عجبًا لأمر المسلمين اليوم كيف تمر بهم الأحداث والوقائع دون النظر والاستفادة منها ؟, وكيف مرت بهم الأيام وتمضي السنون دون فهم ثاقب للخروج من المأزق؟!, فمنذ بعثته -عليه الصلاة والسلام- إلى وفاته والآيات والأحاديث ترشد الأمة إلى الخير، وتعمق فيهم الصلاح، تحذرهم من الوقوع في الشرور والإجرام، وذلك لمن استرشد بهما وعمل بمقتضاهما . ما أن أعلن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم عن رغبته في حجة الوداع إلا وبلغ الخبر أصقاع الارض وأعرب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عن عزمهم أداء الحج مرافقة لسيد ولد أدم ،وما أن انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال الحج والعمرة إلا وقف خطيباً على رؤوس الأشهاد ليعلن في أخر لقاء معهم التأكيد على المبادئ العظيمة التي قام عليها الإسلام ، هنا نعرض لجزء من القيم والمبادئ التي نادي بها وأكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع والتي لم ولن تصل اليها المجتمعات البشرية في قوانينها أو تطبيقاتها إلى الأن وأهمها : 1 حرمة سفك الدماء بغير حق، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا...". فأين أمة الإسلام اليوم من تطبيق هذا المبدأ؟ وقد أخذ بعضها برقاب بعض، وتسلط القوي فيها على الضعيف، وآل أمرها إلى ما هو غير خافٍ على أحد، حتى أضحت في موقع لا تحسد عليه . 2 تأكيد مبدأ الوحدة والمساواة بين المسلمين: حيث إنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أسّس لمبدأ الأخوّة الإيمانية، ووحدة المسلمين منذ بداية الدعوة في مكة، حين شجّع على إطلاق العبيد، وحرص على تكريس الوحدة بين المسلمين في المدينةالمنورة، من خلال المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، والميثاق الذي تمّ بين الأوس والخزرج، وكما اهتمّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالوحدة بين المسلمين؛ لأنّه يعلم أنّ وحدة الأمة سببٌ لنصرها 3 تحديد مصدر التلقّي والقوة: فقد حدَّد الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر التلقّي والطريقة لحل مشكلات المسلمين والتي قد تعترض طريقهم، وهو الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما وهما: كتاب الله، وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد تعهُّد وضمن ذلك إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، وليبيّن للناس أن صلاحية التمسُّك بهذين الدليلين قائن إلى ما شاء الله ، وأنه لا يمكن للمخلوق أن يتفوق على خالقه مهما بلغ من العلم وترقى في الدرجات ، وحتى تقوم الأمة الإسلامية قياماً صحيحاً، لا بُدّ من تطبيقه في مناهجها، وقوانينها، وسياستها، واقتصادها، وحربها، ومعاهداتها، فإنّه منهجٌ متكاملٌ، ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). 4 الأخوَّة في الله: فهي العُروة الوُثقى الَّتي تربط بين جميع المسلمين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). فلا جنس أفضل من جنسٍ، ولا لون أفضل من لونٍ، ولا عرق أفضل من عرقٍ، ولا قبيلة أفضل من قبيلةٍ، فكلّ المسلمين إخوةٌ، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (يا أيُّها النَّاسُ ألا إنَّ ربَّكم واحدٌ وإنَّ أباكم واحدٌ ألا لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعجميٍّ ولا لعَجميٍّ على عربِيٍّ ولا لِأحمرَ على أسودَ ولا لِأسودَ على أحمرَ إلاَّ بالتَّقوى) ، كما كان المعنى الأسمى للإنسانية أننا جميعا لأب واحد وأم واحدة نتعايش سلمياً على ظهر هذه الأرض فلا يؤذي أحداً أخوه في الإنسانية مهما كان اعتقاده أو لونه أو جنسه فقال :من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة. 5 تنظيم العلاقة بين أطياف المجتمع : بيَّن صلى الله عليه وسلم طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الزوج وزوجته ، وبين الكبير والصغير ، علاقة قائمة على الاحترام والمودة والتعاون والبر والتقوى ، وحدد كل علاقة بمفهومها وضوابطها حتى ينهض المجتمع بكل جوانبه. 6 الوقوف بجانب الضَّعيف: أوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرَّقيق فاعتبرهما نموذجان من الضُّعفاء، فقد شدَّد صلى الله عليه وسلم في وصيته بالإحسان إلى الضعفاء وأوصى خيرًا بالنساء حيث قال: (إنَّ لكم على نسائِكم حَقّاً، ولنسائِكم عليكم حَقّاً، فأما حَقُّكُم على نسائِكم فلا يُوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تَكْرَهُونَ، ولا يَأْذَنَّ في بيوتِكم لِمَن تَكْرَهُونَ، أَلَا وإنَّ حَقَّهُنَّ عليكم أن تُحْسِنُوا إليهِنَّ في كِسْوَتِهِنَّ وطعامِهِنَّ). القارئ الكريم : لقد أنصتت الدنيا بأسرها -بلسان حالها ومقالها- لتسمع قوله صلى الله عليه وسلم وهو يُلخص لأمته -بل للبشرية جمعاء- مبادئ الرحمة والإنسانية، ويرسي لها دعائم السلم والسلام، ويقيم فيها أواصر المحبة والأخوة، ويغرس بأرضها روح التراحم والتعاون وينهى عن العنف وسفك دماء الناس مهما كانت مبرراته ؛ وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم -بما أطلعه الله عز وجل عليه- أنه سيأتي على الناس حين من الدهر يودِّعون فيه هذه المبادئ، ويلقونها وراءهم ظِهريًّا، ويسيرون في عالم تسود فيه معايير القوة والظلم -ظلم الإنسان لأخيه الإنسان- ويُقدَّم فيه كل ما هو مادي على ما هو إنساني، فمتى تفيق الأمة لتعود إلى رشدها فتتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على سفك الدماء .