محافظ الجيزة يتابع أعمال غلق لجان انتخابات مجلس النواب في اليوم الأول لجولة الإعادة    الجزائر تدين بأشد العبارات الاحتلال الإسرائيلي لاعترافه بإقليم أرض الصومال    فرنسا ترحب باتفاق وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا    بسبب خلافات عائليه.... العثور على جثة شاب ثلاثينى مشنوقًا داخل منزله بالمنيا    فتح المطارات للاستثمار |شراكة تشغيلية مع القطاع الخاص دون المساس بالسيادة    ضبط شخص يوزع مبالغ مالية لشراء أصوات الناخبين بسوهاج    ارتفاع مفاجئ في سعر الذهب.. عيار 24 يسجل 6943 جنيها للجرام    موعد مباراة الزمالك وبلدية المحلة في كأس مصر    النصر يحطم أرقام دوري روشن بانطلاقة تاريخية بعد ثلاثية الأخدود    الأهلي يفوز على الكويت الكويتي ويتوج بالبطولة العربية لكرة الماء    حزم بالجمارك والضرائب العقارية قريبًا لتخفيف الأعباء على المستثمرين والمواطنين    يسرا ناعية داوود عبد السيد.. «هفضل فكراك بضحكتك وحكاياتك»    بشير عبدالفتاح: إسرائيل تسعى إلى تموضع عسكرى فى صومالى لاند    رجال السياسة والفن والإعلام يحضرون العرض الخاص لفيلم الملحد    سهر الصايغ وعمرو عبد الجليل يتعاقدان على «إعلام وراثة» | رمضان 2026    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    نيجيريا ضد تونس .. نسور قرطاج بالقوة الضاربة فى كأس أمم أفريقيا    كواليس الاجتماعات السرية قبل النكسة.. قنديل: عبد الناصر حدد موعد الضربة وعامر رد بهو كان نبي؟    خبيرة تكشف طرق الاختيار السليم للزواج وتوقعات الأبراج 2026    218 فعالية و59 ألف مستفيد.. حصاد مديرية الشباب والرياضة بالمنيا خلال 2025    وزير الصحة يكرم الزميل عاطف السيد تقديرًا لدوره في تغطية ملف الشئون الصحية    النائب أحمد سيد: السياحة قضية أمن قومي وصناعة استراتيجية تقود الاقتصاد الوطني    موجة جوية غير مستقرة بشمال سيناء تتسبب بإغلاق ميناء العريش    الجيش السوداني يعلن استعادة السيطرة على منطقة الداكنوج بكردفان    عظمة على عظمة    تأجيل قضية فتى الدارك ويب المتهم بقتل طفل شبرا الخيمة لجلسة 24 يناير    تعليم العاصمة تعلن انطلاق البث المباشر لمراجعات الشهادة الإعدادية    معهد بحوث البترول وجامعة بورسعيد يوقعان اتفاقية تعاون استراتيجية لدعم التنمية والابتكار    خبير نووى: الأوروبيون فقدوا أوراق الضغط وإيران تتحرك بحرية فى ملف التخصيب    الدفاعات الجوية الروسية تسقط 111 مُسيرة أوكرانية خلال 3 ساعات    جهود لإنقاذ طفل سقط في بئر مياه شمالي غزة    مسؤول سابق بالخارجية الأمريكية: واشنطن لن تسمح لإسرائيل بشن هجوم على إيران    ألمانيا تغلق مطار هانوفر بعد رصد مسيرات في مجاله الجوي    إقبال كثيف للناخبين للإدلاء بأصواتهم في انتخابات البرلمان بقرى مركز سوهاج    صادر له قرار هدم منذ 22 عاما.. النيابة تطلب تحريات تحطم سيارة إثر انهيار عقار بجمرك الإسكندرية    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    وزير الطاقة بجيبوتي: محطة الطاقة الشمسية في عرتا شهادة على عمق الشراكة مع مصر    يصيب بالجلطات ويُعرض القلب للخطر، جمال شعبان يحذر من التعرض للبرد الشديد    السجن 10 أعوام وغرامة 50 ألف جنيه لمتهم بحيازة مخدرات وسلاح ناري بالإسكندرية    جولة في غرفة ملابس الأهلي قبل مواجهة المصرية للاتصالات بكأس مصر    شوربة شوفان باللبن والخضار، بديل خفيف للعشاء المتأخر    بعزيمته قبل خطواته.. العم بهي الدين يتحدى العجز ويشارك في الانتخابات البرلمانية بدشنا في قنا    عمومية الطائرة تعتمد بالإجماع تعديلات لائحة النظام الأساسي وفق قانون الرياضة الجديد    الدكتور أحمد يحيى يشارك باحتفالية ميثاق التطوع ويؤكد: العمل الأهلى منظومة تنموية    الأرصاد: السحب تتشكل على جنوب الوجه البحري وتتجه للقاهرة وتوقعات بسقوط أمطار    الرقابة المالية تصدر نموذج وثيقة تأمين سند الملكية العقارية في مصر    تعذر وصول رئيس اللجنة 40 بمركز إيتاي البارود لتعرضه لحادث    افتتاح مشروعات تعليمية وخدمية في جامعة بورسعيد بتكلفة 436 مليون جنيه    27 ديسمبر 2025.. أسعار الحديد والاسمنت بالمصانع المحلية اليوم    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    موعد مباراة السنغال والكونغو الديمقراطية بأمم أفريقيا.. والقنوات الناقلة    المستشفيات الجامعية تقدم خدمات طبية ل 32 مليون مواطن خلال 2025    الصحة: فحص 9 ملايين و759 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر وعلاج فقدان السمع لدى حديثي الولادة    عشرات الشباب يصطفون أمام لجان دائرة الرمل في أول أيام إعادة انتخابات النواب 2025    فلافيو: الفراعنة مرشحون للقب أفريقيا وشيكوبانزا يحتاج ثقة جمهور الزمالك    زاهي حواس يرد على وسيم السيسي: كان من الممكن أتحرك قضائيا ضده    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استراتيجية الأمن الفكري وعقلنة التعليم (3-3)
نشر في البديل يوم 10 - 05 - 2013


رابعا : المدخل النصي التقليدي :
لعل هذا من أكثر المدخلات التي تلعب دورا كبيرا في تشكيل الرؤية العقدية لاتباع الأديان بمختلف اتجاهاتها ، وأيضا هو الذي يكوّن العقلية التراثية في كافة المجتمعات ، هو المدخل النصي ، والمقصود من المدخل النصي هو أن يتم الحكم على الواقع من خلال النصوص القولية المكتوبة أو الملفوظة دون أن يكون للعقل فاعلية في انتاجه ، وإنما يأخذه مسلما من مضامين النصوص لاعتقاده المسبق بكاشفيتها عن الواقع للثقة بقائلها ، اما ثقة مطلقة كالأخذ بالنصوص ذات الصبغة القدسية ، او ثقة نسبية كالأخذ من النصوص التأريخية أو الأقاويل الصادرة عن الشخصيات التي لها دور في تنشأته كالأب والاستاذ والشيخ ...
والكلام في اعتماد هذه المدخلات كمناهج معرفية لتشكيل رؤيتنا الفلسفية والدينية ، فما هي قيمتها المعرفية ؟ وما مدى قابليتها على توفير المادة المعرفية التي من خلالها تتشكل رؤيتنا الفلسفية والعقدية .
اختلف اصحاب المدارس الفلسفية والكلامية في تحديد ذلك ، فمفكروا الغرب بشكل عام اتجهوا اتجاها حسيا ظاهريا ، معتبرين أن كافة المعارف التي تتحقق لدينا ليس لها واقعية ولا اعتبار علمي مالم تقاس بالمقياس الحسي الظاهري ، ولذا فإن مسائل الميتافيزقيا الدينية ليس لها قيمة معرفية عندهم لأنها غير قابلة للاثبات الحسي التجريبي ، بل أن بعضهم جعلها من الهراء الذي لا يتصف بالصدق ولا بالكذب .
أما اتباع الأديان بصورة عامة فعدوا الطريق الذي يمكن أن يؤمن لهم الواقع هو النصوص الدينية لأنها حسب رؤيتهم مقدسة منزهة عن الخطأ والكذب .
واصحاب السلوك الصوفي العرفاني اعتمدوا على أداة الحس الباطن (القلب) فظنوا أن كل معرفة يستطيع أن يحصل عليها الإنسان بمجرد أن يتوجه بقلبه إلى جهة النور (الله) بعد جلاء وتخلية وتحلية ولا توجد معرفة حقيقية إلا من هذا الطريق ، وكل معرفة بغيره فهي عبارة عن رسوم للحقائق لا نفس الحقائق.
واختلفت فلاسفة الاسلام في تبنيهم طرق ومناهج المعرفة فأنقسموا على ثلاثة مدارس:
المدرسة المشائية : وروادها الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد ... وآخرهم السيد الداماد ، حيث التزموا تبعا لارسطو العقل البرهاني لإثبات مسائل الرؤية الفلسفية .
المدرسة الاشراقية: ورائدها شيخ الاشراق السهروردي ، وقد لفقت هذه المدرسة بين منهجين كل على حدة المنهج العقل البرهاني ، ومنهج الكشف الشهودي ، وذهبوا إلى أن ما يحصل بالكشف الشهودي لا يمكن أن يناله العقل البرهاني.
مدرسة الحكمة المتعالية: ورائدها صدر الدين الشيرازي ، والذي لفق بين ثلاثة مناهج ، المنهج العقلي البرهاني ، والمنهج الكشفي الشهودي ، والمنهج النصي الديني .
وبنحو اجمالي أن المنهج الواقعي الذي يجعل من العقل الإنساني فاعلا في بناء رؤيته الفلسفية والعقدية هو المنهج العقلي ، واعتماد المنهج العقلي , لا يعني اعتماد مدخل العقل فحسب وإلغاء وتهميش الأدوات المعرفية الإخرى ، بل المقصود هو أن تكون الحاكمية في مملكة الإنسان للعقل ويستخدم كافة المدخلات في أحكامه كل في دائرته ومجاله.
فالعقل حكيم لا يستخدم أي أداة من تلك الأدوات إلا في موضعها المناسب ، بمعنى أنه حينما يتعلق الأمر بإثبات شيء حسي لا يعتزل الواقع الحسي ويهمل مدخلاته الحسية ويحكم بمقتضيات العقل البرهاني ، وحينما يتعلق الأمر بحكم شرعي فإنه يدرك عدم قدرته على نيل ملاكات الأحكام الواقعية بنفسه ، لعلمه المسبق بأن ملاكات الأحكام بيد مشرعها ، سواء أكان المشرع هو الخالق أو البشر ، لذا فإنه يستعين بالنص القانوني أو الديني الذي أثبت حجيته واحقيته في مرحلة سابقة ، فيحكم بناء على ما ثبت بالنص القانوني أو الديني ما ينبغي فعله أو ما ينبغي تركه ...
فالحاكم بناء على المنهج العقلي واحد وهو العقل ، ولكن يحكم بمستويات مختلفة ، المستوى الحسي ، والمستوى النصي ، والمستوى العقل البرهاني .
وعلى هذا يحصل الإنسجام التام بين المناهج والمدخلات المعرفية دون طغيان بعضها على بعض ، وتعمل جميعها على توفير كافة المعطيات الصالحة لتشكيل رؤية فلسفية واقعية بعيدة عن إفراط الخرافة الاسطورية وتفريط المادية ذات النزعة الحسية، فمن يبني رؤيته على اساس النصوص الدينية دون العودة إلى العقل وتحكيمه في متشابهاتها ، ولا يرجع للحس في أطار المحسوسات والتجريبيات ، فمما لا شك فيه يقع في شرك الأوهام والخرافات وبالتالي يعجز عن مقارعة الحجة لضعف الطالب والمطلوب ، فينكفأ على ذاته ثم أنه يلجأ إلى منطق التكفير للدفاع عن معتقداته ، وبالتالي ينجر الأمر إلى اراقة الدماء والأرهاب السلوكي ، لأنه حسب تصوره وما فهمه وفق قراءته للنصوص يفترض أنه يطابق الواقع ومن يخالفه يستحق القتل والإزالة من الطريق كي لا يسبب له تشويشا غير قادر على دفعه.
وأما من يعتمد الحس لإثبات الواقع وتحصيل رؤيته الفلسفية ، فهو لا يختلف كثيرا عمن يعتمد النص ويتعصب له ، فأنى للحس أن يثبت أو ينفي وجود عالم ما وراء المحسوسات ، لأن نفي عالم ما وراء الطبيعة مغالطة يرفضها العقل ومن يحكم بذلك إنما يلغي عقله ويناقضه ، وإلغاء العقل إلغاء لجميع أحكامه بما في ذلك الأحكام الحسية ، فالحكم بأن القلم الذي في قدح الماء غير مكسور مثلا مع أننا نحسه ببصرنا مكسورا إنما هو حكم العقل ، فالحس ينقله لنا مكسورا كما هو في الواقع الحسي ، غير أن العقل هو من يدرك أن ما ينقله الحس خاضع لشروط هي التي جعلت منه مكسورا .
على هذا لابد من تفعيل دور العقل وجعله محورا في إنشاء رؤيتنا الفلسفية ، وإذا ما اعتمدنا هذا المنهج في ذلك ، فقد وضعنا أهم لبنة من بناء الأمن الفكري ، لأن الذي يعتمد هذا المنهج من غير الممكن أن يحصل له تزلزل في رؤيته من جهة ومن جهة أخرى أنه يتوفر على ضوابط منطقية في حواره مع الآخر يتسع افقها بسعة العقل واحكامه الذي هو العامل المشترك الحقيقي بين كافة البشر .
فلو استطاع كل إنسان أن يتجرد من مسبقاته وموروثاته الثقافية التي قذفت بها يد الاقدار والاسباب الاتفاقية ، فنوعت الناس إلى مسلمين ومسيحيين ، ويهود ، وبوذيين ، وطوائف مختلفة ، لم يكن لهم أمر اختيارها ، لأنها فرضت عليهم من آبائهم واعتنقوها بنزعة تقليدية نصية ، فإن هؤلاء لو تجردوا ونفضوا عن انفسهم تلك التراكمات سواء كانت حقا أم باطلا ، وعادوا إلى حالة العقل لاتضح لهم سبيل الرشاد دون عناء ، ولأرسى العقائد الحقة على أساس متين غير قابل للتزلزل ، فيبني أمنه الفكري واستقراره النفسي.
فالمنهج العقلي هو الطريق الأمثل لصنع الفكرة المركزية ، وهو الحصن الذي يحفظها من الاندثار ، وهو الذي يقف أمام السجالات ، وهو من يدفع التشويش مهما كانت قدرته .
فعليه تكون الآلية المتبعة لتحقيق الأمن الفكري المحكم هو اعتماد هذا المنهج واللجوء إليه في بناء رؤية الفرد والمجتمع الفلسفية ، دون الحاجة إلى تكثيف الشعارات والممارسات الاقصائية في معالجة الفكر الآخر ولا داعي إلى مايسمى بأسلمة أو أدينة المناهج التعليمية الأكاديمية لنخلق جيلا يحمل القيم والأخلاق الحميدة ويسعى لتحقيق المصالح العامة للمجتمع.
أما آلية تفعيل هذه الآلية سوف نشير إلى أن من أهم تلك العناصر لتفعيلها هي مجال التربية والتعليم الأكاديمي ، ولكي يتضح ذلك سوف تكون لنا وقفه على واقع التعليم بنحو اجمالي ومن ثم نضع الآليات التفعيلية للمنهج العقلي في اطار التربية والتعليم .
والمحصلة أن أهم ما يحقق الأمن الفكري أمران : الأول : طبيعة نفس الفكرة أو الرؤية الفلسفية ومدى واقعيتها وبعدها عن الخرافة ، والثاني: الآليات المتبعة في نيل وترسيخ الرؤية الفلسفية في إذهان الناس .
التحديات وسبل معالجتها:
التحديات التي تواجه إقرار استراتيجية الأمن الفكري قد تكون داخلية وقد تكون خارجية ، وكلا الأمرين يستهدفان زعزعة الأمن الفكري من خلال التشويش على الفكرة المركزية ، المستتبع لتزلزل الإيمان بها وموتها بعد ذلك ليقوم على أنقاضها افكار بديلة قد تشكل خطورة تمزيق المجتمع وانهيار بنيانه ووحدته .
التحديات الداخلية :
التحدي الأول : من أهم التحديات الداخلية التي قد تقف حائلا دون تحقيق الأمن الفكري هو مدى متانة العلاقة الذهنية بالفكرة المركزية والرؤية الفلسفية، فالرؤية الناشئة من التقليد النصي من أضعف أنواع العلاقات المعرفية ، بالتالي فهي واقعة تحت تهديد التزلزل والزوال باستمرار ، ومن هنا نجد أن من كون منظومته الفكرية عن هذا الطريق يبتلي بالتعصب والتشدد ، لأنه يخشى زوالها لعدم قدرته العقلية للدفاع عنها حيث أنها لم تحصل من اسباب موضوعية ، فهو كمن يمتلك أرضا من غير سند قانوني ، بمجرد أن يشكك احد في ملكيته يتعصب لأنه لا يمتلك ما يثبت ذلك.
وأما الرؤية المبنية على أساس الحس ، فهي وإن كانت سليمة في اطار الحس والظواهر الحسية ، بيد أنها لا تتعدى دائرة المحسوسات ، فليس من شأن الحس إثبات أو نفي ما وراء ظواهر المحسوسات ، وبالتالي فإن الحس قاصر عن تأمين رؤية فلسفية تامة .
وهذا ما تورطت به المجتمعات الغربية والحصيلة أن هناك تقدما على المستوى المادي الحسي، غير أن تراجعا كبيرا في المستوى القيمي الأخلاقي ، وضعف في النسيج المجتمعي على مستوى الأسرة والمجتمع ، مضافا إلى القلق وفقدان الاستقرار النفسي الذي يتمتع به من يؤمن بعالم ماوراء الطبيعة ، وبالتالي أي فقدان على صعيد المادة يؤدي به إلى تعاسة كبيرة لا يتحملها بعض الأفراد فيقعون في حالة من الأكتئاب قد تنتهي في بعض الأحيان بالانتحار ، كما أن من يؤمن بهذه الرؤية لا يرى في واقع الأمر أي قيمة للمعنويات وبالتالي لا يتفاعل مع المصالح العامة للمجتمع إلا بقدر ما تضمن له مصالحه الشخصية ، فعامل التضحية يكاد يكون معدوما في مثل هذه المجتمعات .
وأما الرؤية المبتنية على أداة القلب والكشف فمع تسليم إمكانها ، فإنها لا تحصل بهذا الطريق إلا لبعض الخواص من البشر ، مضافا إلى عدم إثبات القيمة المعرفية لهذه الأداة بمنأى عن الوسائل الأخرى النصية أو العقلية ، ثم أن ثمة مشكلة في تفسير ما يحصل بمثل هذا الطريق ، كما أنه لا يتحقق شيء على الصعيد الاجتماعي ، إنما تؤدي هذه الرؤية وهذه الطريقة إلى الفردانية والزهد في اقامة الاجتماع والنظم الاجتماعية .
أما بناء على الطريق العقلي كما ذكرنا فإن العلاقة الذهنية بالرؤية الناشئة من هذا الطريق تكون متينة لها القدرة على الاستمرار نابضة بالحياة لأنها تولدت في الذهن بشكل طبيعي من أسبابها الموضوعية ووفق القوانين العقلية ، فليست هي دخيلة على واقع الذهن وبالتالي لا توجد هناك غرابة بين الواقعين ، وبهذا المنهج يمكن تجاوز التحدي الأول.
التحدي الثاني : من التحديات الداخلية الاستعداد النفسي لتقبل نصب مفعلات الأمن الفكري في الذهنية المجتمعية ، فإن المجتمع بعدما قطع شوطا كبيرا من مسيرته تحت مظلة النص و حكم الحس ، فقد تكوّنت عقليته بين هذين الفكين ، ولذا نحتاج إلى جهود جبارة تتضافر فيها كافة الجهود من المؤسسات الرسمية الحكومية وغير الرسمية للعمل على تهيئة النفوس لتقبل المنهج العقلي الذي هو الأداة المثلى لنصب المفعلات العقلية لتعزيز الأمن الفكري لدى أفراد المجتمع ، فالخطوة الأولى هو توعية النخب المثقفة والكوادر التعليمية على المنهج العقلي لكي يحصل التفاعل معه ومن ثم ينزل إلى المجتمع بشكل تدريجي ، حسب الخطة المرسومة ضمن مشروع حضاري كبير.
التحدي الثالث : أن عقول الناس تتأثر سلبا وإيجابا بالسلوك العام للراعين والمتبنين للمشروع الفكري الذي يراد للناس اعتناقه والعمل على طبقه ، فمثلا من لديه مشروع ديني لابد أن يكون متدينا بالمقدار المقنع حتى يمكن أن يؤثر في الناس ويديم اعتناقهم لهذا الدين ، وفي الواقع نحتاج في مثل هذا الأمر لوجود إنسان معصوم ، وليس يتحرك بيننا معصوم ظاهر وبالتالي في حال صدور أي سلوك من المتبنين يتنافى مع مفاهيم وقيم ذلك الدين فإنه ينعكس سلبا على مواقفهم تجاه ذلك المشروع برمته ، وتكون ردة فعلهم شديدة ؛ لأن الناس سلمت عقولها بناء على ثقتهم واطمئنانهم بمن يمثل هذا المشروع الفكري ، والناس بطبيعتها العرفية العامية تحتاج إلى مثال محسوس لتمثيل الأفكار التي يدعى صدقها
وعلى كل حال المعالجة الحقيقية لمثل هذا التحدي يكمن في ارساء المنهج العقلي ، لإن الناس لا تحتاج إلى تسليم عقولها ، بل أن عقولهم سوف تكون فاعلة في بناء الرؤية الفلسفية دون الحاجة إلى تمثل حقيقة رمزية خارجية تتأثر بسلوكها ، فوجود الرمز الديني بعد ذلك يكون دوره تكميلي وتتميمي لا تأسيسي ، والدور التكميلي هو ايصال الإنسان إلى المقامات التي لايمكنه الوصول إليها بنفسه وبعقله.
التحدي الرابع : الثنائيات الفكرية ، وقد تقدمت الاشارة إليها ، فهي عبارة عن افكار خاملة في الذهنية المجتمعية ، وتكون كخلايا نائمة تنتظر انهيار الفكرة المركزية لتقوم على انقاضها ، فتقسم المجتمع وتنشأ عقود وعلاقات اجتماعية جديدة قد تكون أوسع أو اضيق من الحالة السابقة ، مثلا في المجتمع الاسلامي الذي يحمل الاسلام فكرا له اولوية ، غير أن هذا الفكر يهدد بالثنائيات الطائفية أو القومية أو حتى المناطقية ، وفي بعض الاحيان تعمل السلطة على اثارة تلك الثنائيات حينما تتعرض لخطر التمرد من بعض المكونات فتثير النعرة الطائفية أو القومية أو المناطقية للسيطرة على الأوضاع وقمع المتمردين .
وهذه الثنائيات في اطار حكومة العقل والمنهج العقلي لا امل لها في الاستنهاض ، فإن الذهنية التي تعتمد القوانين المنطقية والعقلية في تعاملها مع الأفكار لا تترك مجالا لوجود مثل هذه الثنائيات فضلا عن خطر قيامها مقام الفكرة المركزية .
التحديات الخارجية :
لعل من اخطر التحديات الخارجية تهديدا للأمن الفكري هي وسائل الاعلام بكل اشكالها المرئية والمسموعة والمقروئه ، فإن هذا من شأنه أن يغير الكثير من مفاهيم الإنسان وقناعاته ، وبالتالي تكون الفكرة المركزية والرؤية الفلسفية في معرض التبدد والزوال ، فالعدو يعمل ليل نهار لايجاد خلخلة في الأمن الفكري الذي يترتب عليه اضطرابا في الامن الاجتماعي وبالتالي تفتت هذا المجتمع وتحويله إلى كانتونات صغيرة سهلة الابتلاع ، وقد يعبر عن هذا الاسلوب بالغزو الثقافي.
وهذا التحدي يمكن أن يشكل قلقا كبيرا في مثل المجتمعات التي اسست فكرها ورؤيتها بطريقة تقليدية نصية ، ولذا فإن بعض الدول المؤدلجة وفق رؤية دينية أو فلسفية معينة وجدت طريقها إلى أذهان الناس عن طريق رفع الشعارات والتعبئة التلقينية وفرضها بوسائل تعسفية وممارسات قهرية ، فتلجأ هذه الحكومات أو مؤسساتها المعنية بهذا المجال إلى اعتماد آلية تكميم الأفواه وصم الآذان من خلال اعتقالات مستمرة لاصحاب الأفكار المناوئه ، ومنع تداول او الاطلاع على أي وسيلة من شأنها أن تحمل ما يخالف تلك الرؤية ، ثم تقوم بتكثيف شعاراتها ، وتضمينها ضمن وسائل مختلفة خصوصا في مجال التربية والتعليم ، فيصبح هناك أدينة أو أدلجة إن صح التعبير للمناهج التعليمة والثقافة العامة ، الأمر الذي يصبح مملا ومزعجا ، وهذا ما نراه ونشاهده اليوم في بعض البلدان ذات الصبغة الدينية أو الفلسفية الخاصة ، والتي تعتمد طريقة التلقين الساذج.
أما بناء على تبني المنهج العقلي وتفاعله مع الذهنية المجتمعية ، الذي يبدأ من تشييد عملية التفكير والتركيز على وضع الضوابط والموازين الفكرية ، فإننا لا نحتاج إلى كل هذا العناء ، لأن الناس سوف تكون عقولهم مجهزة بما يمنع من تسرب كل ما لا يتصف بصبغة منطقية ، فالعشوائية الفكرية لا تجد طريقها إلى عقولهم المنضبطة وفق قواعد وقوانين المنهج العقلي الصارم .
الفصل الثالث : التعليم ورؤية الحل
من أهم عناصر استراتيجية الأمن الفكري مجال التعليم الأكاديمي الذي تنشأ في أحضانه عقول الأجيال وتكبر على مائدته كفاءات المجتمع وقياداته . فالتعليم له الدور الأبرز في عملية صياغة الشخصية المجتمعية ، لأنه كم تراكمي من المفاهيم يتلقاها افراد المجتمع من نعومة اظفارهم حتى كهولتهم ، وهو من يرسم لهم سلوكية تفكيرهم الذي ينعكس على مجمل تعاطيهم مع القضايا المختلفة .
لذا فإن الأمن الفكري يتأثر سلبا وإيجابا بالممارسة التعليمية والمنهج الذي يتبع في التعليم ، فالذي يريد رسم استراتيجية الأمن الفكري المجتمعي عليه أن لا يغفل بحال من الأحوال الجانب التعليمي والمنهج المتبع في المجال التعليمي ، فلا بد من البدء بدراسة المفردات الدراسية من حيث المضمون والمنهج ، والأساليب المتبعة في إيصال هذه المضامين . ومن ثم العمل على تنقيتها مما يشوبها ، وتعديل المنهج أو تبديلة بما يتناسب والأهداف ، والتي منها صياغة الرؤية الفلسفية والفكرة الموحدة التي يراد غرسها في أذهان الناس ، وإلا سوف تنمو الشخصية المتعلمة بنحو مشوه يعيش الازدواجية في جميع مفاصل حياته .
فمن كان نظامه المجتمعي يرتكز على فكرة مبدأية المادة وأصالة المنفعة المادية ، فإن ما يناسبه هو تكريس حالة الحس والاتكاء على المنهج التجريبي والاستقرائي باعتباره هو الطريق المؤدي إلى تحصيل تلك الأهداف المنسجمة ورؤيتهم .
أما من يشيد نظاما قائما على أساس أن الواقع أعظم من المادة والأهداف تتجاوز المنافع المادية ، فعليه أن يبحث عن منهج يؤدي إلى تلك الرؤية وهذه الأهداف ، ولابد من صياغة المضامين واساليب ايصالها بما ينسجم وتلك الرؤية .
وفي الواقع أن المنهج الذي تقوم على أساسه عمليات التفكير هو من ينبغي التركيز عليه ومعالجته ، وباصلاح عمليات التفكير يصلح الفكر وتنشأ الشخصية وفق المعادلات السليمة وبالتالي تكون ذات تأثير إيجابي فاعل في الحركة التكاملية للمجتمع .
غير أننا لو نظرنا بنحو اجمالي إلى واقع التعليم في بلداننا العربية والإسلامية لا نجد فيه الاصالة الاسلامية ولا الحداثة المادية ، بل أنه يحاول الدمج والالتقاط ، مما يؤثر سلبا على بناء الشخصية العلمية ، فمن جهة جميع المعايير التي يحاكم بها الواقع هي معايير الحس والتجربة ، وأن المتعلم من الصفوف الأولى يعرف بأن العالم عبارة عن أربعة لا خامس لها (الجماد ، النبات ، الحيوان ، الإنسان) فليس فيما درسه شيء موجود خارج عن هذه الاربعة ، ولمعالجة هذه المشكلة حاولت بعض الحكومات في المجتمعات الاسلامية أن تضمن مناهجها التعليمية بالدروس الدينية من غير أن يوضح للطلبة من اين يمكن لنا إثبات العالم الذي يتحدث عنه الدين (الله ، الجنة والنار ، الأخلاق ، القيم ، العبادات ...) كل ما يعرفه الطالب هو أن هذه ينبغي عليه التصديق والالتزام بها ، فيقع في الازدواجية المعرفية ، فيحاول بعد ذلك أن يستعين بخياله ووهمه لاثبات هذه المسائل الغريبة عن واقع المنهج الذي تعلم على اساسه ، وهذا ما يفسر لنا الخلل التطبيقي للدين في مجتمعاتنا ، فثم من يذهب إلى التمسك بظواهر النصوص بنحو مفرط وإلغاء كل ما دونها ، وإن كانت على خلاف الواقع الحسي ، فيظن مثلا أن الأرض مسطحة لأن النصوص دلت بظاهرها على ذلك . وهناك من يتعصب لمنهج الحس والتجربة ، فيفسر النصوص الدينية على اساسها ويرفض اي شيء يخالف المشاهدات المعتادة ، ويعتبرها مرفوضه عقلا ، ويغفل عن أن رفضه العقلي إنما هو بشرط الوجود الحسي الذي اعتاد أن يأخذ أحكامه منه .
فمع كون المنهج التعليمي قائم على الحس والتجربة لاينفع أن نقحم النصوص الدينية ، لأنه لا يأخذها إلا بنحو تقليدي ساذج ، ولا يرى في نفسه بحسب الواقع إيمانا بهذه المعارف بقدر إيمانه وتصديقه بالمعارف الحاصلة لديه من طريق الحس والتجربة ، نعم قد يتعصب للمعارف الدينية لأنها تمثل رمزية معينة في نفسه كونه توارثها من آبائه وممن يحبهم ويرتبط بهم ارتباطا عضويا .
فإذا ما أردنا إيصال المعارف التي ترتبط بما وراء الطبيعة علينا أن نوجه ذهن المتلقي إلى تلك الجهة من خلال بناء عملية التفكير لديه على وفق المنهج العقلي الواقعي ، فبعدها لا نحتاج إلى عملية تكثيف النصوص الدينية بل أن المتعلم سوف يصل بشكل طبيعي إليها .
من هنا ينبغي أن نعيد النظر في المناهج التعليمية التي فرضت على مدارسنا وجامعاتنا ، لتحكيم المنهج العقلي الذي يتضمن بطبيعة الحال جميع المدخلات المعرفية بشكل منظم دون تجاوز أو اقصاء .
خاتمة :
وفيها بعض التوصيات :
1- على المعنيين في المجال التوعية الثقافية إقامة مؤتمرا خاصا للأمن الفكري .
2- على المسؤولين في مجال التعليم إعداد لجنة خاصة لدراسة المفردات التعليمية وكشف الخلل فيها .
3- اقترح تشكيل لجنة لكتابة المناهج التعليمية في مجال العلوم العقلية مستعينة بالخبرات العلمية من المتخصصين في العلوم العقلية .
4- إقامة دورات خاصة للكوادر التعليمية والتربوية في مجال العلوم العقلية ، للاستفادة منها في مجال التعليم .
5- إقامة ندوات ومؤتمرات لنشر ثقافة العلوم العقلية في اوساط المثقفين والناشطين في المجال الإنساني .
6- تثقيف الكوادر الاعلامية على المنهج العقلي ، للاستفادة من وسائلهم في ترويج هذا المنهج لكي يصبح ثقافة عامة في أوساط المجتمع .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.