وقف ابن تيمية في المرحلة الزمنية التي عاش فيها موقف المنقّح والمحرّر، ليس للأفكار الأصولية والرجعية في مرحلة الجمود الفكري التي كانت هي السمة العامة في القرن الثامن الهجري، لكنه حكما على كل من سبق سواء من الفرق أو المذاهب أو حتى الأشخاص. والإشكالية أنّ كل من يتخذ من تراث الشيخ "ابن تيمية" مرجعًا لحل معضلاته، وملاذا للإجابة عن إشكالاته، كما هو الحال لدى القطاع الكبير من السلفيين، يجعل ما تكلم به عن غيره من المناهج أو ما تكلم به عن الأشخاص هو الخلاصة والحق الذي ينبغي تقليده. ففي الكلام حول المناهج والأفكار، بالغ ابن تيمية في الثناء على مدرسة أهل الحديث في مقابلة أهل الفقه، وفي العقائد شنّع على جميع من خالفوه من متكلّمي المدارس الكلامية من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم، في حين رفع من شأن الحنابلة (متعصبيهم) وليس جميعهم، فإنّ أتباع المدارس العلمية الإسلامية في التعامل مع النصوص وإن اختلفوا فهم في إطار الحوار العلمي كما يعبر التقي السبكي بقوله: "كنا نحن- أي الشافعية- والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة يدا واحدة". بمعنى ليس أحد منّا بأفضل من غيرنا، إلا بعض الحنابلة المجسّمة المنبوذين، فأعلى ابن تيمية من هؤلاء ومن مقولاتهم، وجعل يصنّف التصانيف، ويكتب الرسائل، ويفتي بالفتاوى، التي تحطّ من قدر من لم يوافقه في شيء مما ذهب إليه. الإمام فخر الدين الرازي كان للإمام الرازي القدح المعلّى والنصيب الأوفر من الذمّ ضمن القائمة الطويلة ممن نالهم ذمّ ابن تيمية؛ ذلك أنّ الرازي أحد الأئمة الكبار ممن اشتغلوا بالكلام والفلسفة والمنطق على نطاق أوسع بكثير ممن سبقه أو لحقه، فهو صاحب المطالب العالية" و"نهاية العقول" صنّف الرازي في علوم المعقول والمنقول، وكتابه "مفاتيح الغيب" شاهد على براعته وحسن تصنيفه، خاصّة في هضمه لمذهب خصمه في المسائل التي يُقرّرها، ومن يطالعه يلحظ ذلك لأوّل وهله. إلا أنّ ابن تيمية يقول عنه: "وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين. فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين وفي إفادة الأخبار للعلم. وهذان هما مقدمتا الزندقة كما قدمناه" اه. [مجموع الفتاوى (4/ 104)]. أبي نصر الفارابي المعلّم الثاني كما يُطلق عليه في كتب المعقولات، خلفًا للمعلم الأوّل أرسطو، فهو شارح كتبه المنطقيّة، وهو أحد الفلاسفة المسلمين الكبار، ممن امتلكوا ناصية الحجّة والبيان والبرهان والحكمة العالية. كان للفارابي منهج فلسفي خاص، فهو من أوائل الفلاسفة المسلمين اهتماما بفلسفة اليونان والاطلاع عليها والتأثر بها، ومحاولة الربط بين النظرة الدينية للوجود وبين النظرة الفلسفيّة، وإيجاد الوسائل لفهم الكلّي على كليّته، والجزئي على جزئيّته، وفهم الوجود والموجود بعمق فلسفي. وقد ناله ما نال أيّ أحد يريد التماس عين الحقيقة بطرق برهانية منطقيّة؛ إذ العلوم لدى الفارابي من أسباب السعادة، فما لم تنطوِ على برهان عقلي وربط ما بينها لم تعد لها فائدة، فتحدّث عن المدينة الفاضلة وأغراض ما بعد الطبيعة ومباديء الموجودات وغيرها. وقد كال له ابن تيمية كلّ نقيصة، وذمّه بأبشع ما يكون، ومن يطالع كتاب "الرد على المنطقيين" لابن تيمية يتلمس ذلك بأمّ عينيه. يقول عنه: "طوائف من المشركين والصابئين من المتفلسفة المشائين أتباع أرسطو ومن تبعه من متفلسفة أهل الملل كالفارابي وابن سينا ومن سلك سبيلهما – ممن خلط ذلك بالكلام والتصوف والفقه ونحو هؤلاء" اه. [مجموع الفتاوى (8/ 195)]. ابن سينا الشيخ الرئيس كما يُسميّه العلماء المسلمين المشتغلين بعلوم المعقول، صاحب اليد العليا في الربط ما بين العلوم الطبيعية العملية والعلوم الإلهية، فكان فيلسوفًا من الطراز الأول الذي اشتغل بالعلوم الرياضيّة وعلوم الهيئة والطب الذي يعدّ كتابه الموسوم ب"القانون في الطب" المرجع الأوّل لعلوم الطب في العصور الوسطى. وكانت له نظرة مختلفة وهي الربط ما بين الإلهيات والنبوات وبين الفلسفة، ومع عُلوّ قدره ومكانته يقول عنه ابن تيمية: "وهو من الصابئة الذين خلطوا بهَا من الحنيفة مَا خلطوا" اه. [كتاب الاستقامة (1/ 239)]. فالفلسفة والحكمة العالية هي السبيل لكل ذمّ يمكن أن يقع على المطلّع على العلوم والمعارف، لكنك لن تكون في محلّ الذمّ ما دمت مسلمًا عقلك غيرَ محاور لمن يتحدث إليك، الإشكالية أن من يتصفّح جميع الفتاوى والكتيبات الموجودة علة جميع المنتديات على الشبكة العنكبوتية، التابعة لعلماء السلفية تجد السؤال، ثم الجواب بعبارة: "قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فلان كذا، وفي فلان كذا، وفي علان كذا.. وهكذا، وما داعش منّا ببعيد، فتجد القتل والتقاتل هنا وهناك بدم بارد جراء ما يُلقى عليهم من مثل هذه النصوص، والحكم على الأفراد الذين يُشكّ أنهم يقرأون لهؤلاء الناس.