صباحي لم يكن سكر، مع تقديري للرائع نزار قباني، ولا أعرف لماذا إنزعجت من ذلك، ربما لأنه لم يحدث جديد أم لأني صحوت متأثرة بكل أوجاع صباحاتي السابقة.. علي أي الأحوال خرجت وأنا أمني نفسي بأنه قد يحدث مايغير حالي فيما أردد مع محمد منير "إمتي أغني وأعيش"، حتي وجدتها أمامي فابتسمت، وسألت الطفلة الجميلة - ابنة جيراننا - وقد فاجئتني حين بدت في الصباح الباكر في مدخل العمارة منهمكة، وهي تجلس علي السلم، بالرسم. فردت أوراقها علي ركبتها الصغيرة وانشغلت بخطوط قلمها، سألتها ان كانت تتسلي بالرسم الي حين يأتي "باص" المدرسة ؟.. أجابتني: "مش باتسلي، أنا بضيع وقت لغاية ماييجي الباص". استوقفني ردها، فتمهلت أمام نور ابنة الثامنة، اتأمل قامتها النحيلة وأصابعها الصغيرة الرقيقة وهي تواصل الرسم، ووجدتني أقول لها بلهجة متسائلة: لكن انت بتتسلي بالرسم لغاية ماييجي الباص.. مش كدة ؟. قلت الجملة وانا اتابع طريقي كما لو كنت انتهيت للتو من تلقين الصغيرة درساً في فهم معني الوقت، ومعني استخدامه، ومعني الاستفادة منه . فتوقفت مرة اخري حين ردت بصوت عالي أرادته واضحاً:" قلت لك مش باتسلي.. مفيش حاجة في الحياة أصلاً تسلي" ثم مدت يدها واعطتني الورقة التي كانت ترسم فيها وقالت:" كنت بارسم وطن جديد" ثم راحت تجري لتنضم الي الأطفال المتثائبين علي شبابيك "الباص" وتركتني في حيرتي لا أصدق أذني بعد ماألقت في وجهي بهذه الجملة الحاسمة: ماالذي أرادته هذه الصغيرة؟ وأي وطن جديد ترسمه؟ وماأدراها هي بأحوال الوطن القديم حتي تأمل بآخر جديد؟. نور لم تعرف لها وطن آخر غير هنا. التغيير الذي تنشده نور، لا بد أنه من حياتها إذاً، وهي تعبر عنه برسمها و بكلمات واضحة لا تعوقها طفولتها، فهل الطفولة في مصر أصبحت واعية بدرجة كافية حتي أنها لا تمنع الحلم بالتغيير؟ إن الصوت الذي نطقت به ابنة جيراننا الطفلة، وكان يرتجف غضباً، سقط في عقلي وفي قلبي مباشرة، في الوقت الذي كانت أذناي تكذبه. فأذناي أبت أن تصدق أن هذه الصغيرة تشعر بالفساد أو بالقهر أو بجفاف الحياة التي لاترويها تصريحات المسئولين عن غد مشرق سعيد. نور لا تدافع عن حياتها بالخيال.. نور تعرف ماتقوله وهي صادقة، وهذا ماأذهلني . هي قالت كلمتها.. ومشت، وأنا تسمرت في مكاني. نظرت في ورقة رسم الصغيرة ابنة الجيران، فوجدت شمس وشجر ونهر وأصدقاء، ابتسمت وأنا أرفع عيني عن خطوط رسمها الدقيقة التي تشد روحي بحنين الي اشياء قديمة كنت أظنها ماتت داخلي، فإذا بعيني تصطدم بإعلان كبير لمهرجان القاهرة لسينما الأطفال ودورته العشرين .. هذا المهرجان الذي أثبت دائماً أن كلمة "تغيير" ليست واردة في قاموسه، وأن مقولة "تغيير الحال من المحال" هي شعاره الأبقي، عكس مايؤكد القائمين عليه وإدارته المتفائلة جداً بلا مبرر واضح لهذا التفاؤل، حيث يكتفي المهرجان بتكرار نفس الشعارات ونفس التصريحات والإنتقادات من دون أن يحقق شيئاً في الواقع، اللهم تغيير عناوين الأفلام وبعض الشكليات فيما تظل الأهداف والطموحات الرئيسية للمهرجان معطلة بداية من حلم إبتكار وتصميم شخصية كارتونية عربية، وحتي هدف تأسيس ودعم صناعة سينما أطفال عربية، وهي القضية التي تبناها المهرجان منذ بدايته في العام 1990 دون فائدة، بل أن المهرجان لايجد كل عام سوي الأفلام الأمريكية للإفتتاح مع إستثناءات قليلة، في الوقت الذي تبدو فيه المشاركة المصرية والعربية هزيلة جداً أمام الأفلام الأوروبية، بل والإيرانية والصينية وحتي الهندية.. والأمر يمتد إلي واقع مأزوم فعلياً تعيشه السينما العربية عموماً، وينطبق علي الطفل العربي الذي يعاني هو الآخر وضعية مأزومة سواء علي الصعيد الإقتصادي أو الثقافي أو الإجتماعي، فلايمكن تجاهل الجرائم الإجتماعية التي تهدد شريحة كبيرة من الأطفال العرب في مقدمتها العمل تحت السن القانوني والتشرد والتسرب من التعليم والفقر والتفاوت الشديد في توصيل الخدمات التربوية والتعليمية بين أطفال البلد الواحد. أعود الي نور وأنظر إلي رسمها الدقيق ثم أتذكر مقولة قديمة للدكتور فؤاد زكريا إنتقد فيها محاولة القفز علي مشكلات الواقع والتعلق بشعارات من الخارج بصرف النظر عن مدي ضرورتها الملحة والعاجلة في خدمة قضايا المجتمع حيث قال: ليس من الصحيح أن نفكر في الصعود إلي القمر في الوقت الذي نعجز فيه عن حل مشكلة تكدس القمامة في شوارعنا. [email protected]