د. محمد السعدنى لاشك أننا أمام حالة من التطرف ذهب إلي حد القطيعة والاحتراب مع كل ما هو عقلاني وحداثي وعصري، وهو تطرف يحاول أن يرد كل جديد في العلم والمعرفة إلي قديم في النص والعصر والتراث، وهذا ضد قانون الطبيعة وضد مسارات العقل وتطور المعارف الإنسانية. كان يتحدث في جدية بادية وكنت أتابعه في دهشة بينما هو يقرر أننا نعيش عالم الحقائق المطلقة وأنه لا جديد تحت الشمس فقد أسفرت مستجدات عصرنا عن كل خبييء في باطن الدنيا حتي أضحت كتاباً مقروءاً لا ينبيء عن جديد. وكانت هذه هي المفاجأة، إذ هو واحد من الناشطين الذين تراهم عبر الشاشة الفضية وعبثية الندوات التي أضحت مسخاً معادا مكروراً بلا معني ولا دلالة. كنت أتابع ما يقوله عبر الشاشة الصغيرة وهو يردنا إلي "جادة العقل والصواب" كما يقول ويدعي، بأن نطلق الدنيا ونعمل للآخرة ويحثنا علي رفض المبادئ الدستورية والدولة المدنية وحقوق المواطنة والحريات العامة وحقوق الإنسان فكلها من صنع الغرب وفيها تقليد للكفار ومجتمعاتهم المتسيبة، وهو يدعونا للتمسك بتراث السلف الصالح وعصر الفتوحات!! يااللهّ! هذا نموذج جديد عن الهندسة العكسية لكن في مجال الأفكار والثقافة والعلوم والبشر. بالهندسة العكسية يمكنك أن تحاكي ما قدمه الغرب المتقدم من منتجات تكنولوجية وحداثية، تفكك المنتج إلي أجزاءه البسيطة لتفهم وتتعلم ثم تعيد تصنيع هذه الأجزاء وتركيبها، هكذا فعلت الصين واليابان وكوريا في كثير من المنتجات الصناعية لعصر الحداثة الغربية. هذا في عالم التكنولوجيا أما في عالم الأفكار فالتفكيكية مدرسة فلسفية رائدها "جاك دريدا" فيلسوف فرنسي نظر إلي الفلسفة الإنسانية والثقافة بإعتبارها نصوص أدبية أو فكرية، فالقصة والقصيدة واللوحة والكتاب والمعمار والخيال جميعها نصوص لا يمكن الوصول إلي فهم متكامل لها إلا إذا قمنا بتفكيكها وردها إلي أجزاء أصغر، ثم نعمد بعد ذلك إلي تركيب أفكارها بالكيفية التي تشكل لها مفهوماً متماسكاً يثبت أمام النقد والعقل ومحاولات الإدراك. التفكيكية في أساسها لا تقبل التعريف والأصول والقواعد وهي تعمل علي زعزعة الأسس الميتافيزيقية لكل ما هو ثابت أو مطلق. التفكيكية عند جاك دريدا فكرة شرسة وهي أداة تهاجم الفلسفة والأدب والحضارة وبالتالي هي تهاجم نفسها بإعتبارها نصاً من النصوص، هنا تأتي المفاجأة إذ صاحبنا الذي بدأ رحلته من المادية الجدلية والعلمانية ردته صدمة الرجعية الفكرية التي نعيشها إلي حاكمية السلف، فبدا رغم اتساق هندامه مفارقا لمعني العقل والوعي، وبدي خلف بدلته الإيطالية الأنيقة ذلك الجلباب الأبيض القصير، لباس أبو الأعلي المودودي بفكره المأزوم عن إسلام الحدود والقيود والجمود والصدام والتطرف حيث هجمة الوهابية التي تحاول اقتلاع صحيح الدين والوطن وتصفي الثورة وتركن إلي الجمود والتخلف، وفي مثل هذه الأجواء يختلط علي الناس من يقتدي بالسلف الصالح وصحيح الدين وبين من ركب الموجة عن حسن نية أو براءة فكر أو سطحية تلقي واعتناق أوغاية أخري فذهب يرفع أعلام السعودية وقطر في قلب القاهرة ويرفض الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. هي إذن رحلة الإرتداد من الأرحب والأوسع إلي الأضيق والمحدود، من فضاءات العلم والفكر والمعرفة إلي قوالب التراث والتاريخ ومحسنات اللغة وجمود التناول وضيق الأفق، وهي ليست مشكلته وحده إنما هي عقدة الكثيرين من المتثاقفين حين حاولوا مجاراة مفردات استدعاء الماضي والإحتكام إليه، وهي أزمة حياتنا المصرية بين فائض التدين الشكلي وقلة الدين الفعلي. أقول إصطدم صاحبنا بنفسه وانقلب علي نفسه، فمن حيث أراد الهندسة العكسية والتفكيكية وقع في مصيدة أكبر من إستيعاب عقله الذي ارتد إلي أجزاء متناثرة وقفت عند أبواب الفتوحات والتاريخ وآداب العصر الجاهلي، فلم يعي أن التفكيكية فكرة ضد الدين والعقيدة والنص المقدس ذاته. التفكيكية إطار فلسفي يهدف تعميق إدراكنا للواقع وفهمه، وهي أداة تحليلية ترد كل فكرة ونص وشيء إلي ما هو دونه أو أصغر منه حتي تصل إلي أساسها المادي، وهي لا تسلم كثيراً بالغيبي والسلفي وما وراء الطبيعة، وهذا بالضرورة غير ما أراده صاحبنا حين رفع عقيرته بالصياح عبر الشاشة الصغيرة، ساعتها ربما دار في ذهنه خلط من نوع آخر، حيث التفكيكية الأصولية منهج معرفي تبلور في الحوزة العلمية في" خراسان" في القرن الرابع عشر الهجري وهي تهدف الي الفرز والفصل في اللغة حيث تؤكد علي مسالك معرفية ثلاثة: المسلك القرآني، والمسلك العرفاني، والمسلك الفلسفي أو كما أسس لها طائفة من الأعلام، منهم محمد رضا حكيمي، والميرزا مهدي الأصفهاني ومجتبي القزويني وغيرهم. إنها محاولة للتوفيق والتجمل والمناورة لمداراة التناقض والخلاف، وهي قصة قديمة جديدة فيها من التباس المبني والمعني أكثر مما فيها من إستقامة الفكرة والرؤية. ربما استبد بك الشوق وكابدك الفضول لتعرف اسمه ومن يكون؟ لكنني أصارحك بأنه ليس شخصاً محدداً بل هو كيان قائم الآن بيننا، شاهد علي شطط الأفكار وماضويتها وإرتدادها فبدونا نعيش أصولية الفكر والدين والسياسة وتناول سطحي لفقه الأولويات، توقف بنا عند شكلانية الدين وتصحره وبداوته وتحكمية ذهنية خراسان في رؤيتها للدولة والشريعة والسياسة. وهو نفسه ماتابعناه في المناظرة الرئاسية حيث عمد أبوالفتوح لجمع مالايجمع وخلط كل الأوراق وبدا كما رجل قادم من خارج العصر حتي ولو ارتدي هندامه. تذكرت ذلك المقال بينما أتابع المناظرة بين الدولة المدنية الناهضة عند عمرو موسي والدولة الدينية الرجعية المراوغة في ثوب يدعي الحداثة عند أبو الفتوح.