لأنه كان صاحب السبق في التأسيس لعلم الاجتماع؛ انصبت اهتمامات المفكرين والباحثين على الإسهام الفكري لابن خلدون في جوانبه الاجتماعية وما يتعلق بها من ظاهرات، وما وضعه ابن خلدون من قوانين ومبادئ حاول من خلالها تفسير تلك الظاهرات وارتباطها وتراتبها بهدف الوصول إلى رؤية شاملة يمكن من خلالها دفع تلك المجتمعات نحو التقدم والتطور بالتماس أسبابه، ومجانبة كل ما يمكن أن يحول دون امتلاك أسباب القوة، أو ما يؤدي إلى الضعف والاضمحلال، وكان من الطبيعي أن ينظر ابن خلدون إلى الإنسان الذي هو أصل المجتمع ولبنته الأولى باعتباره الأولى بالاهتمام؛ لتوفير كل السبل من أجل أن تتاح له الفرص لينشط فكره؛ فيكتسب من الأخلاق والعلوم والمعارف والمهارات ما يؤهله لحياة طيبة في مجتمع راق متحضر يليق به. وقد رأى ابن خلدون أن العلوم التي يجب على الإنسان أن يجدَّ في طلبها تنقسم إلى قسمين: علوم نقلية وهي التي تستند إلى الخبر من مصدره الشرعي كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه، وعلوم عقلية كالمنطق والطبيعة والميتافيزيقا والرياضيات ونحوها. وقد صنف ابن خلدون العلوم بحسب أهميتها فبدأ بالعلوم الدينية ثم أتبعها بالعلوم العقلية، ثم العلوم الآلية المساعدة للعلوم الدينية مثل اللغة والنحو والبلاغة، ثم المساعدة للعلوم العقلية كعلم المنطق، وهو ينطلق من مبدأ يقول بقصور العقل البشري عن بلوغ درجات الاستيعاب لكثير من الأمور، كما أن هناك تفاوت في القدرة العقلية بين الناس، وهو يعزو كثيرا مما أصاب العقل من قصور إلى كثرة التآليف وتضمنها للعديد من المصطلحات غير المتفق عليها بين العلماء؛ مما يصعب مهمة المتعلم، ويتسبب في انصرافه عن طلب العلم، وفي هذا يقول ابن خلدون" اعلم أنَّه مما أضرَّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم, وتعدد طرقها, ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك". كما أشار إلى أنَّ تعدد الطرائق في العلم الواحد وشغل الطالب بمعرفتها جميعا يعد من قبيل إهدار الوقت والجهد، وهو في ذلك يراعي الفروق الفردية بين الطلاب، وينبه إلى عدم الإثقال عليهم بما لا يحسن جمعه، ولا يجمل إهدار الطاقة فيه، وهو يؤكد في السياق ذاته على أهمية زيادة الدافعية لدى الطلاب، والبحث المتجدد عن عوامل محفزة بهدف مواصلة التحصيل، ومما نبه إليه ابن خلدون اعتماد مبدأ التدرج في التعليم، فيكون الانتقال من الأيسر إلى الأصعب، ومن البسيط على المركب، ومن المحسوس إلى المجرد. في دراسة عنوانها " معالم تربوية عند ابن خلدون" يحدد د. عبد العزيز قريش فكر ابن خلدون التربوي في عدد من المبادئ والقوانين؛ فالمبدأ الأول يقوم لديه على اعتبار أن الفكر الإنساني هو الذي يفرق بين الإنسان، وبقية المخلوقات، وهو مصدر قوته وأداة فهمه لذاته ومحيطه، وهو منبع العلوم ومنشأ الصنائع كما أنَّه سبيله إلى السيطرة على العالم من حوله، وتسخير الحيوانات لخدمته".. ثم إن فكره ونظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق، وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد الآخر، ويتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له، فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا. وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك، فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا". أما المبدأ الثاني فمتعلق بكون العلم والتعليم طابع إنساني داخل المجتمع، وهو خصيصة إنسانية تقوم على الفكر واللغة، وهما لا يوجدان خارج المجتمع الإنساني. يقوم المبدأ التربوي الثالث لدى ابن خلدون على أساس ارتباط العلوم والإدراكات بالمحسوسات؛ لذلك يجب أن ينطلق العلم من الواقعي ليبتعد عنه ما دامت المعرفة ليست هي الملاحظة الحسية، وفي هذا يقول" النفس الناطقة للإنسان، إنَّما توجد فيه بالقوة. وأن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا؛ ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا؛ فتكون ذاتا روحانية وتستكمل حينئذ وجودها". أما المبدأ الرابع فيقوم على اعتبار التعليم والتربية من الصنائع التي يجب أن تتوفر لها الكفاءة اللازمة من الجانبين النظري والعملي عبر البحث المعمق والدراسة المستفيضة والتدريب المستمر، ولا يكون الإتقان إلا بهذا الكيف، ولا تعويل على أي نتائج تحصَّل عن عشوائية وارتجال، فالتربية والتعليم لا يقومان إلا على المعرفة الدقيقة التي تصل بالمتعلم إلى درجة الحذق، وهي درجة لا تحصل بالفهم والوعي فقط فهي أمور قد يشترك فيها المتقدمون والمتأخرون والعامة والمتعلمون. أما القوانين التي وضعها ابن خلدون في هذا الشأن فقد استقر الرأي على انها ستة قوانين، وقد ذهب البعض إلى إنها أكثر من ذلك، لكن د. قريش يرى أنها ستة قوانين أساسية لم يجد غيرها، وأما من وجد غيرها، فلربما توهَّم ذلك لالتحاقها بها من حيث الأصل. أما القانون الأول فيتحدث عن وجوب الانتقال من المحسوس إلى المجرد بهدف أن يتسنى للذاكرة طويلة المدى الاحتفاظ بمخزونها مما يتيح استدعاءه بسرعة بتنشيط الارتباطات الحسية التي صاحبت عملية اكتسابه. ويشير القانون الثاني إلى أن جودة نظام التعليم وجودة تكوين المعلم لهما دخل في جودة تعلم المتعلم، وفي ذلك يقول ابن خلدون" وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته". أما القانون الثالث فيتناول ضرورة تقديم البسيط على المركب والمعقد، ورعايته حتى يكتمل! وذلك لاختصاص البسيط بالضروريات، والمركب بالكماليات حسب تعبير ابن خلدون، ويتحدث القانون الرابع عن التدرج في التعليم، وما له من أهمية، ذلك لأنَّ العلم لا يحصل دفعة واحدة. يقول ابن خلدون" أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنَّما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم". يتناول القانون الخامس مدارسة المتن التعليمي بين الأستاذ والمتعلم؛ حتى يتمكن المتعلم من العلم، فقد رأى ابن خلدون غياب الأستاذ الحذق وفساد النظام التعليمي مدخلا إلى النتائج السلبية في حاصل التعليم الذي يعتمد أساسا على الحفظ فقط. وهذا القانون من أهم القوانين التي وضعها ابن خلدون؛ لأن العلم لا يطلب إلا بالمدارسة ولا يثبت إلا بالمشاورة ولا يتحقق إلا بالمناظرة، ولعله لاحظ انصراف كثير من الطلاب عن حلقات العلم إلى مطالعة الكتب منفردين، وما جره ذلك الأمر على الأمة من وبال التخلف، وشيوع الشاذ من الآراء والأفكار والوقوع في أخطاء التصحيف ونحوها. يؤكد القانون السادس على أهمية ملاحظة استعدادات الطلاب، ومقدرتهم العقلية، ومناسبة ما يدرسون لمراحل نموهم، كما يشدد على أنَّ المعلم لابد أن يكون عالما بقدرات طلابه ومراحل نموهم حتى لا يحملهم ما لا يطيقون، وحتى يستطيع اختيار ما يناسبهم من طرق الشرح والتدريس، وبالقطع فإنَّ التوجيه الأكبر في هذا القانون يكون إلى من يتصدون لوضع المناهج والمقررات الدراسية، فما زالت الشكوى من عدم مناسبة المناهج لقدرات الطلاب ومراحل نموهم تتردد حتى يومنا هذا. إن اهتمام ابن خلدون بتلك الجوانب التربوية لم يكن قاصرا على قسم من أقسام مقدمته، إذ لا يخلو قسم فيها من إشارات وإضاءات تربوية هامة، لا تتفق فحسب مع أحدث نظريات التربية؛ لكنها أيضا لا تخلو من إسهام فريد غير مستفاد منه على الوجه المستحق؛ لذلك من المتوجب على المهتمين بالشأن التربوي في عالمنا العربي أن يعيدوا اكتشاف منهج ابن خلدون في التربية إذ يتوفر على صلاحية كبيرة للتصدي لكثير من مشكلات التربية التي نفتقر إلى حلول ناجعة لها حتى اليوم.