لا أخفي أنني كنت واحدا من أكثر الحالمين، بل التواقين إلي تحرير صناعة الخبز بوصفي واحدا من 'المعجونين' في العمل العام بقريتي وخصوصا فيما يتعلق بهذه الصناعة ، وكاد قلبي يطير فرحا حينما رأيت الحلم يكاد يتجسد علي أرض الواقع بإعلان وزارة التموين بدء تطبيق منظومة جديدة تعتمد علي تحرير سعر الدقيق للمخابز وقصر الدعم علي المنتج النهائي 'الرغيف' المقدم للمواطن. غير أن الحلم سرعان ما تبدد، وتحول إلي كابوس بمجرد بدء تنفيذ هذا 'المشروع' علي الأرض، وقد تبين أن ما تم تسويقه للناس علي أنه 'مشروع' ما هو إلا محاولة للضحك علي الذقون وتبييض غير مبرر لسمعة لأصحاب المخابز ينبئ بكل وضوح بأن ما تم نهبه خلال سنوات طوال لن يقارن بما يتم التخطيط لنهبه فيما هو قادم، ويلقي بظلال كثيفة من الشك حول تصرفات وزير التموين ودوافع حكومة هشام قنديل التي ترعاها جماعة الإخوان المسلمين. ولكم أن تتخيلوا حجم الجريمة التي يرتكبها وزير التموين إذا ما علمنا أن وزارة التموين كانت تعطي جوال الدقيق زنة 100 كجم للمخبز في المنظومة القديمة بسعر زهيد يبلغ 16 عشر جنيها، الأمر الذي كان يدفع أصحاب المخابز إلي بيعه في السوق السوداء بمبلغ يصل إلي 250 جنيها للجوال للاستفادة من الفارق الرهيب في السعر، وكانت فكرة وزارة 'باسم عودة' لسد هذا الباب ' لاحظ كلمة سد الباب' أن يتم بيع الدقيق للمخابز بسعر السوق الحرة وقصر الدعم علي المنتج النهائي 'الرغيف'، لكن ما حدث هو أن وزير التموين فتح الباب ' لاحظ فتح الباب' لبيع الدقيق في السوق السوداء بعدما قرر إعطاء الدقيق للمخابز مجانا في المنظومة الجديدة ' أؤكد: والله مجانا'، وفوق كل ذلك يعطي للمخبز حافز إنتاج ومكسبا يبلغ مقداره 80 جنيها عن كل جوال يتم خبزه '!!'، ولكم أن تتخيلوا لو أن صاحب مخبز قام بتسريب ثلاثة أجولة فقط إلي السوق السوداء يوميا وأثبت له موظف الوحدة المحلية 'الفاسد أو الغلبان' في الدفتر أنه قام بإنتاجها، هذا يعني أن صاحب المخبز سيدخل جيبه يوميا 750 جنيها ثمن بيع الأجولة التي تسلمها بالمجان بالإضافة إلي نحو 250 جنيها 'حافز خبيز لم يخبزه' فتكون المحصلة اليومية 1000 جنيه، أي ثلاثون ألف جنيه شهريا ببركة وزارة التموين والوحدات المحلية، إذا ما تغاضينا عن باقي المكسب 'الحلال' في حال إنتاج باقي الحصة وعلي افتراض وجود مفتش تموين يراقب جودة ووزن الرغيف غير طامع في الحصول علي نصيبه من 'النهيبة ' أو لديه من الأدوات ومن الأخلاق ما يستطيع أن يجبر صاحب المخبز علي إنتاج رغيف صالح للاستهلاك الآدمي. فعلي مدي سنوات كانت سياسة دعم 'أو قُل: نهب' رغيف الخبز تدار وفق آلية فساد ممنهجة ومعروفة، يديرها ويرعاها طرفان، الحكومة بأجهزتها من ناحية وأصحاب المخابز من ناحية أخري، وقد وضعت الحكومات السابقة نصب أعينها تعطيل ' أو تغييب' دور مفتشي التموين المعنيين أساسا بالإشراف علي عملية إنتاج الخبز وذلك بعدم تحسين دخولهم بما يكفي لمواجهة ما يتحملونه من أعباء، وما يمارس عليهم من ضغوط، وما يصادفهم من إغراءات، إضافة إلي ضآلة أعدادهم بعد أن تم وقف تعيين مفتشي تموين جدد منذ سنوات طويلة.. كل هذا ساهم في وضع هؤلاء المفتشين أمام خيارين لا ثالث لهما ، الأول هو أن يراعوا ضمائرهم، ويصارعوا إغراءات وضغوط الكثيرين من أصحاب المخابز الذين يتواري الفساد خجلا أمام جشعهم ومكائدهم فيتعرض هؤلاء المفتشون للبهدلة وقد يضيع مستقبل أحدهم إن لم تضع حياته نفسها 'أطلق صاحب مخبز في البحيرة النار علي مفتشي تموين رفضا التغاضي عن مخالفاته فأرداهما قتيلين منذ أيام قليلة'، والثاني أن يسقط مفتش التموين تحت وطأة ضغوط الحياة فيبيع نفسه للشيطان ويلجأ إلي 'تفتيح المخ' أو إلي 'ترييح الدماغ' فيمد يده إلي ما لا حق له فيه، ويصبح أسيرا لهوي صاحب المخبز، وكرة يتقاذفها أصحاب الضمائر الميتة لايستطيع يوما أن يقيم ناظريه في مواجهتهم أو يفسح المجال لمن أراد أن يحصل علي حقه منهم وهذا أضعف الإيمان، وتصبح عندئذ مطالبة من كان هذا شأنه ودأبه بأن يؤدي شيئا من واجبات وظيفته في ظل أي منظومة ضربا من المستحيل وتكليفا له بما لا يطيق. ومن كل ما سبق يتضح أن إسناد مهمة الإشراف علي ما يقال: إنه منظومة جديدة لتحرير أسعار الدقيق في ظل استمرار وضع مفتشي التموين علي ماهم عليه بأعدادهم المحدودة وتواضع أدوات الرقابة التي بحوزتهم فضلا عن ضعف أجورهم وفي ظل إسناد مهمة التوزيع إلي الوحدات المحلية بلا رقابة وبلا محاولة لتطبيق أفكار جديدة هو نوع من 'المسخرة' التي أعتقد أن أوضاع ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لن تسمح بها أو تسكت عنها.