تلك صورة من قريب لجمال عبد الناصر, وهي تلم خيوطًا عميقة في مكونات شخصيته, في أبعادها الإنسانية والقيمية, قبل السياسية والاستراتيجية.. وهذه الصورة بكل مفرداتها, تنتسب إلي اللواء أحمد كامل, الذي كان آخر مناصبه هو موقع رئيس جهاز المخابرات العامة. لقد كان أحمد كامل قريبًا من قلبي, لكنه كان أقرب من كبريات الأحداث الوطنية والقومية, ففي حرب 1948 وجد نفسه في المجدل, وفي ذروة أزمة الديمقراطية بعد الثورة, وجد نفسه في معسكر ضباط المدفعية المتمردين, وفي قلب الوحدة, كان في الجيش السوري, وفي محاولة البناء في الستينيات, وجد نفسه محافظًا لمحافظتي أسيوط والمنيا, ثم محافظة الإسكندرية, وفي قلب محاولة هزيمة الهزيمة, مع تمرد أجيال من الشباب وجد نفسه مسئولا عن منظمة الشباب, ثم اختاره السادات بعد رحيل جمال عبد الناصر رئيسًا للمخابرات العامة, وفي غمرة أحداث مايو 1971 ضبط نفسه داخل جدران السجن. إن دوري في بناء هذه الصورة, هو دور الصائغ, ودور العدسة اللامة, مجرد نسج الخيوط التي تكوّن الحدود والفواصل. ليس هدفي من هذه السطور أن أدبِّج دفاعًا جديدًا عن شخص جمال عبد الناصر, أو أن أكتب به تعريفًا بوصفه عسكريًا, أو قائدًا, أو بوصفه زعيمًا, أو إنسانًا, ذلك أنني أحد الذين يؤمنون عن قناعة ويقين, بأن جمال عبد الناصر هو آخر مصري عربي سوف يكون محتاجًا علي امتداد قرون مقبلة, إلي من يصوغ قصائد مديح فيه, أو هجاء في خصومه, أو إلي من يقدم كشف حساب بانجازاته العظيمة, كما أنني - أيضًا - أحد الذين يؤمنون عن قناعة ويقين, بأن جمال عبد الناصر هو آخر مصري وعربي في خضم موجات متصلة من النضال الوطني والقومي تربو علي قرن كامل من الزمن, يمكن لبعض قنابل الدخان أو الأكاذيب أو الجراثيم, أن تهز أو تمس دوره الراسخ. لقد نصب جمال عبد الناصر من دوره وفكره ونضاله, قنطرة تحول تاريخية في حياة مصر والأمة العربية كلها, وبكل مستوي, وبكل بعد, وسوف تظل هذه القنطرة راسخة في موقعها, لأنها جزء ثابت وحاسم في مجري النهر الوطني والقومي العظيم, ومهما تكن الجسور التالية عليها, مجرد محولات جانبية أو موقوتة, تخفي تحتها جداول ماء, أو عواصف رمال. ومن المؤكد أن جمال عبد الناصر لم يؤلف العروبة, ولم يبتكر الدائرة الإسلامية أو الإفريقية, حول الدور المصري, كما أنه لم يصطنع حركة عدم الانحياز, فالعروبة والإسلام وعبقرية المكان المصري, باعتبارها مسرحًا استراتيجيًا كانت جميعها قبل جمال عبد الناصر, وبقيت وستبقي بعده وبعدنا جميعًا, ولكن القيمة الحقيقية لجمال عبد الناصر في ذلك كله وغيره, أنه أبصر بعمق, واكتشف ببصيرة نافذة, وحاول أن يحول قوانين الطبيعة الكامنة, إلي ضرورة فاعلة في مرحلة مواتية من التاريخ, ثم إن جمال عبد الناصر لم يؤلف معادلات القوة في البنيان المصري, أو العربي, وإنما استطاع أن يكتشفها ويترجمها, إلي حقائق بسيطة تكاد تنتسب إلي البدهيات. مصر قوية علي جبهة دولية واسعة, عندما تمتد طبيعيًا داخل نسيجها العربي, ومصر قوية ونافذة داخل محيط عربي واسع, عندما تتحصن بوحدتها الوطنية الخالدة, وتتمثل حاجات محيطها العربي تقدمًا علميًا وسبقًا حضاريًا وقوة عسكرية. ومصر قوية ومنتجة ومعطاءة, عندما تنفتح علي إيقاع العصر والدنيا من حولها, وتشارك دون قعود, وتتفاعل دون عزلة, ومصر منتجة ومبدعة ومتوحدة, عندما يكون العدل في موقع ميزان الحُكم والحَكم, لأن العدل ظل هاجس المصريين, منذ أن بدأوا يخضرون أرضًا, أو يلونون أفقًا, أو يرسمون فوق الطين, وينحتون في البازلت. معادلات بسيطة ولكنها عميقة, لأنها نبض التاريخ المصري كلّه... وحتي بالنسبة لشخص جمال عبد الناصر نفسه, فقد كان في تكوينه من حكمة هذا التاريخ نزر ليس باليسير, كبرياء بلا تكبر, ورحمة بلا تفريط, وعدل بغير انحياز, وإيمان بغير كهنوت, ووطنية بغير عنصرية, وقومية بدون تعال, وانتماء إلي القاعدة المنتجة العريضة, التي كانت سواعدها مشاعل الحضارة دومًا. ولم يكن جمال عبد الناصر قابلا للإفساد, فقد ظل وحده مصرًا ومتمسكًا بأمرين: انحيازه الاجتماعي إلي الأغلبية الاجتماعية. انتماؤه أو لنقل امتلاؤه بدوره بوصفه ثورياً لا بوصفه حاكمًا. حين اندفعت الدعوات بعد الثورة من أصحاب البيوتات, وكبار رجال الصفوة الاجتماعية القديمة للاحتفاء بالثوار, ودخل بعض الثوار من خلال هذه الدعوات إلي نسيج اجتماعي جديد, رفض جمال عبد الناصر كل دعوة, وأي دعوة مهما كان صاحبها أو هدفها, فلم يأكل علي مائدة صاحب ثروة أو جاه, ولم يخالط دوائر الصفوة المترفة, ولم يعاشرها, وأقام بينه وبين حياتها اليومية سدًا, لم ينجح أحد مرة واحدة في اختراقه, ولم تجذب جمال عبد الناصر كغيره اللقمة الطرية, والحياة الرغدة, بل استمر يواصل حياته كما كانت قبل الثورة, يأكل اللقيمات نفسها, ويرتدي الثياب نفسها, في حين كان غيره قد غير طعامه وشرابه, ودوائر أصدقائه ومعارفه, وجلده قبل ثيابه. ولم يفرض جمال عبد الناصر ذلك كله علي نفسه فقط, بل فرضه علي أسرته وأهله, إخوانًا وأعمامًا وأخوالا, وكانت علاقته بهم تنطق بذلك كله, وكأنه كان يطبق تلك الحكمة المصرية الخالدة: 'إن السمكة تفسد من رأسها'. ولست أريد أن أتحدث عن تلك القصة, التي تحدثت عن حب جمال عبد الناصر لابنة إقطاعي, وعن محاولته الانتساب إلي هذه الأسرة, ثم فشله, فلم تستأثر الطبقات المتخمة بفكر جمال عبد الناصر, ولم يكن في مقدورها أن تأسر شعاعًا دافئًا من قلبه, فضلا عن أن يسعي للانتماء إليها. سوف أبدأ بالاقتراب من تلك الدائرة الصغيرة لعلاقته بأهله المقربين, لقد ذكرت أن أول كلمات قالها, حين فاتحني في أمر تعييني محافظًا لأسيوط, كانت طلبًا متشددًا بأن أعامل أهله وأقاربه بشدة, وأذكر بعد ذلك وأنا محافظ لأسيوط أن اتهم أحد الفلاحين عمه طه, بأنه استولي علي فدانين من أرضه, وطلبت من عمه أن يرد الفدانين علي الفور, وقام بردهما إلي صاحبهما, فقد كان يعلم أن الأمر لو وصل إلي ابن أخيه الرئيس, فلن تأخذه به رحمة, وعندما وصل إلي جمال عبد الناصر ذات يوم خبر تأخر أحد أقاربه في دفع الضرائب, اتصل به بنفسه, وأمره بأن يدفع الضرائب فورًا, ولم يجد القريب بديلا عن أن يستجيب ويدفع ما عليه. أذكر بعد ذلك أن أخاه عز العرب عبد الناصر, قد كلمني بكلمات وسط آخرين, وأنا محافظ للإسكندرية, اعتبرتها غير لائقة بل ومهينة, ورغم أنني رددت عليه ردًا بالغ القسوة, فإنني لم أتحمل ما حدث فاتصلت بسامي شرف وأبلغته بالحكاية, وقلت إنني لا أستطيع أن أقود المحافظة بعد هذا, وقدمت استقالتي إلي الرئيس بالفعل, ولم انتظر رده عليها, وإنما ذهبت واعتكفت في منزلي. وحين عرف جمال عبد الناصر ثار ثورة عارمة, لم يقبل الاستقالة أولا ثم اتصل بأخويه ثانيًا, وأمرهما بأن يذهبا إليّ, وأن يقدما اعتذارًا علنيًا, أمام الأشخاص أنفسهم الذين جري الحديث السابق في حضورهم, وقد فعل أخواه ذلك بالفعل, ولم يكتف جمال عبد الناصر بذلك, فحين حضر إلي الإسكندرية لتشييع جنازة عمه خليل, وتقبل العزاء ووقف مودعًا في محطة سيدي جابر, اختار أن يسألني مشيرًا إلي أخويه, وعلي مرأي ومسمع من الجمع الكبير, علي رصيف المحطة: 'كيف أحوالهما معك الآن؟ قلت: كل خير. قال بصوت تعمد أن يكون عاليًا: إنني أقول لك أمامهما, إياك أن تسمح لهما بأي خطأ, لأنني لا أسمح ولا أقبل. ومع كل هذه الشدة, فقد كان حنونًا وعطوفًا معهم, ويكفي أن أورد حادثة واحدة للتدليل علي ذلك, كان جمال عبد الناصر عائدًا لتوه من رحلة استشفاء في 'أسخالطوبو' بالاتحاد السوفيتي, وكان يعاني آلامًا مبرحة في ساقيه, تفرض عليه قيودًا شديدة في الحركة والتنقل, وقد حدث وتعرض أخوه الليثي عبد الناصر وزوجته لحادثة سيارة, في طريق القاهرةالإسكندرية الصحراوي, وحين نقلتهما سيارة الإسعاف, إلي أحد مستشفيات الإسكندرية, أصررت أن أبلغ مكتب الرئيس, رغم أن الوقت كان متأخرًا جدًا, وبعد دقائق اتصل بي الرئيس, لم يسأل أي أسئلة إضافية, ولكنه قال علي الفور: 'أحمد أنا قادم بالسيارة الآن إلي الإسكندرية', حاولت أن أثنيه عن عزمه ولكنه لم يستجب, ووصل بالسيارة إلي الإسكندرية في حوالي الثانية صباحًا, ذهب إلي المستشفي مباشرة, وأمضي بعض الوقت مع أخيه, وفي حوالي الرابعة ذهب ليأخذ قسطًا من الراحة في استراحة بالمعمورة, لكن لم تمض غير ساعة واحدة حتي اتصل بي أطباء المستشفي, يقولون إن نتيجة الفحوص, تفيد بضرورة أن يتم إجراء جراحة لليثي عبد الناصر, لاستئصال طحاله الذي تهتك تمامًا من جراء الحادثة, ترددت في إبلاغ الرئيس, ولم يكن ثمة بديل عن الاتصال به في الخامسة صباحًا, وكان رده إنه قادم إلي المستشفي علي الفور ليكون إلي جوار أخيه, عند إجراء الجراحة, وحين حضر إلي المستشفي مع خيوط الفجر الأولي وناقش الأطباء واقتنع, أدخل الليثي إلي غرفة العمليات, فوجئت به بعد فترة يهمس في أذني قائلا: 'أحمد.. هل نجد هنا لقمة نأكلها؟'. ذهبت إلي مدير المستشفي أسأله عن طعام, ونجح مدير المستشفي بعد فترة في أن يرسل صينية عليها طبق من الجبن وبضع قطع من الكعك, وفوجئنا جميعا بجمال عبد الناصر, يأخذ في توزيع قطع الكعك والجبن علي الحاضرين جميعا, واحدا واحدا, مصرّا علي أن يأكل الجميع. والحقيقة أن تلك الصورة التي حاول البعض, أن يرسمها ويوزعها لعبد الناصر متحجر المشاعر قاسي القلب, هي صورة مزورة تماما, فلقد كان جمال عبد الناصر كإنسان, يفيض رقة وعذوبة لدرجة يصعب تخيلها. في أول أيام الثورة, كانت هناك طائرتان من سلاح الجو المصري, ومن طراز 'لانكستر' الإنجليزي, عائدتان من مهمة في الهند, ولأسباب فنية سقطت الطائرتان داخل الأجواء المصرية فوق صحراء ألماظة, ولم تكن المشكلة هي فقد الطائرتين, ولكن فقد الطيارين, فقد كان يصعب علي الطيار في هذا النوع من الطائرات أن يغادر مقعده, عندما يصبح الخطر محدقا, ولهذا استشهد الطياران احتراقا داخل هيكلي الطائرتين, وعندما نقل الخبر إلي جمال عبد الناصر, اعتصره ألم حاد في معدته, ثم انتابته نوبة من القيء الشديد, واستمر هذا حاله, كلما نقل إليه خبر حزين يتعلق برجل أو مقاتل, فقد حياته فوق ساحة الشرف, وحسب رواية الفريق أول محمد فوزي لي, فإن جمال عبد الناصر كان يتألم ألما شديدا, كلما نقل إليه خبر استشهاد طيار مصري, أثناء حرب الاستنزاف, سواء كانت الحادثة أثناء التدريب, أو أثناء اشتباك جوي مع طيران العدو, بل كان يلح علي 'فوزي' بأن يضع ضمانات أشد في كل حالة, حرصا علي حياة الضباط والجنود, وتأمينا لهم, وعندما اتسعت أقواس النيران, وتعمقت الدوريات المصرية, التي كانت تعبر القناة ليلا, وتخترق دفاعات العدو علي الضفة الأخري, لتقوم بعمليات فدائية في سيناء, كان جمال عبد الناصر يظل مستيقظا طوال الليل إلي جوار التليفون, حتي يبلغه القائد العام للقوات المسلحة, بتمام عودة الرجال من مهمتهم القتالية في سيناء, وكان ذلك لا ينطبق فقط علي وحدات العبور الأرضية, وإنما كان ينطبق أيضا, علي المهام التي تقوم بها طائرات الاستطلاع, أو الوحدات البحرية كالسفن أو الغواصات, وكان عبد الناصر في أعقاب كل مهمة, يتوقف طويلا أمام أسماء ويسأل متألما عن الأسباب, وكيف يمكن تجنبها, ويمارس ضغطا علي القائد العام للقوات المسلحة, حتي يحول دون تكرارها. وحين أبلغته يوما بأن ضباط الصواريخ يقولون إنهم يعرضون لأوضاع انتحارية, أثناء عمليات دفع قواعد الصواريخ إلي الحافة الأمامية من الجبهة, وأنهم يقدمون تضحيات عالية جدا, لم يكتف جمال عبد الناصر بسؤال القادة العسكريين, بل وسع من دائرة اجتماعاته مع ضباط الدفاع الجوي, حتي مستوي قادة الكتائب الميدانية, ليناقشهم ويسمع منهم, ويتعرف علي ظروف قتالهم الصعبة, وما يرونه لإنجاز المهام القتالية المطلوبة دون خسائر قدر الإمكان. أما فيضان ألمه وحزنه, فقد وصل إلي ذروته عندما استشهد الفريق أول عبد المنعم رياض, رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية, في موقع قتالي متقدم علي جبهة القتال, أثناء حرب الاستنزاف, وهو حزن وصفه القريبون منه بأنه أكثر مرارة من أي مرة, فقد فيها قريبا عزيزا علي قلبه. يرسمون - أيضا - صورا مختلفة لعبد الناصر الديكتاتور, المتشبث برأيه والمصر علي وجهة نظره, أو ما يعتقد أنه الصواب, وتلك أيضا - أكثر الصور المزورة والمتداولة عن عبد الناصر, فلم يكن الرجل متصلبا في رأي, ولم يكن هدفه من أي مناقشة, أن يدلل علي سلامة وجهة نظره, وعطب آراء الآخرين, بل كان هدفه في كل حوار أن يصل إلي الصواب, ولهذا كان مستمعا من طراز فريد, ومناقشا من الدرجة الأولي, وما أكثر المرات التي رأيت فيها جمال عبد الناصر, وهو يتراجع عن رأي كان قد أبداه في بداية نقاش, بعد أن استمع وأنصت وتأمل, فلم يكن يخشي أو يكابر, من أن يبدو رأيه في موضع الخطأ ورأي غيره في موقع الصواب, وكان في مناقشاته هادئا لا يظهر انفعالا, ولا تشبثا نهائيا باقتناع, ولا يسخر من غيره حتي إذا كان قوله يستحق أن يُتهكم عليه. والذين يقولون إن أعضاء الوزارة, لم يكونوا متحمسين لمناقشته أو إبداء آرائهم في اجتماعات مجلس الوزراء برئاسته, يذكرون نصف الحقيقة, فمن المؤكد أنه كان من الصعب علي الوزراء الذين يعملون مع جمال عبد الناصر أن يناقشوه, ولكن ذلك لم يكن يرجع إلي أنه يضيق برأي معارض أو مختلف, أو أنه كان يتعمد مصادرة رأي غيره, أو يخنق فرص الحوار, فالحقيقة أنه كان يلح علي الآخرين, ومن بينهم الوزراء, لكي يبدوا بأوسع مدي ممكن وجهات نظرهم, وأن يناقشوه فيما يطرح من تقديرات, ولكن ذلك كان يبدو دائما مغامرة غير محسوبة, ومحفوفة بالمخاطر, إذ كان كل وزير يدرك عن يقين, أن جمال عبد الناصر قد دخل إلي اجتماعات المجلس, وقد درس كل قضية, وكل ما يتعلق بسلبيات العمل, أو أوجه قصوره, وبالتالي فليس ثمة فرصة لتغطية عجز أو قصور. ولم يضق جمال عبد الناصر مرة واحدة برأي مخالف لرأيه, تم عرضه عليه, كما أنه لم يصادر وجهة نظر كانت تتلمس طريقا صحيحا إلي الصواب, الذي كان همه الحقيقي في كل حوار, كما قلت. ولم يكن في جمال عبد الناصر أي حس ثأري, ولم يتعامل مع غيره بهذا الحس, مهما كان الخطأ أو كانت الخطيئة, بل استطيع أن أقول إن جمال عبد الناصر, كان شديد التسامح, وكان تسامحه لا يسمح بأن تتكون في داخله الضغائن, ولم تكن أي محاكمة مما أقامها للذين خرجوا علي نظامه هدفها الانتقام, بل كان يقول دائما: 'نحن نشد الأذن فحسب, لأن هدفنا ألا يخطئ الناس' ولم يكمل أحد فترة الحكم عليه, ولم يخرج أحد من سجنه دون أن يعيده إلي وظيفته, أو يتلمس له وظيفة جديدة, وفيما أعرف, فلم يلجأ أحد ممن أضيروا إلي جمال عبد الناصر إلا أنصفه, وأصلح من وضعه, ولم يطلب منه أحد سؤالا أو حاجة, ورده دون أن يجيبه. كانت ذاكرته تختزن كل شيء, الوقائع والأحداث والألوان والأشخاص ومئات التفاصيل الصغيرة, ولهذا كان دقيقا جدا في عمله, يقرأ كل ورقة ترفع إليه, وكل تقرير, ويرد تفصيلا علي كل مذكرة, وعندما كنت أرفع إليه تقارير التنظيم الطليعي, التي تغطي محافظات مصر بشكل يومي, كان يرد عليها في اليوم نفسه, ولم يكن يرد علي كل تقرير ككل, وإنما كان يكتب ويؤشر ويتخذ القرارات, أمام كل بند من بنود كل تقرير علي حدة, وفوق كل ما يقرؤه من مئات الصفحات, التي تشكل تقارير أجهزة الدولة المختلفة إليه يوميا, فقد كان قارئا مثقفا من طراز فريد, فلم يصدر كتاب مهم في العالم أو في مصر, إلا وكان جمال عبد الناصر في مقدمة قرائه, محرضا غيره علي قراءته, لقد أمر جمال عبد الناصر ذات يوم في أعقاب هزيمة 1967, بأن تجمع له جميع الكتب التي تصدر في جميع أنحاء العالم, عن حرب 1967, وكان عدد الكتب التي جمعت وقرأها عن الهزيمة وحدها 148 كتابا, وحين فرغ من قراءتها أرسلها إلي الفريق أول 'محمد فوزي' ليقرأها, ثم فرض عليه أن يناقشه فيها كتابا بعد كتاب. أريد أن أضيف أيضا, لأولئك الذين لم يعرفوا جمال عبد الناصر عن قرب, أنه كان يحكم نفسه بمجموعة متسقة ومتماسكة, من قواعد الأخلاق والمثل العليا, وأنه لم يخرج عنها يوما, كان سياسيا محترفا, ولكن السياسة بالنسبة له لم تكن لعبة خارج نسق القيم والأخلاق, فلم يتلّون جمال عبد الناصر, ولم يظهر بوجهين, وإنما كان واضحا صريحا مباشرا, يظهر ما يبطن, ويقول ما يؤمن به, ويدافع عما يعتقد حقا أنه الصواب, صادقا مع نفسه ومع من حوله, ومع الناس جميعا. وأعتقد - أيضا - أن مصر قبل جمال عبد الناصر, قد دفعت ثمنا لمنظومة القيم, التي آمن بها جمال عبد الناصر, كما دفعت ثمن جانب آخر في بنائه وتكوينه الشخصي, قد لا يعرفه إلا الذين اقتربوا منه, إلي حد الالتصاق به. كان جمال عبد الناصر تأسره الأشياء التي يعاشرها قبل الأشخاص, وكان في تكوينه شيء يسمح بسطوة الألفة التي تفرضها عليه حرارة صلته بما يلمسه بحواسه, أو يتلامس معه بوجدانه. من يصدق أن جمال عبد الناصر, احتفظ بساعة يده التي حوصر بها في الفالوجا, وشاركت ساعده ضبط التوقيت ليلة الثورة, وأنها ظلت في مكانها بيده لسنوات طويلة؟ ومن يصدق أن جمال عبد الناصر, لم يتخلص من سيارته الأوستن الصغيرة, التي كانت وسيلته للتنقل قبل الثورة, وحتي عندما تآكلت وانتهت, أصر علي أن توضع في جراج رئاسة الجمهورية, لتكون قريبة منه, وقد ظلت في مكانها سنوات بعد رحيله عن عالمنا. شيء من هذا كله يصلح تفسيرا وحيدا لعلاقات جمال عبد الناصر بعدد من الأشخاص, وبسطوة الألفة التي مارستها هذه العلاقات عليه, ولا أظن أن علاقته بعبد الحكيم عامر في تقديري, تبعد كثيرا عن معاني وأسباب هذه السطوة. أستعيد الآن آخر لقاء بيني وبين قائد الثورة, كان عائدا علي عجل بالقطار من مرسي مطروح, بعد لقاء مع العقيد القذافي, ليحاول أن يلم تداعيات الموقف, إبان أزمة منظمة التحرير مع الأردن الشقيق, في سبتمبر 1970, وصلت الإشارة من مرسي مطروح بأن الرئيس سيتوقف بالقطار في محطة المنتزه, ليكمل سفره إلي القاهرة بالسيارة, وأنه يطلب ألا يكون في استقباله أحد إلا المحافظ فقط. ووقفت في محطة المنتزه وانتظرته, وحين هبط من القطار كان علي وجهه سيماء حزن طاغ, كان وجهه ينطق بكلمات قدر لي أن أسمعها منه قبل ذلك بشهور قليلة: '.. إنهم يريدون أن يحطمونا.. يريدون أن يدمرونا.. ' لم يعد أمامنا طريق سوي أن نحارب, وحتي لو نجحوا في تحطيمنا في هذه الحالة, فسوف يحطموننا ونحن شرفاء' من المؤكد أن جمال عبد الناصر مات, وهو في قلب ساحة الشرف, مخلفا وراءه مجدا عظيما لشعبه وأمته, وللإنسانية جمعاء, رغم أن جسده وجسد وطنه, كان مثخنا بالجراح.