لا أعرف كيف سمح فريق من السياسيين المصريين لنفسه، بأن يري في دعوة قطر لتدخل عسكري عربي في سوريا، يقوم بالضرورة علي أكتاف الجيش المصري، وهو ما تبقي متماسكًا من جيوش العرب، موضوعًا قابلا للطرح أو البحث، وإذا كان مرد مثل هذه الرؤية، سوء فهم، فأقل ما توصف به أنها تنطوي علي عمي استراتيجي كامل، أما إذا كان مردها سوء نية، فأقل ما توصف به أنها تعكس امتدادًا طبيعيًا لظاهرة الاختراق الأجنبي، وقد اتسعت دوائرها في مصر إلي حدود غير مسبوقة. أقول ذلك لأن أهم عناصر القوة في صياغة سياسة وطنية، هو إدراك قيمة الأمن القومي علي جانب، ووضوح مفاهيمه علي الجانب الآخر، ويبدو لي في كثير مما يقال من فوق منابر عالية، أن هذا الإدراك لايزال غائمًا، وأن ذلك الوضوح لايزال غائبًا، غير أن المسألة برمتها تثير عدة قضايا غارقة في التجهيل والضباب، ربما عن قصد وربما عن غفلة، حتي إن الوضع يبدو وكأنه مقلوب نظرية 'كلاوز فيتز' أستاذ المدرسة البروسية في علم الحرب، فلم تعد الحرب امتدادًا للسياسة بوسائل أخري، وإنما غدت السياسة امتدادًا للحرب بوسائل أخري. وأولي هذه القضايا علي سبيل التحديد، هو قرار الحرب، وموقعه في نظرية الأمن القومي، وبالتالي في بنود الدستور الجديد، وثانيتها الحالة السورية، واستشراء جرثومة التفكك، في إطار الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم، وثالثها الوظيفة الإقليمية التركية الجديدة، تحت صيحة وشعار العثمانيين الجدد، المندمجة حد التوحد في الاستراتيجية الأمريكية، وهي تترنح في الإقليم. أما عن وضع قرار الحرب في نظرية الأمن القومي، وفي الدستور، فحسبنا أن نستعيد عملية صنع قرار الحرب، في عام 1948، أدواتها ووسائطها ونتائجها الفاجعة، التي أنجبت زلازل غيَّرت من خرائط الإقليم كله، ثم تفاعلات هذه النتائج الفاجعة، التي لاتزال ممتدة بعد أكثر من ستة عقود متصلة، ولم يكن للجيش المصري أي دور في عملية صنع قرار الحرب في عام 1948، فقد كان القرار بحكم ما احتواه الدستور يكاد يكون ملكًا خالصًا للملك، باعتباره القائد الأعلي للقوات المسلحة، مشفوعًا بعد ذلك بموافقة البرلمان الذي لم يخرج دوره بحكم عوامل عديدة، عن إضفاء مشروعية شعبية ناقصة عليه. لم يكن تدخل الجيوش العربية ممكنًا دون أن يتدخل الجيش المصري، بينما كانت مصر قد قررت عدم الزج بالجيش في الحرب، وأبلغت الدول العربية بذلك، وبدا النقراشي رئيس الوزراء المصري في اجتماع اللجنة السياسية للجامعة العربية في بيروت، أشد المسئولين العرب حماسا لعدم اشتراك الجيوش في القتال، والاستعاضة عنها بمتطوعين مدربين ومسلحين. وعلي الجانب الداخلي كان النقراشي مصرًا ألا يلجأ للقوة المسلحة، حتي لا يدفع الجيش المصري إلي حيث تكون القوات البريطانية المرابطة في منطقة قناة السويس وراء ظهره، بل كان توجيه الحكومة المصرية لمندوب مصر الدائم في الأممالمتحدة، الدكتور محمد فوزي، حسب وثائق الخارجية المصرية، 18/2/1948 بالنص: إن الحرب الأهلية في فلسطين تشتد يومًا بعد يوم، فإذا تدخلت أي قوة أجنبية في النزاع، فإن دول الجامعة تتدخل فيه هي الأخري بكل وسائلها العسكرية والاقتصادية'. وظل القرار المصري حتي يوم 11 مايو 1948، يعبر عن نفسه في إطار قناعة راسخة بعدم تدخل الجيش المصري، لكن المفاجأة كانت حاضرة في صباح اليوم التالي 12 مايو، حين دخل النقراشي علي الدكتور حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ، طالبًا منه عقد جلسة سرية للمجلس، كي تعرض الحكومة عليها قرارها بدخول القوات المصرية إلي فلسطين لقتال اليهود، وعلت الدهشة وجه رئيس المجلس، وتدافعت أسئلته قبل أن تنعقد الجلسة السرية في صباح اليوم التالي 13 مايو 1948، لمناقشة موضوع دخول الجيش المصري فلسطين، بينما كانت قوات الجيش قد اجتازت الحدود المصرية بالفعل، بأوامر مباشرة من الملك دون علم رئيس الوزراء ودون انتظار لقرار البرلمان، وفي تلك الجلسة السرية، أكد رئيس الوزراء أن القوات علي أتم استعداد لمواجهة الموقف، وأنها ستنتصر علي اليهود لا محالة، وتمنع بذلك قيام الدولة اليهودية. وتدخل بعض أعضاء اللجنة محذرين من أن المسئولية جسيمة، وأنه بذلك يدفع المجلس إلي اتخاذ القرار، وذكر بعضهم أن عتاد الجيش ليس بالقدر الذي يخوض به المعارك، ولكن رئيس الوزراء نفي كل سبب للتردد، مؤكدًا أن الجيش المصري وحده بجنوده وعتاده قادر من غير حاجة إلي أي معونة من الدول العربية الأخري، علي أن يدخل تل أبيب في خمسة عشر يومًا، وإذا كان إسماعيل صدقي في هذه الجلسة، هو أكثر المعارضين لدخول الجيش الحرب، مستندًا إلي رؤية قريبة له بوصفه رئيس وزراء سابقًا، فإن فؤاد سراج الدين وقد حضر الجلسة ممثلًا للمعارضة الوفدية، كان أكثر المتحمسين خارج صفوف الحكومة. غير أن السؤال: ما الذي تغير خلال ساعات ليتغير القرار المصري والعربي علي هذا النحو؟ إن رئيس مجلس النواب نفسه وهو يبحث عن تفسير لاستحصال رئيس الوزراء علي موافقة البرلمان، علي دفع الجيش إلي الحرب، بعد أن عرض عليه معلومات غير دقيقة قد انتهي إلي أحد أمرين: أن رئيس الوزراء أراد بذلك تغطية الملك، أو أنه أراد بذلك اعتبارات أخري تتعلق بالوضع الداخلي في البلاد الذي يدعو إلي كثير من القلق والحذر والتفكير، ووفق شهادة عبد الرحمن عزام، فإن إنجلترا لجأت إلي موقفين متناقضين، أو ظهر في الحقيقة أنهما كذلك. تخويف علي الورق للدول العربية من دخول الحرب، لاستخدامه إذا تمت الحاجة إليه في المستقبل، وتحريض بكلمات مباشرة ومن خلال اتصالات مباشرة علي دفع القوات المصرية لدخول الحرب، مع وعود مبذولة بالمساعدة. غير أن الأهم في ذلك كله أن قرار الحرب، قد تم تمريره بمعلومات غير دقيقة، وبخلفية غير شفافة، في مجلس النواب ثم كان ما كان. والدلالة الواضحة التي ينبغي التقاطها من عملية صنع قرار الحرب في عام 1948 بالزلازل التي أنجبها والنتائج التي لاتزال تفاعلاتها تتحرك بقوة في بيئة الإقليم، تحتم أن تمر عملية صنع قرار الحرب في الدستور الجديد، من خلال رءوس مثلث متساوي الأضلاع، هي الرئيس والمجلس الأعلي للقوات المسلحة والبرلمان، حماية لعملية صنع القرار من أي متغيرات في بنية السلطة السياسية، وفي توجهات نظام الحكم، وفي قواعد ومفاهيم الأمن القومي، وهو أمر لا يقتطع من صلاحيات أحد، ولكنه يحمي المركَب التاريخي المصري من الانزلاق، نحو مغامرة مفروضة أو غير محسوبة. أما بشأن الحالة السورية والدور التركي، فهما متداخلان إلي حد أصبح فض الاشتباك بينهما أقرب إلي الاستحالة، حيث أصبح مستقبل المشروع التركي كله، ومستقبل الحزب الحاكم في تركيا، بل مستقبل الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم، معلقين جميعًا بحسم الصراع في سوريا، أو علي وجه أدق الصراع علي سوريا، أي إسقاط النظام السوري، أيًا كان الثمن وأيًا كانت الأدوات. والحقيقة أنني لا أعتقد، أن وراء هذا الإصرار الجامح علي إسقاط النظام في سوريا، وهو إصرار يطل بوجه إنساني عطوف، وديمقراطي عميق، وإسلامي أصيل، ولكنه لا يشف عن نزعة إنسانية أو انحياز ديمقراطي أو عن عقيدة إسلامية، وإنما يشفُّ عن نزعة إمبريالية تركية، تحركها مصالح استراتيجية إقليمية ودولية، تلعب تركيا فيها الدور التنفيذي الميداني، أو قل رأس الرمح إذا صح التعبير، ولا مراء في أن الخطاب التركي، يحمل ظاهرا وباطنا في كل ما يصدر عنه، والأمثلة ليست معدودة، ولكنها ليست محدودة، فعندما اعترضت تركيا علي سبيل المثال علي انتخاب 'راسموسن' أمينًا عامًا لحلف الأطلنطي الذي هي عضو فيه، صدر الاعتراض في خطاب علني، مستندًا إلي أنه ينتسب إلي دولة الدنمارك، التي سمحت لصحفها بنشر رسوم مسيئة للنبي الكريم، ثم تبين أن مصدر الاعتراض علي راسموسن الدنمركي، لا علاقة له بالنبي الكريم ولا بالرسوم المسيئة له، وإنما كان سببه الوحيد هو سماح الدنمرك لحزب العمال الكردستاني بقناة تليفزيونية تبث من فوق أراضيها. وعندما وافقت تركيا علي نصب درع صاروخية أمريكية علي أراضيها، بررت ذلك بأن موافقاتها تمت لأن الدرع موجهة لحماية اليونان وبلغاريا ورومانيا، بينما كانت في الواقع العملي موجهة لحماية القواعد الأمريكية من الصواريخ السورية والإيرانية. وحتي علي المستوي التطبيقي العملي لما هو معلن فإن التنافر صفة أصيلة بين الأقوال والأفعال، فعندما أعلنت تركيا أنها تسعي إلي تخفيض الوجود العسكري الأمريكي علي أراضيها، وقررت إدارة أوباما إغلاق قاعدة أزمير علي بحر إيجة، توفيرًا للنفقات، سرعان ما تقدمت هي بطلب إلي الإدارة الأمريكية لاستمرار عمل القاعدة، كي تستمر في الحصول علي أجر استئجارها. وبقدر ما شاركت في جمع مفردات نشيد الحرب علي ليبيا، بقدر ما تراجعت في اللحظات الأخيرة عن المشاركة الفعلية في أعمال القتال، رغم عضويتها في حلف الأطلنطي، بعد أن تبينت أن مصالح 600 شركة تركية تعمل في ليبيا قد تعاني من الأضرار، إذا انتهت نتائج الحرب دون أن تحقق أهدافها، وقد دفعت بعد ذلك الثمن بتقليص نصيبها من الكعكة الليبية إلي الحدود الدنيا، وقد يكون ثمة جانب في ذلك هو الذي جعل موقفها أكثر جموحًا تجاه سوريا. في 3/4/2006 كان أردوغان يتحدث لنا عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وعن دور تركيا فيه، قبلها بعام واحد كانت أمريكا حسب موقع ويكيليكس والواشنطن بوست، قد أخذت في تمويل المعارضة السورية بعدة ملايين من الدولارات، وفي التوقيت ذاته كانت بعض التقارير الغربية تشي بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد أعطت تركيا تعهدًا بمنحها دورًا في المشرق العربي، وبالتحديد علي صعيد أنظمة الحكم الجديدة، التي سيجري تهيئة البيئة لولادتها في سوريا ولبنان والدولة الفلسطينية المفترضة، لكن اللافت للنظر حقًا أن العام ذاته 2005 كان جسرًا للتحول في العلاقات التركية السورية، فقد أخذت تركيا في تعميق علاقاتها جذريًا مع النظام السوري، حتي وصلت إلي صيغة أقرب إلي التحالف سياسيًا واقتصاديًا، وفي العام نفسه، كانت هناك إشارات قوية إلي أن النظام السوري قد تغاضي عن مسألة حقوق سوريا التاريخية في الإسكندرونة، بموجب اتفاقية خاصة غير معلنة. وبموجب التحالف الجديد ألغيت الحدود بين البلدين وتدفقت التجارة ونشطت حلب، ووصل النبض إلي قلب دمشق القديمة، وقد أدي هذا التحالف بصيغه الاقتصادية إلي تعميق الشروخ الاجتماعية في سوريا، فقد ترتب عليه الإغالة في سياسة اقتصادية ليبرالية مجحفة، أدت إلي بناء طبقة رأسمالية متخمة، من خلال المضاربات والأرباح التجارية والتهريب، بينما لحقت أضرار واسعة بالطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا، كما انهارت معها قطاعات بعينها من بينها الزراعة، وهي مصدر الحياة في درعا وحوران. وعمومًا فقد أصبحت الضغوط الاقتصادية عاملا خانقًا للقواعد الشعبية خاصة في التخوم والأطراف. وفيما أحسب فقد كانت تلك أول صنارة تمسك برأس النظام بعد أن تم جرُّه علي اقتصاد السوق، بما يتناقض فعليًا مع دوره وشعاراته عن المقاومة وعن الاشتراكية، فقد تم تقزيم دور الدولة، وتراكمت أعداد العاطلين عن العمل دون سن الثلاثين، حتي شارفت نسبة الخمسين بالمائة وانطوي ثلث السكان تحت خط الفقر، وهكذا بأدوات طبيعية تم خلق بيئة قابلة للغضب والرفض والتمرد، وهكذا أيضا كانت بداية التظاهرات الغاضبة بمضاعفات التأثيرات السابقة في الأطراف، وفي أكثر المواقع فقرًا، وتضررًا وحاجة، وفي مناطق يتصادم فيها نمو السكان مع انكماش رقعة الزراعة. ثم كانت الصنارة الثانية بعد الانفجار السلمي في البداية، هي انغلاق العقل الأمني، الذي أطفأ اللهب بإلقاء مزيد من الوقود عليه، لتتسع الدائرة وتصبح قابلة لتوظيفها صنارة ثالثة بشحنها عبر الحدود، ليتحول التظاهر السلمي إلي تمرد مسلح. في المرحلة التالية بعد أن تمت خلخلة البيئة في الأطراف السورية، أصبحت البوابة التركية هي أكثر الجسور تأهيلا لعبور صنوف عديدة وصفوف طويلة من المقاتلين الأجانب إلي داخل سوريا، ولم يعد الأمر في وجهه المباشر أمر ثورة وطنية تريد إزاحة نظام لا تريده، وإنما أمر تحالف إقليمي ودولي غير معلن له مصالح استراتيجية، تتجاوز النظام إلي الكيان السوري ذاته. ووفق التقديرات الغربية فإن أعداد المقاتلين المنتسبين إلي تنظيم القاعدة وحده داخل سوريا، قد بلغ قبل شهرين 27 ألف مقاتل، بينما يوجد في الدائرة ذاتها 12 تنظيمًا إسلاميًا جهاديًا، تقوم بعمليات عسكرية سرية داخل المدن والبقاع السورية، رغم ما بينها من خلافات عقائدية، حتي باتت هذه التنظيمات عاملا أساسيًا ولاعبًا مركزيًا في الأزمة وفي تداعياتها وفي مستقبلها، إلي جانب تنظيمين سلفيين جهاديين سوريين هما 'جبهة النصر' و'كتائب أحرار الشام' وكلاهما دعّم قوته بأعداد كبيرة من العناصر الجهادية التي تدفقت عبر الحدود، من العراق والأردن ومصر ومؤخرًا من الكويت. وفي الواقع فقد تشكلت حول الأزمة السورية شبكة دولية، متعددة الأذرع والأطراف، هدفها توفير ودفع أكبر عدد من المجموعات الإرهابية المسلحة والمنظمة التي تعمل تحت إمرة الجهاد العالمي وتسليحها وتوظيفها للعمل داخل الساحة السورية، وهي شبكة تضم ضباط مخابرات متعددي الجنسية علي الحدود ومعسكرات وخبرات عسكرية أجنبية للتدريب، ووحدات لشراء السلاح من السوق السوداء، ومصادر تمويل مفتوحة الأبواب. أما العمل في الداخل فهو متشعب بين وحدات مختصة لتوفير الدعم للمقاتلين مهمتها تهريب الأفراد والسلاح والعتاد ووحدات مدربة علي حرب العصابات، وتوجيه الضربات إلي وحدات الجيش وقوات الأمن، وأخري مسئولة عن القيام بالتفجيرات والسيارات المفخخة والعمليات الانتحارية. وحسب بعض التقديرات فقد ارتفعت نسبة الهجوم بالمتفجرات منذ بداية العام إلي الشهر الماضي 160%، بينما ارتفع معدل التفجير بواسطة السيارات المفخخة إلي تفجيرين في الأقل أسبوعيًا. وعلي العموم فإن الصورة العامة داخل سوريا وعلي تخومها وحدودها، باتت أقرب إلي الصورة الأفغانية، خلال فترة تنظيف الجماعات الجهادية لدفع الجيش السوفيتي إلي الخروج من أفغانستان، والتي كانت أحد مساهماتها التاريخية التالية علي الخروج السوفييتي، هو زرع طالبان في البيئة الأفغانية وانبثاق تنظيم القاعدة، الذي تم تحويله إلي عدو بديل تحت اسم الحرب علي الإرهاب. لذلك ليس دقيقًا ما قاله 'ديفيد أجناشيوس' في الواشنطن بوست من أن الهدف هو فتح بؤرة مواجهة في المنطقة تخفف الضغط علي الأنظمة التي تعادي التغيير، أو التي تريد أن تصدَّر أدوات التغيير إلي خارجها، أو أن الممولين في الخليج يريدون قتال الشيعة علي مسافة أبعد من البحرين أو القطيف، رغم أنه قد يكون صحيحًا أننا بصدد معركة طائفية سامة من النوع الذي دمر العراق، لكنني أعتقد أن هذه العناصر السابقة هي مجرد بقع جزئية في لوحة استراتيجية أوسع حدودًا وأهدافًا، تتطابق حوافها مع تخوم الإقليم كله. غير أن المتغير الحقيقي الذي يوسع دائرة حسابات الاحتمالات في الوضع الإقليمي، والذي يمكن أن يقود إلي تحولات مفصلية، هو فشل هذا النمط من نقل الحروب بين الدول، إلي الحروب داخل الدول، في إحداث التغيير الذي ينشده الغرب وحلفاؤه في سوريا، رغم توسيع دوائر المواجهة ووسائط القتال وأعداد المقاتلين المبعوثين. لقد كان يوم التفجير الكبير في دمشق الذي أودي بحياة عدد من القادة العسكريين والسياسيين، في مقر الأمن القومي السوري، هو ساعة الصفر للإجهاز علي النظام، وقد كان إلي جانب مجموعة الاقتحام والتفجير ثلاثة آلاف مقاتل وُزعوا في دوائر متتالية داخل دمشق وحولها، وقد كان الهدف المباشر بعد التفجير وما تلاه من تفجير تالٍ، ثم ما تلاه من إعلانات تليفزيونية سابقة التجهيز، عن تمرد فرقة من الحرس الجمهوري، بث حالة فوضي شاملة في دمشق، تنتهي علي نحو طبيعي بسقوط النظام، ومع أن تفجير مقر الأمن القومي السوري، بلغ درجة عالية من التخطيط والحرفية. فإن دمشق ظلت علي حالها، فخلال ساعتين بعد التفجير كانت وحدات الجيش السوري قد تمكنت من قتل 2700 من القوة المسلحة، ولم يتمكن من الفرار غير 300 من أفرادها. من أجل ذلك وغيره، تبدو تركيا أكثر عصبية وأضيق صدرًا، ومن أجل ذلك وغيره، ارتفع صوت قطر في الأممالمتحدة، مطالبًا بتدخل عسكري عربي يطيح بمعادلات الأمن القومي العربي إلي غير رجعة، ومن أجل ذلك وغيره جري الحديث سجالا عن تدخل الجيش المصري، ولعله صنف غير مسبوق من الجنون، أن يتقاتل جيشان عربيان علي مذبح استراتيجية غربية، تلعب فها قطر دور الراعي الرسمي، وتلعب فيها تركيا دور رأس الرمح المسموم. ومن أجل ذلك وغيره، صدر قبل أيام قرار الخارجية الأمريكية بإخراج منظمة 'مجاهدي خلق' من قوائم المنظمات الإرهابية، تأهيلا لدفعها لتحسين الموقف المتزعزع للمقاتلين المبعوثين، وهو أمر ستكون له - لو كانوا يعلمون - مخاطر جسيمة، وتداعيات إقليمية كبيرة، وتفجيرات جديدة أوسع من حدود سوريا ومن حدود تركيا. يظل الحديث موصولا بعد ذلك بتفتح تلك الحاسة العثمانية التركية، ودورها في إطار الاستراتيجية الأمريكية، التي يجري العمل علي وضعها بالقوة الجبرية موضع التطبيق، لكنه ليس صحيحًا ولا مقبولا أن يوضع الإسلام في تناقض مع الأمن القومي، ولا أن يوظف الإسلام قناعًا لتمرير نزعة إمبراطورية للهيمنة والسيطرة، فالشام أيها السادة إذا كنتم لا تعلمون - هو العقدة الاستراتيجية، التي تلتقي فيها جميع المخاطر المتجهة إلي مصر..