تحاول تحقيقات الشرطة كشف ملابسات اقتحام بيت الكاتب الكبير «وديع فلسطين»، والتوصل إلى الجناة الذين فقدوا إنسانيتهم وهم يقيدون رجلا تجاوز التسعين إلى فراشه، يتركونه فى الليل البارد لا يستطيع الحراك مذعورا مصابا، أمله الوحيد أن يأتى الصباح لتفتح عليه الباب تلك العاملة التى ترتب له بيته يوميا، وهو ماحدث صباح الجمعة الماضى حيث تعرض لهذا الاعتداء الآثم على ما يبدو مساء الخميس . التصريحات التى امتلأت بها الصحف ووسائل الإعلام جاءت جميعها نقلا عن السيدة «وردة على» التى تعمل عند «الكاتب الكبير»، وردد الكاتب الكبير لويس جريس على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك مقولتها عن اختفاء مذكرات «فلسطين» التى كان يكتبها عن الإخوان، مع عدم سرقة محتويات البيت أو بعض الساعات التى كان يملكها!، ويبدو أن السيدة لديها رواية أخرى عن علمها من مكالمة هاتفية مع «الكاتب الكبير» فى الثالثة عصرا بتعرضه للسرقة نهار الخميس بعد أن ادعى من طرقوا عليه الباب أنهم محصلون من إحدى الجهات الرسمية كالكهرباء أو الماء ليفاجأ بملثمين سرقوا منه مبلغا لا يتجاوز ألف وخمسمائة جنيه! وعلى الرغم من أن الرجل نجا بالفعل من الاعتداء الإجرامى الذى تعرض له، إلا أنه قد يتعذر عليه التعرف على الجناة ليس لأنهم ملثمون فقط بل لأن «فلسطين» يكاد يكون فاقدا للنظر والسمع، وهى حالته التى رأيناها بأعيننا جميعا عندما احتفت به ندوة مناقشة كتاب «وديع فلسطين حارس بوابة الكبار الأخير» للكاتبة ولاء عبدالله أبو ستيت بنقابة الصحفيين منذ بضعة أشهر! وربما يكون من المهم أن نؤكد أن المعالجة الإعلامية للقضية اتسمت بنوع من الاندفاع واستقت معلوماتها من العاملة التى من المؤكد أنها ستكون رهن التحقيق بصرف النظر عن براءتها من عدمها، والحقيقة ان المقربين من وديع فلسطين، قد يتوقفون طويلا قبل أن يقبلوا بالسيناريو الإعلامى للقصة . نحن أمام مشهد عبثى؛ لأن ما حدث للكاتب الكبير يتجاوز عملية سرقة بالإكراه، بل إنه انهيار لمنظومة قيم كاملة، انهيار ترك تسعينيًا مريضًا وحيدًا فى بيته الذى يسمع فيه مواء القطط ربما بأكثر مما يسمع أصوات البشر، ولأن أحدا لم ينصت إلى صوت الحقيقة الذى يؤكد أن الرجل لم يكن قادرا على الكتابة منذ عامين على الأقل كما لا يوجد من يقوم بالكتابة نقلاً عنه، وهى أمور تعرفها جيدا وتؤكدها الزميلة ولاء عبدالله التى كانت الصحفية الوحيدة التى انتقلت لمستشفى هليوبوليس فور إبلاغها بنقل الكاتب الكبير إليها، ذهبت ليس بصفتها المهنية «وإن كانت مهمة» بقدر ما كانت فزعًا على الرجل الذى لم تتوقف عن الاطمئنان عليه وظلت تعرفه لسنوات قبل أن تقدم لنا كتابها عنه، وهو الكتاب الذى بدأت به مشروعها المهم للكتابة عن قامات أهملها المجتمع لتعيد قراءة تاريخ ربما قرأناه من قبل، لكنها هذه المرة تعيد قراءته بعيون مختلفة، وهو ما نزعم أنها قد أفلحت فيه عندما قدمت كتابها عن وديع فلسطين، إضافة إلى ما هو أهم بأن فتحت الباب لاهتمام الدولة بالرجل، فكان تكريم وزير الثقافة حلمى النمنم له، وكان اهتمام الدولة به كبيرا عندما تم قطع المعاش عنه للتأكد من أنه على قيد الحياة فتم تدخل الوزيرة غادة والى فورا وأعيد المعاش. ولا ننفى وجود المذكرات أو نثبته، فربما كان قد كتب شيئا منها قبل أن يتوقف عن الكتابة لظروفه الصحية، لكن فكرة سرقة المذكرات «إن وجدت وهو أمر مستبعد كثيرا» تبدو عملا صبيانيا، بعد كل من كتبوا ويكتبون عن الإخوان، سواء من منشقين عنهم، أو من محللين، ومؤرخين، وساسة، أدانوا جميعا إرهاب تلك الجماعة وأثبتوا جذوره، كما أن «وديع» كتب وقال كثيرا عن موقفه من تلك الجماعة، وعن علاقة الصداقة التى ربطته بسيد قطب، وهو فى تصريحاته عن تلك الصداقة لم يتخل عن مشاعر إنسانية ربطته بالرجل مع تحليل تحولات شخصية «قطب» بعد أن سافر إلى أمريكا، وكتب «فلسطين» عام 2014 مقدمة كتاب عن «سيد قطب ومعاركه الأدبية والنقدية»، ورغم ذلك كان وديع واضحا فى تصريحاته المضادة لحكم الإخوان! بداية يمكن تأكيد تفرد حالة «فلسطين» بوصفه شاهدا حيا على فترات مفصلية من تاريخ مصر، بداية من معاصرته للاحتلال الإنجليزى ثم قيام ثورة يوليو 1952، وما صاحب ذلك من تحولات سياسية واجتماعية، إضافة إلى علاقاته الشخصية ومنها علاقته بسيد قطب الذى بدأ أديبا، ويمكن القول إن «فلسطين» الذى يعيش بمفرده فى شقته ولا أحد يعرف على وجه التحديد طبيعة علاقته بابنته التى يقال إنها متزوجة من رجل أعمال! كانت حالته العقلية قبل الحادث ممتازة كما كانت ذاكرته جيدة جدا، وبعيدا عمن تاجروا بظروف الرجل الصحية والمعيشية، وهم من أسماهم «فلسطين» «مرتزقة الصحافة»، فقد منح الرجل مكتبته مؤخرا لإحدى الجهات من لبنان بما فى تلك المكتبة من مخطوطات نادرة وخطابات بخط اليد من شخصيات تاريخية وكتب موقعة من أصحابها من كبار كتاب مصر وعمالقة الأدب الراحلين، وهى مكتبة ثمينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن الصعب ان يكون منحها لتلك الجهة تم على سبيل الهبة وإنما الأقرب للمنطق أن يكون بمقابل مادى معقول، وهو ما لا ينفى أن الرجل عاش عيشة صعبة فرضتها الوحدة والظروف الصحية وما يحمله التقدم فى العمر من مخاوف مما يحمله الغد.