن نفس التباطؤ تسبب في عدم إطفاء الحريق الذي شب بالمجمع العلمي المصري الذي وجد أيضا من لم يكترث به.)
من العشرات إلي المئات، تتزايد أعداد المصابين، لتبدأ سيارات الإسعاف في الظهور بكثافة لنقل المتظاهرين إلي المستشفيات، وتنال نصيبها من حجارة تصطدم بظهرها وهي تمرق في الشارع.
النساء والأطفال والشيوخ كانوا نجوم الموقعة التي نالت منهم، وتركت داخل أجسادهم جروحا في الروح لا يضمدها مستلزمات الطبية!
الحديث عن عملاء يقومون بتسليم المصابين إلي الأمن وجد من يستمع إليه في المستشفي الميداني الذي عملت لفترة فيه كجزء من حائط بشري يمنع المتطفلين من التزاحم بداخله، مما يعيق عمل الأطباء.
يقتحم المستشفي رجل ملتح وهو يمسك بأحد الممرضين ويتهمه بالتورط في الإرشاد عن الثوار، بينما يحاول الممرض أن يبرئ نفسه، الأطباء بدورهم نفوا التهمة عن زميلهم، لكن تلويح الشيخ بدليل قال إنه عبارة عن فيديو مصور للرجل وهو ينفذ مهمته، جعل من يتعاطف معه، ليبدأ التحقيق في الواقعة التي لم أعرف ما انتهت إليه بعد أن تعالي صراخ سيدة تبكي بحرقة علي الشباب الذين ينزفون أمامها وتدعو علي من كان السبب في احتراق أكباد أمهات الشهداء والمصابين..
الفضائيات تنقل الصورة علي الشاشات، بينما لا وجود لمسئول واحد يحاول اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يوقف حرب تخلف ضحايا بالمئات، وتمتد علي مدار ساعات.
الصمت تسيد الموقف علي مدار ما يقرب من يوم كامل لاشتباكات بدأت منذ الرابعة من فجر الجمعة ولم تنته إلا في الساعات الأولي من يوم السبت، وكأن ما يحدث - يجري في منطقة صحراوية نائية - لا يعلم به أحد، أوكأن المواجهات لم تتم في العاصمة أمام منشآت حيوية.
خالد ينزف !
نالت أخبار اليوم أيضا حظها من الاعتداء علي مصورها المغامر خالد عبد الوهاب، بعد أن تم القاء القبض عليه في ظهيرة يوم الجمعة الماضية أمام مبني مجلس الشعب، وهو يسجل بعدسته المميزة ما يحدث أمامه.
"طحنوني" بهذه الكلمة يصف لي خالد ما حدث له من ضرب مبرح، تنوع بين الركل بالأقدام والعصي التي انهالت علي جسده وأحدثت جرحا عميقا في رأسه.
يتذكر خالد كيف تم اقتياده إلي مبني مجلس الوزراء، بعد أن تم التحفظ علي كاميرته، بينما لم تفلح محاولاته اليائسة في إخبارهم بأنه مصور بأخبار اليوم جاء لممارسة عمله.
ومن مجلس الوزراء إلي مبني مجلس الشعب يتم وضعه في غرفه مع رفقائه المعتقلين ودم غزير ينزف من رأسه المصاب لمدة خمس ساعات، حاول فيها إقناعهم بأنه مريض بالسكر وهو ما يهدد بإنهاء حياته ولا حياة لمن تنادي..
لم يجد خالد في النهاية مفرا من أن يتصل برئيس تحرير الأخبار ياسر رزق ليطلعه علي ما حدث له، فيجري الأخير اتصالات بالجهات المختصة للإفراج عنه.
بمجرد مغادرته المكان يتجه خالد إلي مستشفي الهلال فيشير التقرير الطبي بعد الكشف عليه إلي قطع في الرأس طوله 6 سم مما استلزم عمل 4غرز للتجميل.
وفي قسم قصر النيل يقوم زميلنا بعمل محضر أحوال رقم 63ح أحوال قسم قصر النيل لسنة 1102 يتهم فيه القوات المسلحة بالاعتداء عليه.
يعود خالد إلي زملائه ليمحو عنهم القلق عليه، في الوقت الذي لا يجد المصور من يطمأنه علي "كاميرته" التي ظلت هناك في صحبة الجنود، لتفارقه بأمر عسكري.حبيبتي مصر:
لا تبكي عليّ، ووفري دموعك للفرح القادم، فالثورة ستنتصر، لقد رأيت هذا النصر بعيني قبل أن تجبرني الرصاصة الغادرة علي إغلاقهما.. شاهدت شباب التحرير يحتفلون في الشوارع والميادين، ولا وجود للرصاص، الورود هي التي كانت تعانق صدور أجهدها الغاز المسيل للدموع.
أنا هنا بين الأحبة، أفاخر بوطني، وأعانق شهداء سبقوني، واستقبل بترحاب شهداء جددا..
هنا لا وجود لجنود يحملون بنادق تصادر الحرية، هنا حرية خالدة ورزق من الله لا ينقطع..
يا بلادي المؤمنة: الشهداء أحياء عند ربهم، يجالسون الأنبياء والصديقين، فرحين بما عندهم، خالدين في مجدهم.
كان لا بد للأزهر أن يقول كلمته في الثورة، فكانت شهادتي الكلمة.. الدماء التي نزفت مني هي البلاغة في المعني.. وكانت الفتوي باستمرار الثورة.
يعز علي يا بلادي أن أفارقك، وابتعد عن أطفالي الذين كنت أصطحبهم للصلاة معي.. لا بد أنهم الآن مشتاقون لقبلاتي التي كنت لم أكن أكف عن منحها لهم، فاستوصي يا بلادي بأهلي خيرا، فوالله إني أحبهم، وحبك هو من حرمني منهم.
آمنت بحقك في حياة كريمة فخرجت مع الملايين إلي الميدان، أتحسس روحي كلما شاهدت بلطجيا يحمل سكينا، أو ضابطا يصوب بندقية، وكنت أعلم أنه لكل أجل كتاب.. هذا كتابي إليك يا وطني، أنقل لك فيه البشري.. صدقني حين أقول لك إن دماء الشهداء هي ما ستنتصر علي قاتليها، وأن الشعب الذي أراد الحياة سيقهر الطغاة، فكلمة الله هي العليا.
وإلي زوجتي الغالية أقول: اعتذر لأنني لم أكمل معك المشوار، أعرف أن تربية أربعة أطفال تحتاج إلي أب بجانب الأم، لكني أيضا أعرف أنك أم مصرية تحتمل البأس، وتؤمن بقضاء الله..
اصبري يا حبيبتي حتي نلتقي، ولقني الأولاد تلك الآية من القرآن يقولونها كلما افتقدوني وشعروا بالمصيبة : "إنا لله وإنا إليه راجعون"
هل تذكرين صوتي حين كان يصدح بالقرآن في منزلنا العامر بالإيمان.. تركت لك القرآن كتاب الله فاحتمي به كلما هاجمك الحنين، اجمعي حولك أطفالنا، اجعليهم يحفظون سورة "يس" ف "يس" لما قرئت له.
وإلي تلاميذي النجباء: إنه الجهاد أيها الأبناء، كتب علينا، ولم نتوار منه في بيوتنا، خرجنا إليه معطرين بحب الله، لننصر شبابا يسعون لعدل الله في أرض مشتاقة للعدل، لكن السماء كانت مشتاقة بدورها إلينا، فصعدت الروح إلي بارئها لتقول لربها: لا يملك صاحبي إلا هذه الروح ليهديها لك.
أيها الأحبة اقرأوا رسالة زميلكم أنس السلطان التي كتبها في رثائي، فقد كانت روحي تعانق روحه وهو يخطها، قرأها أمامي بعد أن انتهي منها وكنت أود لو أكفكف دموعه التي أغرقت وجهه وأحتضنه وهو يتلو:
"دمك لعنة علي قاتليك يا شيخ عماد، دمك لعنة علي العسكر ولاعقي بياداتهم.. دمك لعنة علي الجالسين في بيوتهم يكتفون باتهامات موزعة علي الجميع.. دمك لعنة علي من يجعلون الانتخابات والمحافظة عليها ذريعة لترك شهدائنا يموتون ثم يكتفون بالبيانات.. دمك يا شيخ عماد حجة علي زمانك كما كان دم جدك الإمام الحسين حجة علي زمانه.. وإنا نعاهدك يا شيخنا إنا علي دربك حتي نلقاك إن شاء الله".
وإلي أهل مصر: انصروا شهداءكم، فوالله لو لم أكن أعلم أن الشهادة هي غاية كل مؤمن ما دعوت الله أن يرزقني بها وأنا في الحج أطوف بالبيت، تمنيت علي الله أن أنالها بين الثوار فحقق الله لي ما أريد..
ولا أريد لكم في نهاية رسالتي إلا الخير.. فالحمد لله الذي رزقني الخير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حاشية
حصل الشيخ عماد الدين عفت علي ليسانس اللغة العربية من كلية الآداب جامعة عين شمس، وليسانس الشريعة الإسلامية من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، ودبلومة الفقه الإسلامي العام من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر ودبلومة الشريعة الإسلامية من كلية دار العلوم بالقاهرة.وكان يتولي منصب مدير إدارة الحساب الشرعي بدار الإفتاء المصرية، وعضو لجنة الفتوي بها، بعد أن كان رئيس الفتوي المكتوبة بالدار
استشهد الشيخ عفت، بطلق ناري أصاب قلبه من جهة ليخرج من الجهة الأخري، بشارع مجلس الوزراء أثناء الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات من الجيش والأمن، وقد أتم عامه ال 25 في أغسطس الماضي.
رحم الله تعالي الشيخ، وأسكنه مع الشهداء الأبرار فسيح جناته وحرر الوطن من الفاسدين والظالمين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.