بداية أود أن أشير إلي أن إقامة إثيوبيا لسد النهضة فوق الهضبة هو عمل من أعمال السيادة، بشرط ألا يخل هذا بالاتفاقيات الموقعة بين دول حوض النيل العشرة ' مصر، أوغندا، تنزانيا، الكونجو، السودان، بورندي، رواندا، أثيوبيا، جنوب السودان '. الاتفاقيات التي تحكم العلاقة بين دول حوض النيل من حيث الحصص المائية بدأت من بورتوكول روما عام 1891، ثم اتفاق أديس أبابا عام 1902، ثم اتفاق لندن عام 1906, أخيراً وصولاً إلي اتفاقيتي 1929 و 1959 مع مراعاة التوازنات الإقليمية، والدولية والمصالح المتبادلة بين الدول التي تلعب دورا في سياسة دول حوض النيل وعلاقاتها مع الخارج. ونلاحظ أن إتفاقية تقاسم مياه النيل الموقعة عام 1929 والتي أبرمتها الحكومة البريطانية كسلطة احتلال ونيابة عن أوغندا وتنزانيا وكينيا، مع الحكومة المصرية تضمنت الإقرار بحصة مصر من مياه النيل، وحق مصر في الاعتراض علي أي مشروع علي النهر أو روافده من شأنه أن يؤثر علي حصتها المقررة من المياه. بينما جاء إتفاق 1959 بين الخرطوم والقاهرة في إطار شروع مصر في تنفيذ مشروع السد العالي، ليؤكد إتفاق البلدين علي إنشاء السد، فضلا عن توزيع الفائدة المائية من السد العالي والبالغة 22 مليار متر مكعب سنوياً توزع علي الدولتين بحيث يحصل السودان علي 14.5 مليار متر مكعب وتحصل مصر علي 7.5 مليار متر مكعب ليصل إجمالي حصة كل دولة سنوياً إلي 55.5 مليار متر مكعب لمصر و18.5 مليار متر مكعب للسودان. كما كذلك الإتفاق علي قيام السودان بالإتفاق مع مصر علي إنشاء مشروعات زيادة إيراد النهر بهدف استغلال المياه المهدرة في بحر الجبل وبحر الغزال وبحر الزراف وحوض النيل ألأبيض ونهر السوباط وفروعه، وإنشاء هيئة فنية دائمة مشتركة لمياه النيل بين مصر والسودان، أي أن الأمور كانت تسير في صالحنا. لكن مما لا شك أن مرور الزمن وتغير القيادات وتبادل الأدوار في عالم السياسة و الاحتياجات الاقتصادية و زيادة عدد السكان في حوض النيل و تنامي الاحتياجات البشرية للمياه سواء للاستخدام أو مشروعات التنمية جعل كثيرا من الإتفاقيات في حاجة إلي إعادة نظر بما يتفق والوضع الراهن للأمم والشعوب، وبما يحقق مصالح كافة الأطراف المعنية، كما نطالب نحن بتعديل اتفاقيات الغاز الموقعة لمدة خمسة عشر عاماً مع بعض الدول و التي وقعت دون الأخذ في الاعتبار المتغيرات التي تؤثر علي أسعار الطاقة. السرد التاريخي السابق كان لابد منه لمعرفة جذور الأزمة، لكن من حيث المبدأ ليست هناك اتفاقيات أبدية فأثيوبيا لها مصالحها في نهاية الأمر.و في الوقت الذي تشهد فيه الساحة المصرية جدلاً يهدد أثيوبيا بكل الوسائل المتاحة حتي الحرب، فإنني لا أجد أزمة في موضوع سد النهضة الأثيوبي يستدعي هذا الجدل إذا ما نظرنا إلي الأمر نظرة موضوعية و علمية و دون انفعال و عصبية، فقيام أثيوبيا بتحويل مجري نهر أباي الذي يطلق عليه فيما بعد عند دخوله السودان النيل الازرق، لا يشكل أي مشكلة مائية لنا، و هو إجراء طبيعي في حالات بناء السدود و قد قمنا بذلك إبان بناء السد العالي، أما السد نفسه سد النهضة فهو سيبني علي هضبة، تجعل من تخزين المياه خلفه عملية صعبة و تشكل عبء و ضغط علي جسم السد نفسه و لذلك، بمجرد أن تقوم أثيوبيا بتخزين كميات المياه المطلوبة لإدارة توربينات توليد الكهرباء، ستصرف المياه بمعدلاتها الطبيعية و ربما تكون بكميات أزيد لتخفيف الضغط عن السد. بمعني أن نقص المياه عندنا قد يحدث في أربع أو خمس مواسم فيضان و أقول نقص و ليس منع، لأن منع المياه من التدفق من فوق الهضبة عملية شبه مستحيلة، نقص المياه قد يؤثر بلا شك علي كميات المياه اللازمة لتوليد الكهرباء في السد العالي، و علي كمية المياه الواردة لمصر بصفة عامة. لكن من ناحية أخري أليس نحن من وضع أصبعه تحت ضرس دول حوض النيل و كان يجب علينا استغلال مصادر الطاقة التي لدينا، لحل مشاكلنا مع نقص الطاقة، و أعني طاقة الرياح و الطاقة السمشية، لأني من غير المؤيدين لاستخدام الطاقة النووية نظراً لطبيعة شعبنا، كما أنها ستصبح وسيلة ضغط سياسي علينا من جانب من يعطينا الوقود النووي. أما مشاكل المياه فقد كان يجب علينا الاتجاه إلي تحلية مياه البحر الذي يحيطنا من كل جانب، لكننا للأسف أهدرنا كل هذا و نتسول من دول حوض النيل الفقيرة و نسترضيها. من هذا المنطلق أري أن تقوم الحكومة بالتفاوض بالطرق الدبلوماسية للحصول علي أي مكاسب من دول حوض النيل و من أثيوبيا علي وجه الخصوص كأن تجعلها تطيل فترة ملئ خلف السد بحيث لا ثؤثر هذه العملية علي منسوب المياه خلف السد العالي مثلاً و هذا أمر ممكن. لكنهايجب أن تأخذ في اعتبارها قضيتين رئيسيتين و هما استخدام الطاقة المتجددة ' الرياح – السمش ' بكثافة و إعطاء أولوية للاستثمار في هذا المجال، و تحلية مياه البحر فهذه يجب أن تكون في أولويات استراتيجيتنا في المرحلة القادمة.