فالعقل السليم في القلب السليم والناس تقسم بحسب القلوب "الأنفس" لا بالصور "الأجسام". * والسؤال كيف يمكن للقلب أن يعقل؟ الجواب أن القلب كما أوضحنا هو منبع الروح حاملة الوعي والحس وبالتالي التفكر والتدبر. وما أكثر الآيات التي تدعو الإنسان للتأمل والتفكر والتدبر. ومن الآيات الكثيرة التي تلفت الانتباه أن الله تبارك وتعالي يقول: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" الأعراف: .179 هذه الآية توكد أن مركز الفقه والتدبر والإدراك هو القلب. وليس الدماغ كما يعتقد العلماء اليوم. ولو تأمنا آيات القرآن نلاحظ أن الله تبارك وتعالي دائماً يؤكد أن هناك صفات كثيرة أخري للقلب. فمثلاً يقول تبارك وتعالي: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" الرعد: 28 إذن هناك خصائص للقلب ومنها الاطمئنان أو الاستقرار. ويقول أيضاً رب العزة تبارك وتعالي: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين" الزمر: 22. فالقلب يقسو ويلين والقلب يطمئن ويخاف أيضاً. يقول تبارك وتعالي: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" أي خافت "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلي ربهم يتوكلون" الأنفال: .2 فالقلب ليس مجرد مضخة كما يعتقد كثير من الأطباء اليوم فالقلب يمكن أن يعمي "فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور" والقلب أيضاً يمكن أن يفقه ويعقل "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها". والقلب جاء في القرآن بمعاني وألفاظ أخري فهو اللب وهو الفؤاد. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالي : "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفي كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون" النحل: 111. قال ابن عباس لاتزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتي تخاصم الروح الجسد. فتقول الروح: رب الروح منك أنت خلقته ولم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها حتي جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني. ويقول الجسد: رب أنت خلقتني بيديك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعي بها ولا بصر أبصر به. ولا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع الشمس فيه نطق لساني وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلي وبه سمعت أذناي فضعف عليه أنواع العذاب ونجني. قال ابن عباس: فيضرب الله لهما مثلاً أعمي ومقعد أدخلا بستاناً فيه ثمر فالأعمي لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله فنادي المقعد الأعمي ائتني فاحملني آكل وأطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمر فعلي من يكون العذاب؟ قالا: عليهما قال رب العزة عليكم جميعاً العذاب. فالدماغ هنا هو الأعمي. والروح هي المثال للمبصر المقعد الذي رأي الثمر وقرر الأخذ منه واستعان بالأعمي وهو الجسد بما فيه الدماغ للوصول إلي غايته فالمخ لا يعمل إلا بالدم والتي تتصل به الروح التي تتبع من القلب صاحب النية والإرادة الحقيقية والقصد. فالخطأ يحاسب عليه الإنسان إذا صاحبه نية وإرادة وقصد. أما حتي كلمة الكفر. وإن قيلت وأكره الإنسان عليها ومادام قلبه مطمئنا بالإيمان فلا لوم عليه "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" النحل: 106. فالإنسان لا يحاسب إلا علي ما أضمر وأراد وقصد ونوي. ** القلب هو وعاء العلم وبالتالي هو العقل الذي به الفهم والإدراك الصحيح. النيسابوري: القلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة. ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسان "الروح" وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بواجب التكاليف. وبالتالي فقد أبدل ذكر الروح منبعها ومركزها وهو الصدر عموماً والقلب خصوصاً. وهو أيضاً محل الذاكرة الدائمة في الإنسان لأن فيه يحفظ السر قال تعالي: "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله علي كل شيء قدير" آل عمران: .29. "ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً" الإسراء: .25 وبالتالي فالقلب هو منبع روحه وليس مجرد مضخة فقط كما يعتقد الكثيرون وهو عقله الباطن وبؤرة شعوره ويحس فيه الإنسان بآلامه وأحزانه وأفراحه وكذلك تختزن فيه مشاعره وإحاسيسه. فالقلب هو العقل الحقيقي للإنسان وهو جهاز كشف الكذب وهو جهاز الرؤيا الحقيقية ومن لا يري بقلبه فهو الأعمي وليس الأعمي الحقيقي فقد البصر وإنما فقد البصيرة. والقلب هو الذاكرة الدائمة وقد يري الإنسان مخزون قلبه وعقله الباطن في نومه بالرؤي والأحلام. فالقلب هو الجزء المدرك المسئول في الإنسان وبصلاحه صلاح الجسد وبالتالي صلاح النفس. ** فرسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد باقي الجسد ألا وهي القلب". ونستطيع أن نقول: العقل السليم في القلب السليم وليس في الجسد السليم. فهناك من تراه يرفع الأثقال وجسده رياضياً لكنه يفتقر إلي العقل والإدراك السليم والتصرف اللائق. والله سبحانه وتعالي يقول: "إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد" ق: 37. ويقول سبحانه: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" الأعراف: .179 * وتنقسم القلوب إلي ثلاثة أقسام: "كما أن الأنفس تنقسم إلي ثلاثة أقسام". 1 قلب صحيح أجرد: وهو قلب المؤمن وهو القلب السليم الصحيح. والذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتي الله فهو متجرد مما سوي الله. فيه سراج يزدهر وهو نور الإيمان. وهو قلب المؤمن والإشارة بتجرده إلي سلامته من الشبهات والشهوات. 2 قلب أغلف منكوس: وهو قلب الكافر والمنافق الذي لا يصل إليه نور الإيمان. كما قال تعالي عن اليهود: "وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون" البقرة: 88 أي قلوب دخلت في غلافها فهم أصحاب القلوب الميتة واليابسة التي ضربت عليها الأكنة وعلاها الران جزاء إعراضهم عن الحق "فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" النساء: 88. أي نكسهم وردهم إلي الباطل الذي كانوا فيه بسبب نفاقهم وهذا هو أشر القلوب وأخبثها. فهو إنسان عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي. فهو يعتقد الباطل حقاً ويوالي أصحابه والحق باطلاً ويعادي أهله. وفسقة المسلمين المصرين علي ما هم عليه هم من أصحاب القلوب المنكوسة والتي طبع عليها وضرب عليها الران جزاء إعراضهم عن الحق. فأصحاب القلوب الميتة واليابسة هم الكفار والمشركون والمنافقون وفسقة المسلمين. 3 قلب سقيم مريض: وهو القلب الذي تمده مادتان. مادة هلاك نتيجة حبه للشهوات المحرمة ووقوعه في الشبهات ومادة إيمان لأنه مازال فيه جزء من الخير. وهو للغالب منهما. وهو صاحب النفس اللوامة التي تلومه علي التفرط في حق الله وارتكاب المعاصي إذا غلب عليه مادة الإيمان. وهذا القلب إما يصح ويسلم وإما يشتد مرضه وتستحكم علته فييبس ويموت فهو يقع في موضع متوسط بين العافية "الحياة" والموت. وتعتمد العمليات العقلية كما قسمها علماء النفس علي عدة جوانب وهي علي التوالي: 1 الإحسان: والمسئول عن الإحساس في الإنسان: أعضاء الحس المختلفة مثل العين والأذن واللسان حيث التذوق والأنف حيث الشم والجلد. كل تلك الحواس متصلة بالجهاز العصبي فالجهاز العصبي للإنسان متمثل في المخ وأعضاء الحس يمثلون القاعدة البيولوجية للعقل والسلوك في الإنسان. 2 الانتباه: الأعمال العقلية هذه ما قصدها رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: "كل عمل ذو بال لم يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" أي ناقص ومنزوع البركة وهي الأعمال التي تحتاج إلي تركيز وفهم وتعقل وإرادة وانتباه "وهي الأفعال والسلوك الإرادي المتأني". يشترط لإجراء أي عملية عقلية بنجاح أن يكون الإنسان في قمة الوعي والانتباه والتركيز. وهنا يأتي دور القلب "اللب الفؤاد البال النهي" الذي يجب أن يكون فارغاً مما سوي هذه العملية وإلا لن تتم بنجاح وسيكون عنصر التشويش قد ألم بها. يقول رب العزة تبارك وتعالي: "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" أي لا يستطيع الإنسان إجراء أكثر من عملية عقلية بنجاح في آن واحد لأن الله لم يخلق للإنسان إلا بؤرة إحساس واحدة وهي التي يتم تجميع كل أنواع الحس فيها حيث تفهم وتسجل كذاكرة وتعطي معاني وهذا هو الإدراك. 3 الإدراك: هي عملية معرفية يتم بها إعطاء الأحاسيس التي تصل من أعضاء الحس إلي المراكز الحسية في الدماغ والتي تصل إلي بؤرة الحس المعاني والمفاهيم. وكذلك المثيرات التي يتم الانتباه إليها معاني ودلالات. بمعني آخر هي عملية تفسير المثيرات الحسية وفهم معانيها والتفرقة بينها وهذا ما يقصد به الفهم والفقه وهذا هو دور القلب ودور الروح وليس دور المادة. يقول تعالي: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" الأعراف: 179. فالإدراك هي عملية معرفية عليا معقدة تتم في القلب ومرتبطة بالروح. 4 الذاكرة: هي عملية معرفية تعني تخزين ما تم اكتسابه من معلومات وخبرات بهدف استرجاعها عند الحاجة إليها بعد انقضاء فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر. وهذا ما يسمي حفظ المعلومات. وإذا لم يتمكن الشخص من عملية الاسترجاع هذه فهذا سلوك يسمي نسيان. وتأتي حدة الذاكرة لما تم تخزينه بشكل جيد إذا وصل إلي بؤرة الحس التي كانت مهيأة لاستقباله. يقول تعالي: "إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد" ق: .37 وقد خص رب العزة تبارك وتعالي العمليات المعرفية والعقلية: في الآية الكريمة: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" النحل: 78. فذكر الخالق تبارك وتعالي وسائل الحس المسئولة عن نقل الأحاسيس كالعين والأذن وهي المادة البيولوجية للعقل والمعرفة. والفؤاد وهو القلب الذي هو منبع الروح والذي يتم فيه باقي العمليات العقلية والمعرفية المعقدة.