هنا نود أن نشير إلى موضوع تشكيل الحكومة العقلية، التي تمثّل لنا المخرج الحقيقي والواقعي من هذه المحنة الكبيرة التي نعيشها؛ وذلك بعد أن تبيّن لنا أن أصل المشاكل التي نعاني منها مرجعها إلى غياب العقل عن حياتنا الاجتماعية والسياسية، وسيطرة الاتجاهات غير العقلية على مقاليد الأمور تحت شعارات كاذبة وعناوين مضللة بعيدة عن الواقع من أجل خداع الناس والتسلط عليهم. ولعل عنوان الحكومة العقلية يوهم في البداية أنه مشروع إقصائي، ينحو نحو إلغاء وإقصاء سائر المناهج المعرفية والاتجاهات الأخرى الموجودة بالفعل، كالاتجاه المادي العلماني أو الاتجاه الديني أو الاتجاه العرفاني الصوفي. والواقع ليس كذلك على الإطلاق، ونحن نعذر من يتوهم ذلك؛ لأن هذه الاتجاهات كلها اتجاهات إقصائية لا ترى إلا أنفسها. وهذا أمر طبيعي بعد التمرد على حكومة العقل، التي هي ميزان الاعتدال والوسطية، حيث لا يبقى أمام الإنسان إلا الوقوع في مستنقع الإفراط أو التفريط. نحن عندما نتكلم عن حكومة العقل، لا يعني بذلك تفرد العقل واستبداده بالحكم مطلقا؛ بل بمعنى أن يقوم هو بتشكيل الحكومة بالاستعانة بالأدوات والقنوات المعرفية الأخرى، كالحس والتجربة والنص الديني، والقلب. فهؤلاء هم وزراؤه وأعوانه الذين يدير بهم المجتمع البشري، كما يدير بهم مملكة الإنسان في نفسه. وهذا يحتاج إلى نحو من البيان التفصيلي، فنقول: إن العقل البرهاني الذي يفيدنا اليقين الصادق، له حريمه الخاص الذي يحكم فيه بنفسه بنحو مستقل عن سائر الأدوات الأخرى، وله حدوده التي يعرفها بحكمته ويرسمها لنفسه، ويرسم أيضا حدود الأدوات المعرفية الأخرى؛ ولذلك فهو المنطلق الذي ينبغي للإنسان العاقل أن ينطلق منه كما بينا ذلك من قبل وهو الذي ينبغي أن نبني على أساسه رؤيتنا الكونية الكلية عن الإنسان والعالم والمبدأ والمنتهى بنحو يقيني وصادق، حيث يقع ذلك كله في حدود مملكته الخاصة. وهذه الرؤية الكونية تمثل القاعدة الفكرية والعقائدية الأولى، التي نؤسس على ضوئها أيديولوجيتنا العملية في الأخلاق والسياسة. فهذه الرؤية الكونية بمثابة مقدمة الدستور الذي سننظم حياتنا الفردية والاجتماعية والسياسية على أساسه؛ لأن القيم الأخلاقية والحقوق الاجتماعية والنظام السياسي إنما تنطلق من هذه الرؤية الكونية العامة. وبعد تأسيس العقل لقواعد الرؤية الكونية بنفسه، يبدأ بالاستعانة بالأدوات المعرفية الأخرى لاستكمال منظومته المعرفية في الحياة بنحو مترابط ومنسجم. ففي مجال استكشاف أسرار الطبيعة، ومعرفة الأسباب القريبة للظواهر الكونية الطبيعية في عالم المادة، من أجل تسخير الطبيعة لمصلحة الإنسان، يستعين العقل بالحس والتجربة العلمية التي أخذت مبادئها الكلية منه، حيث لا يمكن للعقل أن يستكشف ظواهر هذه الأمور الطبيعية بنفسه. ولكن في ظل حكومة العقل، ستبقى التجربة الحسية في حدودها الطبيعية التي لا تتعداها، وهي الظواهر الطبيعية المادية فحسب، ولا تتخطاها إلى البحث عن عالم ما وراء الطبيعة الغائب عن الحس، حيث إن هذا العالم يقع في حريم العقل البرهاني، ولا سبيل للحس أو التجربة الحسية إليه. كما سيتم في ظل هذه الحكومة العقلية الرشيدة تحرير العلماء والمراكز العلمية من مخالب قوى الشر السياسية التي تسخرها لمصالحها الشريرة من أجل الهيمنة على الشعوب ومقدراتها، وحينئذ ستسخر الانجازات العلمية لخدمة المصالح العليا الإنسانية، في بعديها المادي والمعنوي بما يطابق الرؤية الكونية العقلية الواقعية. أما في مقام تعيين الحقوق والواجبات الفردية والاجتماعية والسياسية، فالعقل يدرك بنفسه وجوب العدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه، ولكن لا يمكنه أن يعلم بنفسه، تفاصيل هذه الحقوق، كحق الأخت والزوجة والأب والأم في الميراث مثلا، أو سائر الحقوق المالية، وكذلك القوانين الجزائية وغيرها. ولكن العقل بناء على رؤيته الكونية في وجود مبدأ إلهي حكيم، يعتقد بأنه تعالى بما هو خالق الإنسان ومدبره، فهو أعلم بما يستحقه من حقوق، وما يؤديه من واجبات تجاه الآخرين، تماما كأي صانع لجهاز معين حيث يكون هو الأعلم بما يحتاجه هذا الجهاز وبما يصلحه أو يفسده، وبالتالي فإنه تعالى لا يأمر إلا بما فيه مصلحة ولا ينهي إلا عن ما فيه مفسدة للإنسان والمجتمع؛ ولذلك فإن العقل يدرك بنفسه أن الأحكام الشرعية الصادرة من الباري تعالى إنما هي أحكام تكشف عن الحقوق والواجبات الواقعية للإنسان؛ ولذلك يعتبر الحكماء هذه الأحكام تشريفا للإنسان وليست مجرد تكليف؛ لأن الباري تعالى لما تعلقت إرادته التكوينية باستكمال الإنسان باختياره، تعلقت إرادته التشريعية بأفعاله الاختيارية، من أجل هدايته إلى طريق الكمال الحقيقي. وليس لأي إنسان أن يعين هذه الحقوق والواجبات بنفسه، حيث لا سبيل للعقل البشري إلى تفاصيلها. والعقل السليم الذي هو الحاكم في مملكة الإنسان يعرف نفسه وحدوده جيدا، ولا يتجاوزها، فهو يضع بحكمته الأمور في مواضعها الطبيعية. وأما بالنسبة لمسألة السلوك العرفاني عند الصوفية، فالعقل السليم لا يرفض هذا السلوك والتكامل المعنوي، طالما كان في الحدود المقبولة عقلا وشرعا، ولم يؤدِ إلى الانعزال والانطواء عن المجتمع والتخلي عن المسؤولية الاجتماعية، وبشرط أن يكون تحت إشراف العقل وموازينه، وبعيدا عن الشطحات والإدعاءات الفارغة؛ حتى لا ينفتح الباب أمام الدجالين والمحتالين من الأدعياء الذين هم من موانع السلوك، وشياطين الطريق.