كانت الساعة قد بلغت العاشرة مساءً، أشعر بالاختناق، أبحث عن هواء نقي نظيف، أغلقت شاشة التلفاز، ارتديت ملابسي، امتطيت سيارتي، لا أعرف إلي أن سأمضي، ولا أعرف كيف السبيل! الكذب يحاصرني في كل مكان، الوجوه الكالحة تطل علينا بسيل من النفاق، ينشرون الرعب والتهديد، يطلقون الأحكام بلا وازع من ضمير ، يهددونك بالموت العاجل والبطيء، عليك أن تختار فأنت في زمن الديمقراطية، زمن ثوار.. أحرار.. حنكمل المشوار! أمضي إلي هناك، إلي سيدنا الحسين وستنا زينب، إلي دروب الحواري الشعبية، إلي هرم بناه الأجداد منذ آلاف السنين، أبحث عنك يا وطني، يا ساحة التسامح والسلام، يا أصل الحضارة ومنبع التاريخ.. أنطلق سريعاً، أريد أن أطوي المسافات، أتفرّس الوجوه، إنها ليست الوجوه، أبحث عن كلمات تشعرني بالطمأنينة، بالغد الآتي، كأن كل شيء قد اختفي فجأة، أتمني لو أجلس حراً طليقاً علي مقهي كنت أعشق الجلوس عليه، أكاد لا أطيق، حتي المكان أضحي موحشاً!! ماذا حدث لك يا وطني، من هم هؤلاء الغرباء الذين زحفوا، وهيمنوا وسيطروا، وظهر لنا خداعهم؟ إنهم جبابرة وطغاة وكنا نحسبهم غير ذلك، إنهم يريدون الانتقام من الجميع بلا استثناء، بداخلهم 'غل' فظيع وغير متصور، سقطت الأقنعة، وظهروا علي حقيقتهم. نسوا الدين وتكالبوا علي الدنيا، أشهروا أسلحتهم في مواجهة الجميع، لم يفرقوا بين الخصم والحليف، الكل أعداء، والكل خصوم، أصبحت الدولة في قبضتهم، لا تسألني عن الدستور أو القانون، لا تسألني عن الوعود أو القسم، لا تسألني عن الحرية أو نزاهة الانتخابات، لقد جاءوا ليبقوا إلي الأبد، فتلبدأ حرب التصفيات، الاتهامات جاهزة، السجون تفتح أبوابها بلا اتهام أو جريرة، التنصت والتجسس علي الهواتف دون سند أو قانون.. أمضي بسيارتي سريعاً، لا أعرف إلي أين أمضي، أتذكر كلمات سابقة أطلقتها عبر وسائل الإعلام وتحت قبة البرلمان، حاربوني بكل الأسلحة، لم أهتز، كنت أراهن علي الزمن، وجاءت الأيام بأسرع مما أتوقع، وإذا بالحقائق تتكشف، وراح الكثيرون يعتذرون، مع أنهم بالأمس خاضوا الحروب، ولم يكونوا مغيبين..!! سؤالي هو: ذنبنا في رقبة من، دمنا في رقبة من، مصرنا في رقبة من؟ نعم، اعتذروا وتراجعوا، لكنهم قطعاً كانوا أداة أوصلت البلاد إلي ما نحن فيه.. قسموا الشعب، هتفوا ضد جيشنا العظيم، أهانوا قادته، ونسوا دورهم، دخلوا إلي ميادين المعارك مع مؤسسات الدولة، خاضوا حروب الجماعة نيابة عنها، لأنها كانت مشغولة بكيفية السيطرة علي مصر، كانوا درعاً لها، وأداة في مخططها، وعوا ذلك أم لم يعوه، وعندما تم إبعاد الجيش نهائياً، وأُسقط الإعلان الدستوري المكمل، هللوا ورقصوا، ثم فجأة اكتشفوا عمق الكارثة.. أصبحنا وحدنا في الميدان، اجتمعوا علينا، نسوا دور الثوار، ووصفوا معارضيهم بأنهم من 'الفلول'، بدأوا الكيد لهم، فصّلوا دستوراً يضمن لهم البقاء للأبد، قرروا إرهاب الإعلاميين وحصارهم، طاردوا أصحاب المواقف والأقلام، حدثونا عن ساعة الصفر، فسقط الشهداء ومئات الجرحي علي أبواب القصر الرئاسي، عذبوا الأبرياء، وأصبح الناس يتندرون علي أيام 'أمن الدولة'!! في كل مكان يسأل الناس ويتساءلون: مصر رايحة علي فين؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال، الخيارات مريرة، وما كنا نحسبه بالأمس مستحيلاً أصبح وارداً، لقد أعدوا العدة ودفعوا بالبلاد إلي حافة الحرب الأهلية، إنه مخطط أمريكا في المنطقة، يريدون رأس مصر أولاً، إنها البداية الحقيقية للشرق الأوسط الجديد والانهيار الكبير، تأملوا الحدث، واقرأوا ما بين السطور!! أسأل نفسي: هل سالت دماء الشهداء في الميادين، وهل خرج الناس بالملايين، لنعود إلي لحظة العبودية من جديد؟! لقد اختُطفت الدولة وأُشهرت السيوف في وجوهنا، مطلوب أن نغرد مع المغردين، أن نهلل للديكتاتور الجديد، أن نُخرس ألسنتنا، وأن نزحف إلي أبواب 'الجماعة' طالبين الصفح والغفران المبين!! أعود إلي منزلي في وقت متأخر من هذا المساء، أسمع صوت مواطنة مصرية تصرخ عبر التلفاز 'انتِ فين يا مصر.. وحشتينا يا مصر'، تسقط الدموع من عيني، أضع يدي علي وجهي، وكأنني أبحث عن تضاريس الوطن، أمضي نحو النافذة، أنظر إلي السماء البعيدة، أناجي رب العباد، أن ينقذ الوطن، وأن يحمي العباد.. أمضي إلي مكتبي، يخالجني شعور بالقوة والعناد، أبداً لن تسقط مصر، لن تجهزوا عليها، سندافع عنها، سنتحدي جبروتكم مهما سقط منا شهداء وسننتصر، حتماً سننتصر!!