لا يختلف حال مصر عن السودان، فالوضع الاقتصادي على حافة الانهيار في كلا البلدين، وفي وضع يبرز وجه التقارب بين الحالتين الاقتصاديتين، فإن سعر صرف الجنية المصري والسوداني متساويا أمام الدولار، فكلًا منها يساوي 18 دولارا أمريكيا تقريبًا، ويكمن الفارق الوحيد بين مصر والسودان، في أن الطبقة الشعبية في الأخيرة أبدت ردة فعل مختلفة تباينت بين الاحتجاجات والعصيان المدني، احتجاجًا على الخطط الاقتصادية للحكومة السودانية التي رفعت سعر المحروقات، وحررت أسعار الدواء، ورفعت الدعم عن كثير من السلع الاستهلاكية الأخرى. خطة الحكومة السودانية الاقتصادية: في خطوات لا تختلف عن الحلول الاقتصادية المصرية، قامت الحكومة السودانية بحزمة من السياسات الاقتصادية القاضية برفع كلي للدعم السلعي، وتعويم صرف الجنيه السوداني، حيث أعلنت الحكومة السودانية، رفع أسعار الوقود والكهرباء والأدوية، ضمن حزمة إجراءات اقتصادية جديدة، لخفض العجز في الميزان التجاري من 4.2 مليار إلى 3.7 مليارات. وقال الرئيس السوداني عمر البشير إنهم مستعدون لتحمل التكلفة السياسية لهذه الوصفة رغم بعدها الشعبي وتأثيرها على شعبية الحكومة، وهو الأمر الذي أغضب الشعب والمعارضة، خاصة أن السودان بلد شاسع وغني بالموارد الطبيعية مثل الأرض الزراعية الخصبة، الثروات الحيوانية، والمعدنية، والمائية، بيد أن هذه الحقيقة تفضح الفشل السياسي الذي ظل ملازما للنخب السياسية منذ استقلال البلاد في 1956 وعدم القدرة على إدارة هذه الثروات، فالفشل الاقتصادي هو فشل سياسي بالضرورة نظرا للارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد، وما يؤخذ على الحكومة السودانية أن غاية طموحاتها ظلت كيفية إدارة الأزمة والتعامل مع الحلول الترقيعية والمسكنات الوقتية؛ بل إن قادتها مثل وزير المالية، بدر الدين محمود، يفاخر اليوم بنجاحهم في وقف الانهيار الاقتصادي الوشيك. وقام وزير المالية للسودان مطلع الشهر الحالي برفع جزئيا دعم الوقود والكهرباء في إطار حزمة من الإصلاحات الاقتصادية تهدف إلى خفض الإنفاق الحكومي، وتشمل أيضا فرض قيود على استيراد اللحوم والأسماك، في الوقت الذي يواجه فيه اقتصاد السودان صعوبات منذ انفصال جنوب السودان في 2011، مما أفقد الخرطوم ثلاثة أرباع إنتاج البلاد من النفط وهو مصدر رئيسي للعملة الأجنبية وإيرادات الدولة، وقال وزير المالية في مؤتمر صحفي "حزمة الإجراءات كانت ضرورية لحل مشكلة الاقتصاد وإذا لم نقم بهذه الإجراءات ستتضاعف مشكلة الوطن والمواطنين. وتقرر زيادة سعر البنزين نحو 30 في المئة للجالون وزيادة سعر كيلو وات الكهرباء 6 قروش عند تجاوز استهلاك الكهرباء 400 كيلو وات، كما وتشمل الإصلاحات أيضا إجراءات تقشف في الإنفاق الحكومي فيما يتعلق بشراء السيارات ونفقات سفر المسؤولين للخارج. وقالت الحكومة إنها ستحظر استيراد بعض السلع ومنها اللحوم الحمراء والأسماك وزيادة الرسوم على بعض السلع المستوردة للحد من استيرادها. ولم تحدد الحكومة تلك السلع المستوردة. وقد لا تختلف حالة السخط الشعبي في السودان على التعديلات الاقتصادية لحكومتها عن نظيره المصري، فمصر تتمتع هي الأخرى بموارد متنوعة، مثل حقول الغاز ومناجم الذهب، كما أنها كانت تشتهر بزراعة القطن وقصب السكر والبنجر، بالإضافة للموارد المالية لقناة السويس، وبعيدًا عن كل هذا وذاك، حصلت مصر على مساعدات خليجية بعد ثورة 30 يونيو تقدر بأكثر من 33 مليار دولار، فضلًا عن دعمها بالمواد البترولية، إلا أن الحكومة في مصر لم توظف هذه الإمكانيات بالصورة المثلى، بل أهدرتها في خطط الحفاظ على سعر صرف الدولار الأمريكي في البنك المركزي والتي قامت بتعويمه في نهاية المطاف، كما أنها أنشأت مشاريع لا تعود بالنفع المادي العالي كتفريعة قناة السويس الجديدة، بالإضافة لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة المزمع إنشاؤها، وبعد كل هذا الهدر في الأموال، لجأت مصر للاقتراض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار ما يمثل ثلث قيمة المساعدات الخليجية. ردود فعل الشعب السوداني: في الوقت الذي لم تشهد فيه مصر أي ردود أفعال شعبية، على موجة ارتفاع الأسعار التي طالت المواد التموينية الأساسية كالسكر والرز، بالإضافة للأدوات الكهربائية وغيرها من السلع، فيوم 11 نوفمبر والذي كان مقررًا للاحتجاجات لم يشهد أن تغير، بل على العكس من ذلك أعلن فيه عن موافقة صندوق النقد الدولي على القرض المصري. أما بالنسبة للسودان فقد شهدت مجموعة من التحركات الشعبية المناهضة للقرارات الاقتصادية التي فرضتها الحكومة، وبدأت بمجموعة من الإرهاصات، حيث في 14 نوفمبر وصفت اللجنة التمهيدية للصيادلة قرار تحرير أسعار الدواء بالكارثي، محذرة من أنه سيؤدي إلى انهيار الخدمة الطبية ومضاعفة أسعار الأدوية وجعلها فوق مقدرة المواطن، وردت الحكومة السودانية على اللجنة بأن توفر الدواء وبأسعار مرتفعة أفضل من عدمه. في 20 نوفمبر صُدم الكثير من السودانيين بخبر أوردته صحيفة "الصيحة" السودانية، في عددها الذي أفاد بانتحار 3 أشقاء سودانيين من عائلة واحدة في ولاية الخرطوم، بعد عجز أسرتهم عن توفير الأدوية التي يحتاجونها. في 26 نوفمبر انتشرت عدد من الدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر" تفيد بتنظيم دعوات للعصيان المدني بداية من الأحد 27 نوفمبر ولمدة 3 أيام، ويبدو أن الدعوات التي انطلقت في كثير من مواقع التواصل الاجتماعي ومن منصات حزبية معارضة للحكومة للدخول في عصيان مدني شامل، قد وجدت حظها من التأييد وسط قطاعات واسعة غير رسمية. فبينما توقف بعض طلاب المدارس والجامعات عن الدراسة وأغلقت العديد من المتاجر أبوابها، وبدت الحركة في كثير من الشوارع الرئيسية عند ساعات الصباح الأولى أقل من المعتاد، واصل موظفو المؤسسات الحكومية وبعض شركات القطاع الخاص أعمالهم بصورة طبيعية. وفي 27 نوفمبر شهد السودان هدوءا ملحوظا في شوارع العاصمة الخرطوم، وذلك إثر عصيان مدني أدى لخلق حالة من الشلل الجزئي لكل الأسواق وبعض المؤسسات التعليمية المختلفة، بنسبة فاقت 40% في يومه الأول، وظهر ذلك جليا في عدد من الصور التي انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجامعة الخرطوم وشارع مستشفى الخرطوم، وعلى الرغم من فتح الكثير من المدارس أبوابها، إلا أن أسرا عدة فضَّلت إبقاء أبنائها في المنازل خشية اندلاع مواجهات بين المتظاهرين والشرطة. وفي 28 نوفمبر، خلت شوارع العاصمة الخرطوم من المارة فيما أغلقت المحال التجارية، وذلك استجابة لدعوات من المعارضة، فيما بدت ساحات وطرق رئيسية في الخرطوم وأم درمان فارغة منذ الأحد أول أيام العصيان. وفي 29 نوفمبر يقول مراقبون سودانيون بأن نسبة العصيان المدني وصلت إلى 70%، فيما انتقد البعض هذا العصيان وقالوا بأن الشعب السوداني قد ابتلع الطعم الحكومي، حين توقف الفعل الثوري والاحتجاج في السودان على زيادة الأسعار في المحروقات ورفع الدعم عن الدواء عند دعوة مجهولة الجهة لعصيان مدني، حيث تساءل بعضهم أيهم أكثر تكلفة لجهاز المخابرات السوداني، أن نقبع في البيوت نلعن الزيادات ونرفض ونعارض خلف الجدران، أم مواجهة غير مأمونة العواقب في اشتعال فتيل الثورة؟