فى المقالات السابقة تناولنا التاريخ التأسيسى والأسباب والمعنى والرموز وفى هذا المقال سنقفز تاريخيًا إلى المرحلة التى أصبحت الماسونية فيها ثقافة اقتصادية وسياسية تخترق من خلالها جميع دول العالم لنشر أفكارها وتثبيت أركانها وشرعنة وجودها. - ففى عام 1215م عقدت الكنيسة الكاثوليكية المؤتمر المسكونى الرابع، وكان الموضوع الأساس هو (التعديات اليهودية فى سائر الأقطار)، فأصدروا القرارات والمراسيم للحد من التجارة والربا الفاحش الذى كان يمارسه اليهود.. كما أصدروا قرارات بتحديد إقامة اليهود فى أحياء خاصة بهم، ومنع استعمال المسيحيين كوكلاء أو أجراء، والمسيحيات كخدم، كما تم منعهم من بعض العمليات التجارية، ولكن الكنيسة بكل سلطانها مدعومة بزعماء الدول لم تستطع أن تخضع سادة المال اليهودى للقوانين، بل شرعوا فى التخطيط لإضعاف الكنيسة وفصلها عن الدولة، ومن ثم أخذوا يبثون فكرة العلمانية والديمقراطية واللادينية بين العامة. وعندما عجزت الوسائل القانونية على مواجهتهم، لجأت دول أوربا إلى طردهم من البلاد، فقد طردتهم فرنسا عام 1253م فتوجهوا إلى إنجلترا وتمكنوا من السيطرة على كبار رجال الدولة والنبلاء والإقطاعيين والمصرف لاحقًا.. - وفى ذلك الحين أصدر الملك إدوارد الأول قانونا حرم بموجبه على اليهود ممارسة التجارة، ثم استصدر من البرلمان عام 1275م قوانين خاصة بهم، سميت: «الأنظمة الخاصة باليهود» كان الهدف منها تقليص السيطرة التى يمارسها رجال التجارة اليهود على دولتهم، وقد قام اليهود بتحدى هذه القوانين، فعاقبهم الملك بطردهم من إنجلترا، وكان ذلك بدء مرحلة «الإجلاء الأكبر» كما يسميه المؤرخون.. - بعدها سارع ملوك أوربا إلى الاقتداء به، فطردتهم كل من فرنسا وسكسونيا وهنغاريا وبلجيكا وسلوفاكيا والنمسا والأراضى المنخفضة (هولندا) ثم أسبانيا فى الفترة ما بين 1306-1492م. بعد طردهم من بلدان أوربا، أرسل شيمور حاخام مقاطعة آرس إلى الحاخام الأكبر فى الآستانة يطلب منه المشورة فى كيفية مواجهة ما تقوم به دول أوروبا ضد اليهود فجاء الرد فى تشرين الأول من عام 1489م بإمضاء أمير اليهود ينصح رعاياه باتباع وسيلة «حصان طروادة»، وينصح بجعل أولادهم قساوسة وكهنة ومعلمين ومحامين وأطباء، حيث سيتمكنون من الدخول إلى عالم المسيحية وتقويضه من الداخل، وهذه الوثيقة محفوظة، ولعلها أقدم وثيقة يهودية ثابتة تضع الخطوط العريضة الأولى للماسونية الحديثة المنبثقة من القوة الخفية التى أقامها هيرودس الملك فى أوائل القرن الميلادى الأول. وعلى إثر ذلك قامت جمعية «فرسان الهيكل» اليهودية فى فرنسا، وهذه هى الحقبة الفرنسية، وكان الهدف منها التمهيد للثورة على الملكية فى فرنسا، و ذلك للسيطرة على الأوضاع فيها، كما أنشأت لها فرعا فى بريطانيا. وفى عام 1307 تم اعتقال معظم فرسان الهيكل الفرنسيين بقرار من ملك فرنسا وبضغوط من الكنيسة الفرنسية وفر من نجا من الاعتقال إلى العمل السرى ونتيجة لهذا قام فرسان الهيكل البريطانيين بالاختباء وتظاهروا بأنهم يحترفون البناء وتحولوا بعد ذلك إلى ما يسمى البنائين الأحرار الماسونيين، وقد انتقم اليهود من الفرنسيين بعد ذلك بوقت طويل، فالوثائق والشهادات تدل على أن الثورة الفرنسية (عام 1789م) كانت بفعل اليهود، أو بتعبير أدق بتمويل من الممولين العالميين، من التجار اليهود ملاك المال، سواء كانوا يهودا أصليين أو منتسبين أو غير ذلك؛ لكن الحقائق تؤكد كذلك أن الظروف كانت مواتية لهم، وأنهم أحسنوا استغلال الغضب العارم الذى كانت تكنّه الجماهير فى أوربا ضد الكنيسة والإقطاع والملكية. هنا كانت البداية الحقيقية للثالوث الماسونى «الحرية، الإخاء، المساواة»... البداية الحقيقية للماسونية: أ الحقبة البريطانية: نتيجة لاعتقال جمعية «فرسان الهيكل «فى فرنسا، اتجه اليهود إلى العمل من خلال فرعهم فى بريطانيا. و فى عام 1356 تشكلت شركة «البناؤون الأحرار» فى لندن، وتم اختيار كاتدرائية يورك كمقرٍّ للمجموعة. وبعد ذلك بعشرين سنة أى فى عام 1376 تم لأول مرة استعمال كلمة الماسونية حيث تم اختيار 4 أشخاص ليمثلوا البنائين فى لندن فى مناقشات هيئة التجارة واطلق الوفد على نفسه البناؤون Masonry ولم يستعمل لاحقة الأحرار آنذاك. وفى عام 1390 تمت كتابة ما يعتبر أول نص ماسونى صريح، وكان عبارة عن 64 صفحة من الكتابات المكتوبة بأسلوب شعرى وتوجد هذه النصوص حاليا فى المتحف البريطانى . هناك اعتقاد أن موجة انتشار وباء الطاعون فى أوروبا عام 1348 والحرب الداخلية على عرش بريطانيا عام 1453 أدَّت إلى ارتقاء الماسونية إلى حركة( نقابة مهنية منظمة) حيث أصبحت هناك قوانين مفصلة لواجبات العضو ومراسيم قسم الانتماء وهناك اعتقاد أن هذه المراسيم كانت لها علاقة بعدد ساعات العمل و معدلات الأجور ويعتقد البعض ان الأمر كان أكثر عمقا من مراسيم نقابية لمجموعة من العمال. وفى عام 1425 أصدر الملك هنرى السادس ملك إنجلترا مرسوما ملكيا بمنع إقامة التجمع السنوى للماسونيين . وفى 1598 تم تحديد نظام هيكلى لكيفية إدارة تنظيم البناؤون الأحرار فى فرعها فى أسكتلندا. وفى عام 1717 تم تشكيل أول مقر رئيسى للحركة فى لندن. فى عام 1723 كتب الماسونى جيمس أندرسون (1679 - 1739) «دستور الماسونية» فى 40 صفحة، و هو يتناول كما زعم تاريخ الماسونية من عهد آدم، نوح، إبراهيم، موسى، سليمان، نبوخذ نصر، يوليوس قيصر، إلى الملك جيمس الأول من إنجلترا، وفى الدستور تعاليم وأمور تنظيمية للحركة وأيضا يحتوى على 5 أغانٍ يجب أن يغنيها الأعضاء عند عقد الاجتماعات، كما يشير الدستور إلى أن الماسونية بشكلها الغربى المعاصر هى امتداد للعهد القديم من الكتاب المقدس وأن اليهود الذين غادروا مصر مع موسى شيدوا أول مملكة للماسونيين . فى عام 1734 قام مؤسس الولاياتالمتحدة بنجامين فرانكلين الماسونى العريق بإعادة طبع الدستور، أى بعد 11 سنة من طبعته الأولى، وذلك بعد انتخاب فرانكلين زعيما لمنظمة الماسونية فى فرع بنسلفانيا، وكان فرانكلين يمثل تيارا جديدا فى الماسونية وهذا التيار أضاف عددًا من الطقوس الجديدة لمراسيم الانتماء للحركة وأضاف مرتبة ثالثة وهى مرتبة الخبير Master Mason للمرتبتين القديمتين، المبتدئ و أهل الصنعة . وجاء المنعطف الرئيسى الآخر فى تاريخ الحركة كانت فى عام 1877 عندما بدأ فرع الماسونية فى فرنسا بقبول عضوية الملحدين والنساء إلى صفوف الحركة وأثار هذا الخلاف نوعا من الانشقاق بين فرعى بريطانياوفرنسا. وفى عام 1815 أضاف الفرع الرئيسى للماسونية فى بريطانيا للدستور نصا يسمح للعضو باعتناق أى دين يراه مناسبا وفيه تفسير لخالق الكون الأعظم وبعد 34 سنة قام الفرع الفرنسى بنفس التعديل. وفى عام 1877 تم إجراء تعديلات جذرية على دستور الماسونية المكتوب عام 1723 وتم تغيير بعض من مراسيم الانتماء للحركة بحيث لا يتم التطرق إلى دين معين بحد ذاته وإن كل عضو حر فى اعتناق ما يريد شرط أن يؤمن بثالوث الماسونية: الحرية، الإخاء، المساواة.