كان البنا مغرمًا بالغموض.. وقد فرضه علي الجماعة فلم يقدم تفسيرًا واضحًا لأهدافها أو طبيعتها.. وقد ظل الغموض أبرز سمات الإخوان منذ النشأة حتي اليوم.. كان يقول إنهم ليسوا جمعية خيرية، ولا حزبًا سياسيًا ، ولا هيئة موضوعية الأهداف محددة المقاصد.. ولكنهم روح جديد يسري في قلب الأمة.. وسئل عن برنامج جماعته فقال: 'ولم البرنامج؟ إنه يفرقنا' وقد اعترف قادة الإخوان بحرص البنا علي غموض دعوته.. وكتب أحدهم أن البنا لم يفصح عن جميع أهداف الإخوان ووسائلها جملة واحدة، وكان ذلك من دواعي التاكتيك.. ويؤكد أن الشيخ قد حدد من أول يوم للدعوة أسسها العقائدية والحركية.. وحدد مراحلها في نفسه ولكنه لم يفصح عنها إلا لخاصته بين الفينة والفينة.. ويقول طارق البشري: 'كان هذا الغموض يعفي الجماعة من تحديد الأهداف الواضحة فيما يتعلق بالقضايا السياسية الجوهرية التي تواجه الأمة كالمسألة الوطنية ومشكلات نظام الحكم ويعفيها من تفسير الموقف العملي الذي تتخذه في كل مناسبة، ويمنحها القدرة علي أن تطرح للناس موضوعًا أو مشكلة مغايرة تمامًا لما يشغل الجميع من مشكلات سياسية حالَّه في أي لحظة.. فكانت أقل التنظيمات السياسية المصرية تعرضنا للمسألة الوطنية وتحديدًا للموقف إزاءها.. وكان هذا مثيرًا للشكوك والغموض في أوقات كانت المسألة الوطنية خلالها هي بؤرة الاهتمام العام.. وقد تضمنت رسالة 'نحو النور' للبنا ما سمي بالموبقات العشر، ورد الاستعمار علي رأسها، ثم تضمنت خمسين مطلبًا للجماعة، لم يرد بها مطلب واحد يتعلق بالجلاء أو الاستقلال.. واكتفت ب'تقوية الروابط بين الأفكار الإسلامية جميعًا وبخاصة العربية منها تمهيدًا للتفكير الجدي والعملي في شأن الخلافة الضائعة!!'. وكأن حسن البنا كان يسعي لإخفاء دعوته وجماعته.. ويمّوه أهدافها ومراميها حرصا عليها.. وحفاظًا علي مستقبلها.. حتي يشتد عودها، وتقوي علي المواجهة.. قال لأنصاره يومًا: 'أحب أن أصارحكم بأن دعوتكم مازالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات.. أما الآن فلازلتم مجهولين ولا زلتهم تمهدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين، ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله.. وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان وستقف في وجوهكم كل الحكومات علي السواء'.. ولأن الغموض وحده لن يبني جماعة.. بل ربما يشتت أفكارها.. ويجبرها علي البحث عن الوضوح في مكان آخر.. فقد لجأ البنا إلي الشعارات المثالية.. وإثارة الحماس.. وإغراق اتباعه في متاهات الاستعلاء والعنصرية والخيلاء بأمجاد الماضي.. وقد وجدت طريقته تلك مجالها في أوساط الشباب.. وفي رسالته 'إلي الشباب' يؤكد لهم أن الله كتب لهم 'منزلة الزعامة بين العاملين وكرامة الأستاذ بين تلامذته' ويصفهم بأنهم 'سادة الدنيا وأساتذة العالمين' ويدعوهم أن يتقدموا باسم الله لإنقاذ العالم.. ثم يتحدث عن منهاج الإخوان 'محدود المراحل.. واضح الخطوات'.. يجملها في سبع نقاط تمتلئ بالعموميات والأوهام.. والتهاويم 'نريد أولا الرجل المسلم.. ونريد ثانيا البيت المسلم.. ونريد بعد ذلك الشعب المسلم.. ثم نريد الحكومة المسلمة.. ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز علي أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر علي الحكم بها والعمل عليها.. ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية.. ونريد بعد ذلك سادسا أن تعود راية الله خفاقة عالية علي تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينًا من الدهر.. فالأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلي أحضان الإسلام.. ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانا من قبل.. ويصل إلي المرحلة الأخيرة من منهاج الإخوان فيؤكد 'نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا علي العالم وأن تبلغ الناس جميعًا، وأن نعم بها آفاق الأرض، وأن نخضع لها كل جبار.. حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله'.. ولم تتوقف رسالة البنا عند حد.. بعد أنه أغرق أتباعه في أحلام الهيمنة علي العالم.. وسيادة الأرض.. وعودة 'راية الله' خافقة عالية علي العالمين.. وإنما أعلن عن احتكار جماعته للإسلام، واستئثارها وحدها به.. 'وإنما نعلن في وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج، ولا يعمل لتحقيقه لا حظ له في الإسلام.. فليبحث له عن فكرة أخري يدين بها ويعمل.. وهي الفكرة ذاتها التي مازالت قائمة في رءوس الإخوان حتي اليوم.. رغم أنهم لم يحققوا من مناهجهم المعلن شيئًا علي الإطلاق.. لأنه منهاج وهمي.. لم يأخذوا منه غير الاستعلاء الذي لا أصل له.. والخيلاء دون سبب.. والاستقواء والأثرة.. والاحتكار.. وكلها سبل تؤدي إلي العنف.. والإرهاب.. شأن كل الحركات الفاشية التي اكتوت بها البشرية وعاناها العالم.. في مقابلة بين لطفي السيد 'رئيس الجامعة المصرية' ود.طه حسين 'عميد كلية الآداب' جاء ذكر الإخوان.. فتساءل لطفي السيد عن طبيعة هذه الجماعة وأهدافها.. فرد طه حسين بسخريته المعروفة ليلخص الموقف في عبارة واحدة.. قال: إنها جماعة تريد أن تستعيد الأندلس..