تَكَشَّفت له حُجُب التنظيم اﻹخوانى فرأى حقيقته عن بصر وبصيرة، فقرر أن يتحرر من قيود السمع والطاعة، ونطق بكلماتٍ أسقطت القناع عن وجوه قيادات إخوانية كانت تحكم القلوب قبل العقول، فأرسلوا إليه تهديدًا بالقتل إن تكلم، وأصدروا قرارًا بإقصائه من عضوية الجماعة فى عهد مرشدها الثانى حسن الهضيبي، وألصقوا به كل عوارٍ ونقيصة واعتبروه شيخًا مارقًا، يشق الصف وينشر الفتنة بين صفوف الفرقة الناجية. يتحدث يوسف القرضاوى فى كتابه «الشيخ الغزالى كما عرفته» عن واقعة التهديد بالقتل ويقول: «إن بعض أُولى الهوس من الإخوان قد هَدَّده وتحداه، كما روى الشيخ وقال : وقد كنت حريصًا على الصمت الجميل يوم أن عرفت أنى سأعمل للإسلام وحدى –أى خارج الجماعة– بيد أن أحدا من خلق الله اعترضنى ليقول لي: إن تكلمت قُتِلت.. فكان ذلك هو الحافز الفذ على أن أتكلم وأُطنِب»، وأضاف: «إن اللفظة الرقيقة تطوق عنقى فأستسلم، أما التحدى فإنه يهيِّج فى طبيعتى غرائز الخصوم»، ولم ينف «الغزالي» ما ذكره «القرضاوي»، بل وأشاد بالكتاب فى طبعته الأولى التى تم توزيعها فى حياته. وقد أكد محمد الغزالى فى كتابه «من معالم الحق فى كفاحنا الإسلامى الحديث»، رفضه لقواعد السمع والطاعة العمياء التى تحكم التنظيم اﻹخوانى ووصفها بالمنكر الكبير وقال: «عندما شُرع قانون السمع والطاعة لم يفترض فى الأطراف التى تمثله إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة وتصدع بالحق وتأمر بالخير، ثم جنودًا يلبون النداء ويمنعون العوائق ويتممون الخطة... أما الطاعة العمياء لا لشىء إلا لأن القائد أمر، وأمره واجب الإنفاذ، فذلك منكر كبير وجهالة فاحشة لا يقرها شرع ولا عقل…». ويخاطب الغزالى أعضاء جماعة «اﻹخوان» الذين انقادوا خلف قياداتهم دون وعى وبصيرة ويقول: «ولكن المؤمن لا يأذن لأحد أن يستغل هذه الصفات النبيلة فيه ليجعل منه شخصًا طائش القياد ضرير العين والقلب، وفساد الأديان الأولى جاء من طراوة الأتباع فى أيدى رؤسائهم وتحوُّلهم مع مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مُسيَّرة لا فكر لها ولا رأى..»، وتابع حديثه قائلًا: «فإن الذين يحسبون أنفسهم جماعة المسلمين يرون مخالفة قائدهم ضربًا من مخالفة الله ورسوله، وطريقًا ممهدة إلى النار وبئس القرار!، إلا أننى عزَّ على أن يُلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيُلعن أهل الإيمان ويُترك أهل الطغيان، وبِمَ؟ باسم أن القائد وبطانته هم وحدهم أولو الأمر! وأن لهم حق السمع والطاعة؟» وأوضح الغزالى أن جماعة اﻹخوان تستدعى بعض الأحاديث النبوية لتعتبر الخارجين عنها من الخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين، وقال إن «هذه الأحاديث وأمثالها وردت فى منع الفتوق الجسيمة التى يُحدثها المشاغبون على الدولة، الخارجون على الأحكام... بَيد أن تعليم هذا الجنون كان أسلوب تربية وتجميع عند بعض الناس! أن يقال إن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وإن الخروج على الجماعة يمحق الفضائل، أىُّ إسلام هذا؟!، وأضاف الغزالي: «ومَن مِن علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تُلبسون الدين هذا الزى المنكر؟ وهيهات، فقد تغلغل هذا الضلال فى نفوس الناشئة حتى سأل بعضهم: هل يظن المسلم نفسه مسلمًا بعدما خرج من صفوف الجماعة؟ ولنفرض أن رئيس الجماعة هو أمير المؤمنين وأن له حقوق الخليفة الأعظم، فهل هذا يؤتيه على أتباعه حق الطاعة العمياء؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤتَ هذا الحق! ففى بيعة النساء يقول الله له (..... ولا يعصينك فى معروف)». ويوجه الغزالى قصفًا عنيفا لجبهات المتأسلمين ويقول : «فإذا رأيت رجلًا يشتغل بجهاد الناس وهو مذهول عن جهاد نفسه، فاعلم أنه خطاف يريد الاشتغال بالسلب والنهب تحت ستار الدين»، ويتحدث عن المتربحين من الدعوة اﻹسلامية ويقول: «الشيمة الأولى فى الداعية التجرد واﻹخلاص.. والشيمة الأخرى الدلالة على الله بحاله ومقاله .. فإذا فقد الأولى، بأن أغرته المنافع العاجلة فأقبل على أموال الناس يغتالها، وإذا فقد الأخرى بأن هبت من سيرته رياح تنفر منه وتبغض الناس فيه وفيما جاء به فهو كاهن خطير، يدل على الدين بلقبه ووظيفته ويصد عنه بعمله وطبيعته!!». وحول عدم استفادة جماعة اﻹخوان من تجاربها وفشلها المتكرر، يقول الغزالى فى مذكراته: وكان ظنى أن الإخوان بعد مقتل مرشدهم وحلِّ جماعتهم.. سوف يستفيدون من التجربة، ويستبقون فى مصر ضمانات الكرامة الإنسانية، ومعالم الحياة العامة، أفذلك وقع؟ .. كلا... لقد مشى الأمر فى طريق آخر!، وأضاف: «وقد أحزننى وأنا فى المعتقل أن الإخوان عمومًا يرفضون أى اتهام لسياستهم، وقد قلت: إنه بعد هزيمة «أُحد» وقع اللوم على «البعض» من الصحابة، فلماذا لا نفتِّش فى مسالكنا الخاصة والعامة، فقد يكون بها ما يستدعى التغيير! وما يفرض تعديل الخطة؟ لكن هذا التفكير لم يلق ترحيبًا». آثر الشيخ محمد الغزالى السلامة والحياد، فتراجع عن اتهامه للمرشد الثانى حسن الهضيبى بالانتماء للماسونية، وحذف بعض كتاباته الفاضحة لجماعة اﻹخوان وترك الاتهامات العامة، وكان دافعه إلى الحياد السعى إلى الابتعاد عن الصراعات والتحرك فى مساحة واسعة بين الجميع، واستكمل عمله الدعوى من خلال وزارة الأوقاف فى مصر والمؤسسات الإسلامية الرسمية فى عدد من الدول العربية. تُوفى الغزالى فى التاسع من مارس 1996، ولم يتوقف أعضاء جماعة «اﻹخوان» عن استخدام كتاباته - تدليسًا وتضليلًا وكذبًا - باعتبارها تراثًا إخوانيًا كتبه رمز ينتمى للقيادات التاريخية فى الجماعة العتيقة، ولم يقتربوا من آراء الغزالى الكاشفة والفاضحة لحقيقة تكوين الصف اﻹخوانى.. لكن بعد سنوات من الفشل والصراعات الطاحنة بدأ بعضهم فى استدعاء كلمات «الغزالي» لينظموا منها رثاءً حزينًا لقياداتهم البالية التى تنازعت وتسابقت فى رمقها الأخير، نحو الثراء والثروة والمغانم والمكاسب؛ ولسان حالهم يقول لقد صدق الرجل فى بعض رأيه ورؤيته ومواقفه من التنظيم اﻹخوانى .. فهل من مُعتَبِر؟!!