وفي ختام المسيرة الفكرية للخروج من محنتنا الإنسانية، وبعد اكتشاف بداية الطريق التي ينبغي أن ننطلق منها، وهي البداية التي اكتشفها العقل الفطري السليم على أساس قواعده الرصينة والمتقنة، ورسم لنا معالمها الكلية، أرى من النافع أن نختم ببعض التوصيات المهمة للجهات المعنية المختلفة، لعلها تفيق من سباتها وتنهض بمسئوليتها تجاه أمتها: الأولى: إلى المراكز الفكرية والفلسفية الغربية المعاصرة نأمل من هذه المراكز أن تراجع حساباتها في طبيعة تعاطيها مع المنهج العقلي، وأن تتخلى عن نظرتها السطحية والسلبية للمنطق العقلي، منطق الفطرة الإنسانية. كما نأمل أن تقف وقفة جدية لتقييم مسيرتها الفكرية التي قامت على أساس المنهج الحسي طيلة قرون، وما استتبع ذلك من فوضى معرفية ومشاكل ومفاسد أخلاقية واجتماعية وسياسية. كما نرجو منها أن تكف عن تصدير السفسطات والتشكيكات، وإظهار وجهات النظر غير العلمية أو غير التخصصية تحت عناوين مختلفة، كالنسبية والتعددية والبنيوية والديالكتيكا والهرمونيطيقا وغيرها من التحكمات الفكرية التي لا تبتني على أي قانون معرفي أو أساس منطقي، حيث يخرجون علينا في كل يوم بموديلات فكرية جديدة كأزياء النساء، كل واحدة منها تنقض التي قبلها، فتارة يتكلمون عن الحداثة، وأخري عما بعد الحداثة، وما بعد بعد الحداثة، و......... وهكذا، ولا ندري متي تنتهي هذه الفوضى المعرفية والمهزلة الفكرية المتعمدة؟! وعلى أي حال تستقر؟! ونحن لا نشك في وقوف المحافل الماسونية وقوى الشر في الغرب وراء أكثر هذه النظريات المخالفة للعقول السليمة، والمشتتة للأذهان بهدف إيقاع الناس والمثقفين الذين يلهثون وراءهم في الحيرة والضلال، وشل عقولهم بالكلية بعد بث روح اليأس في نفوسهم من الوصول إلى أي حقيقة علمية أو فكرية، بحيث يزهد الناس بعد ذلك في الفكر والتفكير، ويلهثون وراء شهواتهم ومصالحهم الشخصية، وحينها يتمكن هؤلاء من السيطرة عليهم وتسخيرهم لخدمة مصالحهم غير المشروعة. فنحن نتمنى عليها كمراكز علمية أكاديمية مشهورة أن تتحرر من هذه الدوامة الفكرية، وألا تخوض في مباحث فكرية بدون قواعد معرفية أو أصول منطقية، وأن تتخلى عن أسلوبها اللامنهجي في المباحث العلمية، والتي تتعلق بالمسائل الإنسانية والمعنوية والمصيرية الخطيرة بلا أي ضابط منطقي، حتى صارت مباحثهم الفلسفية مباحث ذوقية استحسانية، لا تبتني على أصول علمية منضبطة، ولا تحتكم إلى أي معيار منطقي عقلي، مما أوقعها في الحيرة والتخبط والفوضى الفكرية. فندعوهم إلى اعتماد المنهج العقلي البرهاني للخروج من هذه الأزمة الفكرية التي وقعت وأوقعت العالم فيها، واتخاذ سبيل التحرر من ربقة المنهج الحسي الذي جعل عقولهم حبيسة عالم الحس والطبيعة، وحجبها عن رؤية عالم الحقائق والمعنى، وأغلق دونها منافذ الرقي والكمال؛ الأمر الذي أدى إلى الاستخفاف بالقيم الأخلاقية والدينية والمبادئ الإنسانية. الثانية: إلى المثقفين والمفكرين المتأثرين بالثقافة الغربية من العرب والمسلمين عليهم معرفة أن بين أيديهم تراثا عظيما لا ينبغي لهم التفريط به، وهو التراث الفلسفي العقلي والإسلامي، كما نتمنى أن يتنبهوا إلى خطورة مشايعة الغرب في أطروحاته الفكرية، وأن لا ينخدعوا ببريق شعاراته التي غالبا ما ينضوي وراءها أغراض خبيثة يراد منها السيطرة على عقول الشعوب، ومن ثم ثرواتهم. والعالم والتأريخ الحديث يشهد ما خلفته شعاراتهم البراقة من ويلات على البشرية، فكم حيكت تحت مسمى الحرية والديمقراطية من المؤامرات واندلعت من الحروب التي لم تخلف ورائها إلا مشاهد مأساوية يندى لها جبين الإنسانية. فيا أيها المفكرون والمثقفون من العرب والمسلمين لا تسمحوا لأنفسكم أن تكونوا معابر وجسور لمخططات الغرب الاستعماري، عبر عناوين خداعة من قبيل الحداثة والتقدم والحرية والفكر والثقافة وما إلى ذلك؛ فإن التاريخ لن يغفر لكم ذلك. وعليكم أن تكونوا على حذر شديد من تسويق ثقافات وقيم تنطوي تحتها هذه العناوين، ولا تخدم إلا أعداء الإنسانية وأعداءكم. عليكم أن تعيدوا قراءة تراثكم الفكري الفلسفي الإسلامي، لا عن طريق نظارة المستشرقين من الغرب والسطحيين من الشرق، بل على أيدي متخصصين لتتعرفوا بشكل واقعي على تلك الكنوز العظيمة التي ترفع من قيمة الإنسان. الثالثة: إلى المدارس والجامعات في الدول العربية والإسلامية على المسئولين التعليميين والتربويين المحترمين في وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي أن يتنبهوا إلى أن المنهج التعليمي والتربوي في جميع المدارس والجامعات والمفروض من قبل منظمة اليونسكو وغيرها من المنظمات الغربية، هو المنهج الحسي التجريبي الجديد الذي وضع أساسه (فرنسيس بيكون) و(جون لوك) وغيرهم من المفكرين الغربيين الماديين، وهو ينافي المنهج التعليمي العقلي الفلسفي والإسلامي الأصيل في المنهج والغاية، حيث يعتمد المنهج الحسي السطحي الاستقرائي. ويهدف إلى تسخير الطبيعة للمنافع الإنسانية المادية لا غير، ولا يقيم أي وزن للقيم المعنوية للإنسان. فالمنهج التعليمي المعاصر لا يعتني إلا بالعلوم الطبيعية والرياضية، ولا يعتمد فيما يسميه بالعلوم الإنسانية إلا على المنهج الحسي الاستقرائي، الذي لا يترشح عنه إلا الفكر المادي والعلماني المقابل للفكر العقلي والديني، كما أن النظام التعليمي فارغ تماماً من علم المنطق الذي ينظم عملية التفكير وقواعده، التي هي أهم بكثير من قواعد اللغات، كما أنه خالٍ من أوليات العلوم العقلية، التي هي في الواقع أساس العلوم الإنسانية والدين الإسلامي المبين، والتي تم التعامل معها كتراث تاريخي، موضوع على رفوف متاحف التاريخ. وقد تم الاكتفاء في مجال المعرفة الدينية بتدريس بعض النصوص والقصص الدينية بنحو سطحي وهامشي لا يسمن ولا يغني من جوع؛ الأمر الذي كان له أكبر الأثر السلبي على نفوس أبنائنا، ومسخ فطرتهم العقلية وهويتهم الدينية والثقافية واستبدالها بالهوية المادية السطحية والسخيفة، حتى رأينا ذلك بوضوح في شخصية شبابنا العربي والمسلم في الجامعات، ولمسنا معاناتهم من الأمية الفلسفية والدينية الشديدة، وطغيان النزعة الحسية المادية والثقافة الغربية البعيدة عن تراثنا وثقافتنا الإسلامية على الكثير منهم، بل أثر ذلك حتى على الثلة القليلة المتدينة هناك ممن يتلبسون بظواهر الدين وهم أبعد ما يكون عن محتواه وحقيقته. والحل لا يكمن فيما يسميه البعض بأسلمة العلوم والمدارس والجامعات؛ من خلال تكثيف الدروس والمعارف الدينية أو تعميم المظاهر الإسلامية لاغير، بل الحل يكمن في معالجةٍ جذرية للمنهج التعليمي والتربوي وتصحيح الغاية من طلب العلم الذي هو الهداية، وبناء الرؤية الكونية العقلية الصحيحة والواقعية، وبناء المدينة الحرة الفاضلة والعادلة، ولا يكون ذلك إلا بإدخال العلوم العقلية من المنطق والمعرفة والفلسفة العقلية في كافة المراحل الدراسية كمنهج أساسي، وبأسلوب يتناسب والمرحلة العمرية للدارسين؛ حتى تتكون لدى أبنائنا رؤية كونية صحيحة عن الواقع، وعن الدين الإسلامي المبين، وحينها سوف يأخذ الدين موقعه المناسب في المجتمع، وتأخذ العلوم الطبيعية والرياضية مسارها الصحيح في خدمة المصالح العليا للإنسانية في بعديها المادي والمعنوي، وإقامة الحضارة البشرية الحقيقية على طبق الحكمة والعناية الإلهية