بعد أن وقعت مصر في قبضة الإخوان بالحيلة والخديعة والمراوغة، واستغلال الظروف الملتبسة، واللعب علي التناقضات.. أصبح من حق أي إخواني أن يصحو من نومه فيتمطي ويتثاءب.. ويفرك عينيه.. ثم يدلي بما شاء من تصريحات وفتاوي تمس جوهر الأمن القومي للوطن.. وتحدد استراتيجية الحكم.. وملامح السياسات الداخلية والخارجية.. والعلاقات الدولية.. وغيرها من الشئون الأساسية التي لا يمكن أن تُترك لتقدير شخصي، أو سلطة، أو هيئة.. وإنما تحتاج لتقدير سلطات الدولة مجتمعة وبالأسلوب الذي نص عليه الدستور وحدده القانون.. وقد يكون الأمر من الجسامة، أو يستعصي علي التوافق فيتم اللجوء إلي الشعب لمعرفة رأيه من خلال استفتاء تتوافر له جميع الضمانات لمعرفة الرأي الحقيقي للناس. وبالطبع - والأمر كذلك - ألا يحتاج أي إخواني إلي فهم عميق، أو تخصص، أو الاستعانة بالدراسات المتخصصة والخبراء حتي يكون علي دراية بما يُدعي للحديث عنه.. وإلقاء التصريحات والفتاوي بشأنه.. فقد اعتقد جميع الإخوان أن الألقاب التي أُلصقت بأسمائهم، والمسئوليات التي أوكلت إليهم.. والبدل اللامعة.. والنظرة الواثقة من ثبات الكرسي وسيطرة الجماعة، ودفء الأهل والعشيرة.. والنفس المطمئنة لنهج السمع والطاعة.. وبدء الكلام باسم لله وبآي من قرآنه الكريم الذي حض علي القراءة، والعلم، والصدق، والابتعاد عن اللغو.. والبعد عما لا ينفع الناس.. وإنهاءه بحمد لله ورجاء التوفيق والإثابة.. اعتقد الإخوان أن ذلك يكفي وزيادة لكي يكون الواحد منهم مطلق السراح، حرًا يقول ما يريد حتي لو كان فيه ما يهدد الوطن وأهله.. ويفعل ما يشاء من أول الكذب، والملاوعة، والاستفادة.. وممارسة ما لا يجوز داخل سيارته في الطريق العام.. والأمل قبل ذلك وبعده لن يكلف إلا ظهورًا متلفزًا للمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية ينفي تبني الرئاسة أو علمها بما قاله 'الأخ'، ثم يتلوه المتحدث الرسمي باسم الإخوان ينفي علمهم بما قاله 'الأخ' الذي عبر عن رأيه الشخصي وليس رأي الإخوان.. وينتهي الأمر دون مساءلة أو محاسبة.. أو غضبة رئاسية أو حزبية.. ودون توقيع أي عقوبة كما يحدث في البلدان المحترمة، والأنظمة المعتمدة المعترف بها.. والأحزاب الحقيقية. وخلال ستة أشهر هي كل مدة حكم وهيمنة الإخوان تكرر المشهد مرات مع كل من تحدث من المتربعين علي 'عرش مصر' في القصر الرئاسي.. أو المتمددين علي أرائك السلطة والنفوذ في المقطم.. ولكن المشهد هذه المرة جارح.. يمس طرفًا آخر يعرف كيف ينتهز الفرص.. ويستفيد من جهل الجاهلين، أو سهو الساهين.. واندفاع مراهقي السلطة والهيمنة والحكم.. المتصدرين للأمر دون مسوغ من قانون أو أحقية من أي نوع إلا الانتساب للإخوان.. وأخذ البيعة.. والالتزام بالسمع والطاعة في المنشط والمكره.. حتي لا يموت الواحد منهم وليس في عنقه بيعة فيموت ميتة الجاهلية.. وأكثرهم يستخدم تلك الصيغ يكررها يعيدها بلسانه.. أما قلبه فمنشغل بأمور أخري وطموحات لا حدود لها.. في سباق الحكم وماراثون القبض علي مفاصل الدولة. العريان.. يعظ!! في مقابلة مع الزميلة 'الوطن' قال القطب الإخواني د.محمد فريد عبد الخالق الذي يطوي الأيام ليصل إلي المائة بعد ثلاث سنوات بإذن لله.. إنه كان في زيارة لزميله حسني عبد الدايم عضو مكتب الارشاد في فترة التحضير لانتخابات مجلس الشعب 1984 ففوجئ - علي حد قوله - بواحد اسمه عصام العريان يقول له: 'يا أخ حسني.. أنا من إيدك دي لإيدك دي.. بس رشحوني'.. فمسكت أذنه بيدي وضغطت عليها، وقلت له: 'يا ولد انت في دعوة وليست مناصب دنيوية'. وفريد عبد الخالق كان من رفاق البنا الأوائل، رئيسًا لقسم الطلبة وعضوًا في الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد، ومشرفًا علي صحيفة الإخوان، عرف الاعتقال والسجن ولم يمنعه ذلك من إتمام دراساته العليا والحصول علي درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وتأليف عدد من الكتب المهمة ودواوين الشعر.. وقد زرته من فترة قريبة - وتحدثنا في أمور شتي لم يُتَح لها الظهور إلي النور بعدُ - مازال يقظ العقل، قوي الذاكرة، فطنًا لمَّاحًا.. متَّعه لله بالصحة وطول العمر وحسن العمل.. كان الوحيد من مساعدي البنا الذي رفض الانضمام للتنظيم السري وجاهر بضرورة تصفيته.. ولنا أن نعجب كيف استطاع بقوة الخبرة، وثقافة العمر أن يضع يده علي النقطة المركزية فيما يمثله عصام العريان.. الذي تقافز في ظل الحكم الإخواني 'بين عشرات الأيدي' فأصبح مستشارًا لرئيس الجمهورية ونائبًا لرئيس حزب الإخوان، وعضوًا معينًا بمجلس الشوري، ورئيسًا للهيئة البرلمانية للإخوان، وبين وقت وآخر يعنُّ له أن يمارس سطوته ويستشعر نفوذه ونفاذه.. ويلقي بتصريح أو رأي يشعل مشاعر الناس، ويسرع المتحدثان الرسميان للرئاسة والإخوان بمحاولات إطفاء الحريق.. وبالكلمات نفسها التي فقدت معناها.. وأصبحت هي والملاوعة والكذب سواء.. وقد عنَّ له مؤخرًا أن يقفز قفزة أكبر من قدرته.. وأبعد من خياله.. فلا هو قد درس القضية التي عرض لها، ولا هو قد ألمَّ بجوانبها المختلفة، ولا هو من يتحدث باسم مصر وشعبها، ولا هو الذي يخاطب أمريكا ويلعب معها لعبة السياسة.. ولا هو الذي يخدع إسرائيل ويغرر بها كما يتوهم.. ثم أخيرًا ليس هو من يتطاول علي جمال عبد الناصر ويكون لتطاوله أي صدي غير اللوم والازدراء.. وقد حاولت جماعته بأجيالها وفشلت.. كما حاول السادات وحاشيته، وإسرائيل، وأمريكا ومخلفات الاستعمار.. ومعهم الرجعية العربية.. وفشلوا جميعًا.. المهم أن عصام العريان تمطي وتثاءب وشعر بزهو السلطة يملأ أعطافه.. ويدير رأسه.. فطالب 'يهود مصر' بالعودة إلي موطنهم الأصلي.. ونعي علي جمال عبد الناصر القيام بطردهم.. وطار به الخيال، وسكرة السلطة.. فنطق عجبًا.. قال: إن قيام عبد الناصر بطرد اليهود هو الذي شجعهم علي احتلال أرض الغير.. وأن عودتهم إلي مصر تخلف فراغًا داخل إسرائيل سوف يشغله أصحاب البلد الأصليون وهم الفلسطينيون!!! مع أن أطفال المدارس يعرفون أن عام 1948 شهد حرب فلسطين وهزيمة العرب وقيام دولة الصهاينة.. ووقتها كان جمال عبد الناصر ضابطًا برتبة رائد يحارب ويحاصر في الفالوجا ويضرب المثل في الصمود مع قواته.. وأطفال المدارس يعرفون أيضًا أن كل ذلك قد جري قبل 65 عامًا، وأن من يسميهم العريان ب 'اليهود المصريين' لم يعد لهم وجود، وقد خلّفوا أولادهم الذين تربوا في أحضان الصهيونية فحاربوا مصر والعرب في 1956، 1967، 1973.. ولم يتوقف عدوانهم واضطهادهم يومًا واحدًا ضد عرب فلسطين والعرب في دول الجوار.. وتلاميذ المدارس يعرفون أن الإخوان لعبوا دورًا أساسيًا في دفع يهود مصر إلي الهجرة بعد ترويعهم وضرب مصالحهم إبان حرب فلسطين وقيام دولة إسرائيل.. وأن الوكالة اليهودية هي التي قامت بتنظيم وتدبير خروج اليهود بأموالهم من مصر لدعم الدولة الصهيونية.. وليس جمال عبد الناصر الذي يتهمه العريان الذي ينتظر ردة فعل أمريكا التي قصدها بوصلة غزله، ولكنها تعرف كذب المشاعر، وخلط الرأي والعواطف فلم تأبه لما قاله.. إسرائيل فقط هي التي أعلنت عن سعادتها البالغة لأسباب متعددة علي رأسها نوعية الحكام الجدد لمصر.. التعويضات بين مصر وإسرائيل والعريان من المؤكد أن العريان الذي أفسح صدره، وأغدق من خياله، وبالغ في الكرم والوعود وكأنه صاحب مصر أو كأنها الت إليه بالوراثة.. لا يعرف أن مصر - كما تردد - تطالب إسرائيل من زمن بتعويضها عن الخسائر التي نجمت عن احتلالها سيناء خلال الفترة من 67 - 1982 واستغلال موارد مصر النفطية والمائية والسياحية، إضافة إلي مناجم التعدين في سيناء، والآثار.. وقد تولي ذلك الملف خبراء اقتصاديون وأساتذة قانون دولي وعلماء جيولوجيا وغيرهم.. وقدّروا أن تلك التعويضات لا تقل عن عشرين مليار دولار، ولابد من استيفائها مع ما يترتب من فوائد 'كأحد مكاسب السلام مع مصر' علمًا بأن ما تتقاضاه مصر ثمنًا للسلام مع إسرائيل من أمريكا يبلغ 1.7 مليار دولار 'لا تمنح إلا بموافقة إسرائيل' بينما تتقاضي إسرائيل أحد عشر مليارًا للغاية نفسها بالاضافة إلي مكاسبها التي لا تحصي بدءًا من مرور سفنها عبر قناة السويس، والحد من تسلح مصر، وغير ذلك مما جاء في اتفاقية السلام.. مع أن مصر لم تطالب بحقوق الأسري الذين قامت إسرائيل بإعدامهم بالمخالفة للقوانين الدولية.. فقد انتفضت إسرائيل ورفضت بشدة مجرد الحديث عن أي تعويضات لمصر أو لأي أطراف عربية.. ورفضت سفارة إسرائيل في مصر مجرد مناقشة الأمر، كما رفضت إسرائيل حقوق الفلسطينيين في العودة والتعويضات التي أقرتها المنظمات العالمية والمجتمع الدولي.. ولكن كل ذلك نُسي تمامًا أمام دعوة العريان ومبادرته.. وصرح 'داني أيالون' نائب وزير الخارجية الإسرائيلية بأن ملايين اليهود الذين استُبعدوا عن مصر والدول العربية يستحقون الحصول علي تعويضات مالية.. وأعلنت الخارجية الإسرائيلية أنها تكثف جهودها لإعداد خطة تُلزم مصر والدول العربية بصرف تعويضات مالية لليهود الذين كانوا يعيشون علي أراضيها في الماضي وغادروا إسرائيل بعد 1948، وأوضحت الإذاعة العامة الإسرائيلية في مستهل نشراتها الإخبارية أن الدائرة القانونية في وزارة الخارجية تسعي لانتزاع اعتراف عربي باليهود الذين غادروا أراضيها وتوجهوا إلي إسرائيل بوصفهم لاجئين يستحقون الحصول علي تعويضات مالية عن ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم.. وقد جاءتهم الفرصة علي طبق من ذهب، وعلي لسان مستشار رئيس جمهورية مصر ونائب رئيس الحزب الحاكم والنائب بمجلس الشوري.. والذي تمثل شهادته العلنية باعتباره مسئولاً دليل إثبات لمطالب إسرائيل التي بدأت في تحريكها أمام السلطات القضائية الدولية.. وقد بادرت منظمات وقوي سياسية يهودية إلي إعلان تقديرها للعريان وحكم الإخوان.. وانهالت التهاني علي د.مرسي بالدستور الجديد، وشكر العريان علي دعوته لليهود بالعودة والتعويض.. وقد ذكَّرت الهيئة اليهودية الفرنسية بأن التعويضات تُقدر بثلاثين مليار دولار.. ولاحظ أن التعويضات المطلوبة لمصر والتي رفضتها إسرائيل بحسم عشرون مليار دولار. أصل الحكاية من المؤكد أن اللغو وإلقاء الكلام علي عواهنه أسهل ألف مرة من محاولة البحث الجادة عن معلومة حقيقية يمكن أن تفيد.. ولو أن من يتصدي للأمور العامة امتلك ضمير الباحث واهتمام الملتزم بمصالح أمته لكان الموقف قد تغير تمامًا.. ولكانت المشكة التي نجمت عن تصريحات العريان، والتي لن تُمحي آثارها المادية والنفسية وتوابعهما بسهولة قد انعدمت أصلا.. خاصة مع توافر الدراسات والأبحاث التي تؤكد كلها أن الصهيونية العالمية استطاعت أن تجعل من مصر أخطر مراكز نشاطها في الفترة من عام 1917 إلي عام 1948.. حيث كانت دون أن تدري معسكر الانتقال للصهيونية العالمية، والمحطة الرئيسة علي الطريق إلي فلسطين، ولولا جهود زعماء الصهيونية وأعوانها في مصر لما استطاعت الصهيونية العالمية تأمين ظهر المستوطنين اليهود في فلسطين وضمان حركة التهجير إليها، وتخفيف حدة التوتر العربي داخل فلسطين وخارجها ثم إعلان قيام الدولة.. ونظرًا لوجود طائفة يهودية كبيرة وثرية يمكنها أن تؤدي دورًا في خدمة الأهداف الصهيونية فقد أولتها الصهيونية العالمية أهمية. وعقب صدور كتاب هرتزل 'الدولة اليهودية' عام 1896 بدأ تأسيس الجمعيات الصهيونية في مصر والتي بلغت أربع عشرة جمعية في القاهرةوالإسكندرية وفروعها في بورسعيد والمنصورة وطنطا والفيوم وغيرها.. وقد توحدت كل تلك الجمعيات عام 1917 تحت اسم 'الاتحاد الصهيوني' وتدفقت علي مصر أعداد هائلة من اللاجئين اليهود عقب نشوب الحرب الأولي وأقيمت لهم معسكرات إيواء في الإسكندرية تحت إشراف السلطات المصرية والبريطانية، وفي عام 1921 تأسس أول فرع للمنظمة الصهيونية العالمية في مصر، وأصدرت صحيفتها.. ومنذ البداية سعي زعماء الصهيونية إلي تشكيل كيان صهيوني مسلح فكانت 'كتائب أبناء صهيون' في منطقة برج العرب عام 1915 التي شاركت في الحرب العالمية الأولي تحت العلم البريطاني.. ثم تشكل ما سُمي ب 'الفيلق اليهودي' في الجيش البريطاني خلال الحرب الثانية وأُرسلت ثلاث كتائب إلي القدس للانضمام إلي الجيش البريطاني، وافتتحت مكاتب خاصة بتجنيد اليهود في كل من القاهرةوالإسكندرية.. وتحولت الجمعيات الخيرية والأندية والتجمعات اليهودية إلي العمل السياسي.. كما بدأ اليهود في تشكيل التنظيمات الشيوعية التي اقتصرت عضويتها عل الأجانب فقط، ثم انشقت عنها منظمات وجمعيات وجماعات سياسية وفنية وثقافية ضمت عددًا كبيرًا من المصريين. ومن اللافت للانتباه قيام اليهود الشيوعيين في مصر بتكوين 'الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية' مع تنامي الخطر الصهيوني في الأربعينيات، ومن أهدافها: الكفاح ضد الدعاية الصهيونية التي تتعارض مع مصالح كل من اليهود والعرب، والتنديد بالإرهاب الصهيوني في فلسطين، واستخدام المدارس والأندية اليهودية أوكارًا للصهيونية في مصر لجمع الأموال والمساعدة علي تهريب اليهود إلي فلسطين.. وفي يونيه عام 1947 رفضت وزارة الشئون الاجتماعية الموافقة علي استمرار الرابطة في نشاطها لأسباب 'تتعلق بالأمن' وجري اعتقال مؤسسيها وترحيلهم خارج البلاد.. الهجرة.. والتجسس في عام 1948 ذاته.. عام النكبة كان المجتمع اليهودي في مصر يضم اليهود المصريين أبناء البلد وكان عددهم 988 ألف نسمة، واليهود الأجانب المتمصرين 756 ألف نسمة، أما اليهود الأجانب الذين احتفظوا بجنسياتهم فكان عددهم 400 ألف نسمة.. وقد بدأت عمليات الهجرة الطوعية خلال موجات بدأت أولاها مع التحضير لاغتصاب فلسطين،. أما الثانية فكانت خلال الحرب العالمية الثانية والخوف من تقدم الألمان، وبدأت الثالثة مع اشتداد الصراع في فلسطين ولجوء العصابات الصهيونية إلي الارهاب.. وقد سعت الوكالة اليهودية لتهجير اليهود المصريين إلي فلسطين.. وانتشرت الشبكات الصهيونية في أنحاء مصر للدعاية والإغواء وتسوية الأمور المالية والتهجير عبر 'وكالة جرونبيرج للسفريات' التي أنشأها الموساد وأدارها إيلي كوهين.. ومع بداية حرب 1948 لم يكن قد بقي في مصر أكثر من 20 ألف يهودي من سبعين ألفًا تم تهجيرهم جميعًا - ظلوا يتناقصون تدريجيًا.. وفي وجودهم نشطت عمليات التخابر والتجسس من خلال يهود يحملون جوازات بريطانية، وتجار كبار.. وسيدات مدربات.. ولما كان عبد الناصر قد بدأ يتشكل زعيمًا حقيقيًا للمنطقة بدأت بريطانيا وأمريكا التقارب والتودد.. ووقَّعت الأولي اتفاقية الجلاء.. ووافقت علي دعم سلاح الطيران بطائرات حديثة.. ووصل دالاس وزير خارجية أمريكا إلي مصر واجتمع بعبد الناصر.. وهنا خططت المخابرات الصهيونية لتخريب تلك العلاقة من خلال ضرب المصالح الأمريكية والبريطانية وعمليات النسف والتفجيرات والطرود الناسفة.. ناهيك عن تصفية الخبراء الألمان العاملين في مجال إنتاج الصواريخ.. وقد أدي اكتشاف شبكات التجسس إلي رحيل عدد من اليهود.. وعقب العدوان علي قطاع غزة 1955 ثم عدوان 1956 توسعت عمليات الهجرة وفي عام 1957 صدر قانون بوقف نشاط الوكالات التجارية وهو ما دفع أثرياء اليهود للهجرة.. وعندما صدرت القرارات الاشتراكية 60 - 1961 خضع خمسة آلاف يهودي للتأميم والمصادرة.. واستمرت الهجرة.. وعندما وقعت هزيمة 1967 كان عدد اليهود في مصر حسب الإحصاء الرسمي 2500 شخص معظمهم من كبار السن الذين يتناقصون تدريجيًا.. وتؤكد المصادر الرسمية أنه فيما بين عامي 1948 و1960 خرج من مصر 65 ألف يهودي وصل منهم 25 ألف إلي إسرائيل أما الباقي وهم أكثر من 40 ألفًا فقد توجهوا إلي أوربا والأمريكتين. ومن العرض السريع للمصادر الموثقة يتضح جليًا أن جمال عبد الناصر لم يطرد اليهود المصريين ولم يظلمهم وإن كانت هناك عوامل عجّلت بهجرتهم فإنها تتوقف عند الإخوان الذين سعوا لتحويل حرب 1948 من موقف عربي ضد الاستعمار والصهيونية.. إلي مسلمين ضد اليهود.. وقد نشط الجهاز السري لتنفيذ ذلك الهدف.. ففي 20 يونية 1948 اشتعلت النيران في بعض منازل حارة اليهود وفي 19 يوليو تم تفجير شيكوريل وإركو وهما مملوكان لتاجر من اليهود، وإذ يتم توقيع الهدنة الأولي يشعل الإخوان الغضب ضد اليهود المصريين وينتشر الرعب من خلال تفجير ممتلكات اليهود: محلات بنزايون وجاتينيو وشركة الدلتا التجارية ومحطة ماركوني للتلغراف اللاسكي، كما دُمرت عدة منازل في حارة اليهود، ثم وقع انفجار مروع في مبني شركة الإعلانات الشرقية، وجري نسف فندق الملك جورج بالإسماعيلية.. وسقط ضحايا وأبرياء عديدون.. كان أشهرهم سليم زكي حكمدار العاصمة واتُهم الإخوان باغتياله.. تداعيات.. ومخاطر وبينما عقّب المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية علي تصريحات العريان وما أثارته من لغط بكلمات معادة لا معني لها، تبعه المتحدث باسم الإخوان فقال الكلام ذاته.. فالعريان يعبر عن رأيه الشخصي!! ولا يعبر عن موقف الإخوان وأنه - المتحدث - يختلف مع ما نادي به العريان، لأن اليهود المصريين - حسب تعبيره - مجرمون يستحقون العقاب علي ما فعلوه بالمصريين والفلسطينيين.. وأنهم أصبحوا إسرائيليين من زمان.. والتوقيت غير مناسب ومصر ليست مهيأة لتلك المواقف الآن. وإذا كانت تلك آراء 'سلطة الإخوان' الحاكمة.. فإن آخرين لهم آراء مغايرة وبعضهم يؤكد أن ثمة صفقة سرية بين الإخوان وجهات أخري معروفة.. وربما كانت الصفقة خاصة بحل الأزمة الفلسطينية علي حساب الأرض المصرية.. أما المحامون المصريون فقد تقدم عدد منهم ببلاغات للنائب العام ضد العريان لأنه 'كمسئول قرر وأذاع أخبارًا كاذبة وشائعات مغرضة، ومعلومات تضر بالأمن المصري عن سوء نية، حيث قرر صراحة أن اليهود العرب والمصريين الموجودين في الأرض المحتلة هم بسبب الاحتلال بعدما طردهم عبد الناصر من مصر.. واتهمه البلاغ بفتح أبواب مصر أمام العدو الصهيوني ومهّّد له السبيل للتدخل في الشئون المصرية والمساس بسلامة الأراضي المصرية بذريعة أن اليهود العرب والمصريين من حقهم العودة إلي مصر واسترداد ممتلكاتهم بخلاف الحقائق الموثقة والثوابت التاريخية.. أما أساتذة التاريخ فيتحدثون عن شراء مستثمرين يهود شركات ومؤسسات مصرية إلي جانب العقارات بسيناء وغيرها.. ربما تمهد لاحتلال ثانٍ!! علمًا بأن اليهود يضيقون بالعرب، ويرون غزة تضيق بسكانها.. ويعملون لدفعهم باتجاه مصر محاولين الضغط علي الحكومة المصرية لمنحهم جزءًا من سيناء مقابل حصول مصر علي شريط ضيق في صحراء النقب يصلنا بالأردن.. يعني وطنًا بديلًا للفلسطينيين يسد الطريق أمام مطالب عودة اللاجئين.. ومن ثم تهيمن إسرائيل علي سيناء وتحصل علي مياه نهر النيل.. هكذا يفكر الصهاينة الذين لم يرسموا حدودًا لدولتهم المغتصبة، يسعون إلي سيناء عبر الاستثمارات وشراء الأراضي بأسماء عربية مستعارة.. قليل من كثير فجَّره تصريح عصام العريان - أحد اللاعبين الرئيسيين علي حبال الإخوان الممتدة والمتشابكة لا يعرف لها أول من آخر.. ولا بداية من نهاية.. فسّره سياسيون وأساتذة تاريخ وقانونيون ومحللون ومتابعون وهواة علي ألف وجه ووجه.. وربما نسي بعضهم - وجل من لا يسهو - أن ثمة لعبة تقسيم الأدوار.. وتنوع التشخيص.. وتلوين الأداء.. ففريق يمثل الحزم مع أمريكا وإسرائيل من بعيد وفي أضيق الحدود وفي السر إذا أمكن.. والبعض الآخر يغدق المشاعر وينثر الورود ويلقي بأشعار التبتل والوجد في محراب أمريكا وإسرائيل.. والبعض الثالث يمارس الاستفزاز المحلي والتعرض للناس - من غير أهله وعشيرته - باللفظ والفعل.. والبعض الرابع يتحرك في موجات تجتاح وتحاصر وتهدد، وتسرق الأنظار.. ويضيع كل شيء وسط اللغط الدائر، ومن أين لهم بكل تلك الأموال التي تبني وتشيد، ونحر الذبائح.. والشاحنات التي تحمل من كل صنف.. وفاكهة وأبًا؟!.. والبعض الآخر وليس الأخير يسعي بين السجون والمنافي القريبة والبعيدة يساوم أثرياء ولصوص عهد مبارك لشراء ما يملكون بالبخس.. وشيء أفضل من لا شيء.. مع زوال العداء.. والاحتقان.. والترفق في المحاسبة.. وعفا لله عما سلف.. و.. و.. و.. وحسبنا لله ونعم الوكيل.