الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    محافظ الدقهلية يتابع سير العمل في المركز التكنولوجي بحي شرق المنصورة    أسعار الدواجن اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    تراجع مؤشرات الأسهم الروسية في بداية تعاملات بورصة موسكو    بالفيديو.. الغرف التجارية: متابعة دائمة من الأجهزة الرقابية لتطبيق التخفيضات خلال الأوكازيون    روبيو: حضور القادة الأوروبيين لقاء ترامب وزيلينسكي سيحقق توازن ديناميكي بالمفاوضات    12 شهيدا ومصابون بنيران جيش الاحتلال في غزة    انهيار نيمار وإقالة المدرب.. توابع سقوط سانتوس المذل في الدوري البرازيلي    فيريرا يدرس إجراء تغييرات على تشكيل الزمالك أمام مودرن سبورت    بيراميدز يتقدم بشكوى ضد الحكم أمين عمر    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    ضبط 12 طن دقيق مدعم داخل المخابز السياحية بالمخالفة للقانون    حجز المتهم بالتعدي على زوجة شقيقه في الشرقية    «النيابة» تصدر قرارات في واقعة مقتل لاعبه الجودو بالإسكندرية على يد زوجها    إيرادات أفلام موسم الصيف.. "درويش" يتصدر شباك التذاكر و"روكي الغلابة" يواصل المنافسة    الجمعة.. حكيم يحيي حفلا غنائيا بالساحل الشمالي    طب قصر العيني تبحث استراتيجية زراعة الأعضاء وتضع توصيات تنفيذية شاملة    صحة الإسكندرية تقدم 4 ملايين خدمة خلال شهر ضمن «100 يوم صحة»    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    إصابة عامل في حريق شقة سكنية بسوهاج    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    وزير الرياضة ورئيس الأولمبية يستعرضان خطط الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    ريهام عبدالغفور عن وفاة تيمور تيمور: «كنت فاكرة أن عمري ما هتوجع تاني»    من هشام عباس إلى علي الحجار.. جدول فعاليات مهرجان القلعة 2025    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان ملتقى السمسمية القومي    وزيرة التضامن الاجتماعي: دعم مصر لقطاع غزة لم يكن وليد أحداث السابع من أكتوبر    وزير الإنتاج الحربى يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية المصرية للهندسة والتكنولوجيا    موعد صرف معاش تكافل وكرامة لشهر سبتمبر 2025 وخطوات التسجيل والاستعلام    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    استشاري مناعة: مبادرة الفحص قبل الزواج خطوة أساسية للحد من انتشار الأمراض    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    جامعة مصر للمعلوماتية تستضيف جلسة تعريفية حول مبادرة Asia to Japan للتوظيف    حلوى باردة ومغذية فى الصيف، طريقة عمل الأرز باللبن    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    إعلام عبري: تقديرات الجيش أن احتلال مدينة غزة سوف يستغرق 4 أشهر    ارتفاع سعر اليورو اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    نشأت الديهي: شباب مصر الوطني تصدى بكل شجاعة لمظاهرة الإخوان فى هولندا    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    ترامب يهاجم وسائل الإعلام الكاذبة بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفقهاء والفلاسفة.. تفنيد مباحث الإلهيات فى الفلسفة اليونانية(4)
نشر في الشعب يوم 19 - 03 - 2014

الفقهاء والفلاسفة.. ابن تيمية يبدأ الحملة على أرسطو قبل علماء عصر النهضة
ابن تيمية: لا «حد» المناطقة يفيد التصور ولا قياسهم طريق لليقين.. والمنطق لا يصلح لدراسة الطبيعة.. والاستقراء هو المنهج العلمى
فرانسيس بيكون: بعد ألفى سنة من تخريط المنطق وفرمه بالآلة التى اخترعها أرسطو.. سقطت الفلسفة وفقدت الاحترام
روجر بيكون: لو تُركَت لى الحرية لأحرقت كتب أرسطو جميعًا.. فدراستها لا تؤدى إلا إلى الضياع والجهل
لم يدرس ابن تيمية الفلسفة باحثا عن الحقيقة، كما كان مدخل الغزالى إلى دراستها، ولكنه درسها ليتمكن من بيان بطلان ما يعارض الدين منها؛ فهو -بتعبير الشيخ أبى زهرة- «آمن بما جاء به الرسول أولا، ثم أراد أن ينفى عنه خبث الفلسفة».
ولم يتقيد ابن تيمية فى تفكيره إلا بالكتاب والسنة ومناهج الصحابة والتابعين فى فهمهما، وبحكم العقل المستقيم. وقد هاله ما زعمه الفلاسفة من أن أدلة القرآن ظنية لا تفيد اليقين القطعى، وأنهم محتاجون إلى منطق أرسطو لإقامة أدلة برهانية يقينية. وننقل هنا عبارته: «لو سُوِّغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم، لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به هدى ولا علم؛ فالذين سلكوا هذا السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته وشكه.. فثبت بشهادته وإقراره على نفسه، أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه، ولا معرفة يسكن بها قلبه، والذين ادعوا فى بعض المسائل أن لهم معقولا صريحا يخالف الكتاب، قابلهم آخرون من ذوى المعقولات فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يدعى معارضة الكتاب به من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صريح، إما بشهادة أصحابه، وإما بظهور تناقضهم، وإما لمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات؛ فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب، فكيف بغير هؤلاء؟!».
والفكرة التى يؤكدها ابن تيمية هي أن اختلاف الفلاسفة فيما بينهم ومعارضتهم بعضهم بعضا يؤكد أن الوسائل التى يتبعونها ليست يقينية كما يزعمون، وإلا لكان كل من يعرف كيف يستخدمها يصل إلى الحقيقة، والحقيقة واحدة لا يختلف الناس بشأنها؛ فهذا الاختلاف يؤكد أن المناهج الفلسفية إنما تقود إلى نتائج ظنية احتمال الخطأ فيها قائم، ولا يمكن التعويل على مثل هذه المناهج فى معارضة القرآن. ويعود إلى هذه الفكرة بشكل أوضح فى كتابه «موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول» فيقول: «العلم الإلهى لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلى يستوى فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولى تستوى فيه أفراده؛ فإن الله سبحانه ليس كمثله شىء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوى أفرادها، ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة فى المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى يقين، بل تناقضت أدلتهم».
وسنقصر عرضنا على بعض ما ساقه ابن تيمية للبرهنة على تواضع قيمة منطق أرسطو كأداة تضمن سلامة التفكير وصحة نتائجه؛ ليتضح لنا موقفه من الفلسفة، دون أن نحاول شرح المناهج البديلة التى وضع أصولها واعتمد عليها فى تفكيره؛ فلهذا مجال آخر.

منطق أرسطو

قال المناطقة إن العلم إما تصور وإما تصديق. والتصور يهدف إلى معرفة حقيقة ما هو موجود، والتصديق يتعلق بإصدار حكم عقلى فى قضية معينة.
أما التصور فلا سبيل إليه –عندهم- إلا التعريف التحليلى، أو ما يطلقون عليه «الحد»، وهو -حسب تعريفهم- «القول الدال على ماهية الشىء»؛ وذلك مقابل التعريف الوصفى، الذى يطلقون عليه «الرسم»، وهو -حسب تعريفهم- «القول المؤلف من أعراض الشىء وخواصه». وهذا الرسم لا يفيد عندهم فى تصور الماهية الحقيقية للشىء؛ لأنه يصفه من الظاهر فقط.
وأما التصديق فلا سبيل إليه –عندهم- إلا «بالقياس المنطقى» الذى يتكون من مقدمة كبرى تكون قضية كلية يقينية، ومقدمة صغرى هى قضية جزئية، وينتج عنهما النتيجة؛ فعلى سبيل المثال: «كل ضدين لا يجتمعان» مقدمة كبرى، و«السكون ضد الحركة» مقدمة صغرى، والنتيجة هى أن الجسم لا يكون متحركا ساكنا معا؛ وذلك فى مواجهة «التمثيل» [قياس الفقهاء] الذى هو إضافة حكم شىء معلوم حكمه إلى آخر مجهول حكمه لاشتراكهما فى علة الحكم، و«الاستقراء»، الذى هو تصفح بعض الجزئيات لاستخراج حكم كلى مشترك ينسحب على كل الجزئيات الأخرى المشابهة التى لم تُفحَص.
وعند أرسطو فالتمثيل والاستقراء ليسا من القياس الصحيح، ولا يفيدان اليقين ولا يصلحان للبرهان فى قضايا المنطق.
والمناطقة يؤكدون أن سبلهم هذه هى التى تقود وحدها إلى العلم اليقينى، وأن غيرها لا يصلح للعلم اليقينى. وابن تيمية يؤكد أن الدعويين كاذبتان؛ فلا طرقهم تقود حتما ودائما إلى العلم اليقينى، ولا طرق غيرهم كلها عاجزة تماما عن الوصول إلى العلم اليقينى.

«الحد» لا يصور الحقيقة

ففى التصور يرد عليهم: «إنه [فى قولهم] لا تحصل التصورات إلا ب(الحد)؛ [فهذه] قضية سالبة [وتحتاج إلى إثبات] وليست بديهية؛ فمن أين لهم هذا؟! وإذا كان هذا قولا بلا علم، كان أول ما أسسوه القول بلا علم أساسا لميزان العلم الذى يزعمون أنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل فى فكره). إن (الحد) هو مجرد قول الحادّ [الشخص الذى يضع الحد] ودعواه؛ فإنه إذا قال: حد الإنسان -مثلا- أنه (الحيوان الناطق أو الضاحك) فهذه قضية خبرة، ومجرد دعوى خالية من حجة؛ فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها من دون هذا القول أو لا يكون؛ فإن كان عالما بصدقها ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد، وإن لم يكن عالما بصدقها فإنه بمجرد قول المخبر الذى لا دليل معه لا يفيده العلم، كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم فى قوله؟! فقد تبين أنه على التقديرين: ليس الحد هو الذى يفيد معرفة المحدود».
والواقع أن كلام ابن تيمية يصعب تفنيده: إذا لم تكن تعرف ماهية الشىء فعلا فلن يمكنك قبول «الحد» الذى يدعى الفيلسوف أنه هو ماهية هذا الشىء؛ لأن إجراءات المنطق لا تنطوى على عملية إثبات صحة الحد؛ فكيف يصرون على أن التصورات لا يمكن تحصيلها إلا بالحد، فى حين أن التصور يجب أن يكون موجودا بالفعل وإلا لم يمكن قبول الحد.
وفى كتابه «نقض المنطق» يسرد ابن تيمية ستة عشر وجها لبطلان زعم المناطقة أن الحد هو السبيل الوحيد لتصور ماهية الشىء. وانظر إلى واحد منها فقط لتعرف أسلوبه العقلى فى المناقشة:
«إن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها، فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر ما يعرف، ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك. أما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ. وليس شىء من ذلك يفيد تصور الحقيقة؛ فالمقصود أن الحقيقة إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولى، وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولى.. فإن من عرف المحسوسات المذوقة –مثلا– كالعسل، لم يفده الحد تصورها، ومن لم يذق ذلك، كمن أخبر عن السكر وهو لم يذقه، لم يمكن أن يتصور حقيقة الكلام بالحد، بل يمثل له ويقرب إليه، ويقال له طعمه يشبه كذا، أو يشبه كذا وكذا. وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذى يدّعونه. وكذلك المحسوسات الباطنة، مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك؛ من وجدها فقد تصورها، ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد، ولهذا لا يتصور الأكمه [المصاب بعمى الألوان] الألوان بالحد، ولا العِنّين [العاجز جنسيا] الوقاع [الاتصال الجنسى] بالحد؛ فإذن القائل بأن الحدود هى التى تفيد تصور الحقائق، قائل للباطل».

والقياس المنطقى لا يفيد اليقين

وفى التصديق يفند قولهم: «إنه لا يُعلم شىء من التصديقات إلا بالقياس» –قياس الفلاسفة الشمولى لا قياس الفقهاء التمثيلى- فيقول: «هذه قضية سلبية نافية ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا على هذا السلب دليلا، فصاروا مدعين ما لم يبينوا الدليل؛ فمن أين لهم أنه لا يمكن لأحد من بنى آدم أن يلم شيئا من التصديقات التى ليست عندهم بديهية إلا بواسطة قياسهم المنطقى الشمولى؟! وقالوا: العلوم اليقينية لا تحصل إلا بالبرهان -الذى هو عندهم القياس الشمولى- وعندهم لا بد فيه من [مقدمة تكون] (قضية كلية موجبة).. فلا بد من العلم بتلك القضية أنها (كلية)؛ إن كان العلم بها بديهيا أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الأولى [أى لا يحتاج إلى برهان]، وإن كان نظريا [أى يكون الوصول إليه بالنظر العقلى] احتاج إلى علم بديهى [ليعمل كمقدمة فى البرهان]، فيفضى هذا إلى (الدور المُعْيِى) أو التسلسل، وهو باطل عقلا [أى أن المقدمات إما أن تكون هى نفسها بديهية، أو يلزم للبرهان على صحتها استخدام مقدمات بديهية]. وما من قضية من هذه القضايا الكلية التى تجعل مقدمة فى البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان». ويضرب على ذلك أمثلة عديدة؛ منها: «كل إنسان يعلم أن الشىء لا يكون متحركا ساكنا معا، ولا يحتاج إلى معرفة القضية الكلية (كل ضدين لا يجتمعان).. وهكذا فى كل ما يعلم تضادهما؛ إذا علم تضاد المعنيين علم أنهما لا يجتمعان [فهذا لازم فى العقل من لوازم التضاد]. وإن لم يعلم تضادهما لم يغنه العلم بالقضية الكلية (كل ضدين لا يجتمعان). إن معرفة أن هذين المعنيين ما داما ضدين فلن يجتمعا يمكن [الوصول إليها] بدون العلم بالمقدمة الكبرى (إن كل ضدين لا يجتمعان)؛ فلم يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذى خصوه باسم البرهان».
وبالجملة، فإن ابن تيمية يرى أن حاصل القياس المنطقى فى أغلب الأحوال هو إثبات ما هو ثابت بالفعل، كقولك كل إنسان حيوان، وأحمد إنسان، إذن أحمد حيوان، لو لم تكن تعرف من قبل أن الإنسان أحمد هو حيوان لما أمكنك قبول أن كل إنسان حيوان.. وهكذا.

بذور المنهج العلمى

وليس معنى ذلك أن ابن تيمية ينكر قيمة القياس المنطقى بالكلية، ولكنه يرى «أن ما ذكروه من صور القياس ومواده، مع كثرة التعب العظيم، ليس له فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه (بقياسهم) المنطقى يمكن علمه بدونه. أما ما كان فى الموجودات الجسمانية ويسمونه بالعلم الطبيعى، فوجه قصوره [أى القياس المنطقى] أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التى تستخرج بالحدود والأقيسة، كما فى زعمهم، وبين ما فى الخارج [أى الموجودات المادية فى الطبيعة] غير يقينى؛ لأن تلك أحكام كلية ذهنية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل فى المواد ما يمنع من مطابقة الذهنى الكلى للخارجى الشخصى، إلا ما يشهد له الحس من ذلك؛ فدليله شهوده بالحس لا تلك البراهين؛ فأين اليقين الذى يجدونه فيه؟!».
وفى الفقرة الأخيرة نلمح الفكرة الأساسية لابن تيمية، وقد شرحها، لكن ليس هنا موضع التفصيل فيها، وهى الفكرة التى نشأ حولها منهج البحث العلمى التجريبى الحديث فيما بعد، وهى أن الأشياء الموجودة فى الطبيعة يجب فحصها وإجراء التجارب عليها لمعرفة خصائصها، ولا يصلح فى العلم الطبيعى قياسات منطقية ولا تأملات عقلية. وإذا كان هذا يبدو لك بديهيا واضحا الآن، فإن أرسطو كان فى الواقع يختلف معك تماما.
وهكذا نرى ابن تيمية لا يعترض على منطق أرسطو اعتراضا على التفكير العقلى، بل هو يعترض على زعم الفلاسفة أولا أن هذا المنطق هو الطريق الوحيد لليقين؛ فهناك طرق أخرى غيره، وعلى زعمهم ثانيا أنه طريق مضمون؛ فهو فى نظره لا يوفر ضمانة أكيدة، ويجوز أن يصيب أو يخطئ، وهو بعد ذلك «يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدا، واليسير منه عسيرا»، بالإضافة إلى مساهمة ابن تيمية الهامة فى لفت النظر إلى عدم جدوى المنطق فى البحث العلمى الذى ينبغى أن يقوم على الملاحظة والتجريب. ولعلك لاحظت أنه كان فى كل اعتراضاته يسلك منهجا عقليا مستقيما لا غبار عليه.

* * * * *

المنطق والعلم الحديث

أحسب أننا قد أثبتنا خطأ ما ذهب إليه الدكتور فؤاد زكريا وشيعته من أن علماء المسلمين رفضوا المنطق؛ لأنهم رأوا أن التفكير المنطقى سيبعد بالمسلمين عن الإيمان، بل على العكس تماما؛ لقد احتفى بعض أهم علماء السلف -حجة الإسلام أبو حامد الغزالى لم يكن الوحيد فى ذلك- بالمنطق، واستخدمه لإثبات أن الفلاسفة هم الذين أساءوا استخدامه. أما الذين هاجموا المنطق (ابن تيمية مثلا) فلم يهاجموا التفكير العقلى المنظم، بل أرادوا حماية العقل وإطلاقه من عقال المنطق الأرسطى الصورى إلى رحابة الفكر المنظم المستقيم بكل طرقه.. ولقد كانت هذه هى الإرهاصات الأولى لإطلاق سراح العقل فى الطريق إلى بناء المنهج العلمى التجريبى الحديث للبحث؛ فالعلم الحديث لم ينطلق إلا بعد أن تحرر من منطق أرسطو وسار فى الطريق الذى كان ابن تيمية من أوائل من سلكوه على درب الاستقراء المنهجى، طارحا خلفه قياس أرسطو.. ودعونا نسمع الشهود.
فأرسطو رأى أن القياس المنطقى الذى يبدأ من قضية كلية هو الطريق الوحيد للوصول إلى معرفة يقينية. أما الاستقراء فلم يعترف به إلا إذا تم تصفح كل جزئيات الموضوع. أما تصفح بعضها لاستنتاج حكم وسحبه بعد ذلك على سائر الأفراد فلم يعتبره منتجا للعلم اليقينى، ولكن العلم الحديث أقام بنائه كله على فحص بعض العينات وإجراء التجارب عليها واعتبار أن النتائج تصف خصائص كل الأفراد المتشابهة لا العينات موضوع البحث فقط.. هذا هو بالضبط الاستقراء الذى دافع ابن تيمية فى منهجه التجريبى عن قيمته فى مجال البحوث الطبيعية؛ وذلك ضد المناطقة الأرسطيين.
يقول ويل ديورانت فى كتابه «قصة الفلسفة»: «إن ما يثير فينا الاستياء من أرسطو فى المقام الأول هو إصراره على المنطق؛ فهو يعتقد أن القياس المنطقى هو وسيلة الإنسان الصحيحة للتفكير السليم، مع أنه مجرد وسيلة يلبس فيها المرء تفكيره لإقناع عقول الآخرين، وهو يفترض أن الفكر يبدأ بالمقدمات ثم يبحث عن نتائجها، بينما فى الحقيقة يبدأ الفكر بالنتائج الافتراضية ويبحث عن مقدمات تبررها».
ولقد كانت بداية المنهج العلمى التجريبى فى أوروبا عندما قام فرانسيس بيكون -الذى يصفه بعض مؤرخى الفلسفة بأنه أعظم عقل فى العصور الحديثة- بتأصيل أسس الاستقراء المنهجى -بعد ابن تيمية بنحو أربعة قرون- وقال فى كتابه «الأدلة على البحث الجديد»: «إن خطأ فلاسفة اليونان الكبير هو أنهم صرفوا وقتا كبيرا فى النواحى النظرية والقليل فى الملاحظة والبحث العلمى، ولكن الفكر يجب أن يكون مساعدا للملاحظة لا بديلا عنها»، ويقول: «والآن بعد ألفى سنة من تخريط المنطق وفرمه بالآلة التى اخترعها أرسطو، سقطت الفلسفة إلى درجة فقدت احترام الجميع. يجب أن نقذف بجميع نظريات القرون الوسطى والجدل والحوار والنظريات التى تحتاج إلى إقامة البرهان بعيدا وننساها». ويزخر كتابه «تقدم التعليم» بالهجوم على أرسطو وتلامذته فى العصور الوسطى، وعلى الاستدلال القياسى. وفى فقرات من كتابه «البناء الرائع» يقول: «إن القياس المنطقى لا يطبق على المبادئ الأولية للعلوم، ويطبق عبثا على البديهيات الوسطى، وهو فى هذا لا يبارى الطبيعة دقة، وهو يقود إلى التسليم بالقضية شكلا ويهرب منه الموضوع»، كما نجد أشد من هذا عند روجر بيكون: «لو تركت لى الحرية لأحرقت كتب أرسطو جميعا؛ وذلك لأن دراستها لا يمكن أن تؤدى إلا إلى الضياع وإلى الخطأ وزيادة الجهل».
ألا يلاحظ القارئ أن هذا الكلام لا يختلف فى جوهره كثيرا عن مقولة ابن الصلاح التى عايرنا بها الدكتور فؤاد زكريا: «من تمنطق فقد تزندق»؟!
قد لا نعترف بقيمة كبيرة لمنطق أرسطو كأداة للتفكير أو طريق للعلم، لكنه فى الواقع أداة جيدة لعرض الأفكار وإدارة الحوار. عندما يبدأ المتحاوران فى وزن المقدمة الكبرى، فإن اتفقا بشأنها فقد قطعا نصف الطريق إلى تفاهم كامل؛ فإذا عالجا المقدمة الصغرى واتفقا بشأنها فقد صار قبول النتيجة أمرا ميسورا، وإذا اختلفا حول شىء ما فى المقدمات فقد حررا موضع الخلاف ليتعاملا معه بهدوء. لكن اتفاق المتحاورين لا يعنى بالضرورة أنهما قد وصلا إلى علم يقينى واتفقا حول الحقيقة؛ فاتفاقهما على المقدمات لا يضمن فى حد ذاته أنها صحيحة.
لقد كانت حدة ابن تيمية -وقد كان حادا فى كل مناقشاته عامة- من مستلزمات حالة الاشتباك إبان احتدام الصراع. أما بعد أن انجلت المواقف وانقشع غبار المعارك، فإن الشيخ أبا زهرة يوضح لنا الموقف النهائى لعلماء المسلمين فيقول: «إن المنطق يزن الاستدلال ولا ينشئ الدليل؛ فهو يقيس مادة الدليل، ولكنه لا يوجِد هذه المادة، ومثله فى ذلك كل العلوم الآلية؛ فعلم العروض لا يزيد مادة الشعر ولا يعطى المتكلم عبارات، وعلوم النقد البيانى تزن مراتب الكلام وأسرار بلاغته، ولا تمد المتكلم بأساليب البلاغة والصور البيانية. وتعلم المنطق والعلوم الفلسفية لا نحتاج إليها لنؤمن، ولكن يسوغ تعلمها ذودا عن الإسلام وحماية له ومجادلة بالتى هى أحسن؛ فعساهم يهتدون، ومن استمر منهم على المماراة والمهاترة، كان فى دراسة أساليبهم ما يفحمه ويلجمه.. تلك هى جدوى المنطق؛ فهو بحدوده وأشكال القياس المنطقى، وضروب التمثيل، يوضح الزيف فى القول. ويكفى أن يوضع الكلام الزائف فى شكل قياس منطقى، وتعرف الحدود فى كل أجزائه، ويعرف العموم والخصوص فى مقدماته، ليتبين الخبيث من الطيب. ولكن المنطق لا يمكن أن يكون وحده طريقا للإنتاج العقلى؛ فإن ذرائع الإنتاج العقلى لا تتقيد بالمنطق. قد يكون ميزانا ضابطا، ومع ذلك ليس هو وحده طريق الضبط العلمى؛ فإن سلامة الفطرة واستقامة العقل قد تغنى عنه كل الغناء».

* * * * *

وبعد..
لقد ركزنا فى هذه الدراسة على دحض مزاعم العالمانيين من أن رفض الفقهاء للفلسفة كان نتيجة خوفهم من أن إعمال العقل قد يضعف الإيمان، وأوضحنا من تراثنا الفكرى أن الفقهاء لم يرفضوا الفلسفة نفسها، بل رفضوا مقولات بعض الفلاسفة، وأن عدم استخدامهم المنهج اليونانى لم يكن بسبب عزوفهم عن المنهج العقلى، ولكن لأنهم تبنوا منهجا عقليا إسلاميا خالصا، استنبطوه من آيات القرآن وطريقته فى عرض الأدلة والبرهنة على قضاياه، واستخدموا منهجهم فى العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية جميعا، ثم جاء الباحثون فى بدايات عصر النهضة الأوروبى ليعتمدوا المنهج ذاته ويبنوا عليه العلم التجريبى الحديث، لكننا لم نتوسع فى عرض النهج العقلى للمسلمين. ولعل هذا يكون موضع دراسة مستقلة؛ فقد كان هدفنا هو التصدى لمزاعم العالمانيين، هدانا الله وإياهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.