احتل المتظاهرون شوارع منطقة المصارف وسوق المال في حي مانهاتان وهم يرددون الهتاف، 'هنا القاهرة، هنا تونس، هنا التغيير والشمس المشرقة'. بالفعل بدت للمتابع من بعيد أوجه التشابه بين ربيع مصر وربيع أمريكا عجيبة ومثيرة، رغم ما يفرق بينهما من مسافات شاسعة وثقافات متباينة، وبدت أوجه الاختلاف أيضا غريبة. وسواء تشابها أم اختلفا يظل في حكم المؤكد أن إحداهما لم تحظ حتي الآن باجماع يعترف لها بصفة الثورة. أولا: مازالت كل منهما في اعتبار الكثيرين انتفاضة شعبية أو إرهاصات ثورية أو حركة احتجاجية. وكان أسوأ الأوصاف الوصف الذي وصفت به الكاتبة الأمريكية اليمينية آن كولتير مظاهرات مانهاتن، وصفتها بأنها لا تزيد علي كونها انتفاضة غوغائية، باعتبار أن أهدافها غير متسقة وأنها أشبه ما تكون بانتفاضة الباستيل خلال الثورة الفرنسية. وصفها آخرون وبعضهم من عمالقة تيار اليمين المحافظ مثل جلين بيك بأنها أعمال يقوم بها فوضويون ومتسكعون أو مرتبطة بأجندات خارجية. ونعتوا المشاركين فيها بأنهم عاطلون عن العمل لم يجدوا ما يشغلهم فخرجوا إلي الشوارع يقضون الوقت ويتسلون، وإن كان عدد منهم لا يريد أن يعمل بحجة أنه يرفض العمل لحساب 'رجال أعمال من مصاصي دماء الفقراء الكادحين'. أغلبنا يسمع في مصر هذه الأيام أصواتا تنقلها لنا قنوات فضائية من نوع صار مألوفا ومنفرا ومخيبا للأمل تردد صفات مماثلة لتلك التي تروج لها عناصر يمينية متعصبة في الولاياتالمتحدة، وتزداد هذه الأصوات المصرية علوا مع صحوة المناهضين للثورة والتغيير واستمرار تعطل بوصلة الحكم وصعوبة توصل 'عشائر الثورة' إلي درجة متحضرة من التنسيق بينها. ثانيا: تشابها أيضا في آن أحد عناصر نشوبهما كان الاعتقاد لدي قطاعات واسعة من الشعب بأن النظام الحاكم فضل إنقاذ بنوك ومصارف وشركات عقارية كانت علي وشك الإفلاس بدلا من أن يصلح الاقتصاد ويحارب الفساد لتحسين أحوال الغالبية العظمي من المواطنين. وقع هذا التفضيل في الولاياتالمتحدة علي يد الرئيس بوش واستكمل سياساته الرئيس أوباما فور توليه الحكم. ويقال الآن إنه كان بما فعل يرد الجميل لقطاع المال والأعمال الذي ساعده مساعدة كبيرة بالمال وفضله علي منافسه الجمهوري المحافظ. إذ بلغ دعم القطاع المالي للمرشح الديموقراطي أوباما ما يزيد علي 7.9 مليون دولار مقابل 4.2 مليون دعم بها المنافس اليميني الممثل للحزب الجمهوري. ثالثا: وتشابها في موقف الميديا منهما. يقول كيث أوبرمان الإذاعي المعروف في التليفزيون الأمريكي إن تعتيما إعلاميا أحاط بكل أنشطة الجماهير التي خرجت لتشترك في حملة 'احتلوا وول ستريت'، ولم ينفرط هذا التعتيم إلا عندما اشتبكت الشرطة مع المتظاهرين الذين تعمدوا تعطيل حركة المرور في أحد أهم جسور نيويورك. يذكر ولا شك شباب الثورة في مصر كيف تعامل الإعلام الحكومي المسيطر علي الميديا المصرية مع حركتهم في أيامها الأولي، وكيف تبدل الحال تماما عندما وقع الاشتباك الأول برجال الشرطة وسقط ضحايا. يقول معلقون آخرون إن شعار 'سلمية.. سلمية' الذي ألهم منظمي حركة احتلال وول ستريت وحركات أخري في مدريد ولشبونة ولندن، ويلهم الآن سكان مدن أخري في الولاياتالمتحدة، هو نفسه السبب في تقصير الميديا عن تغطية الثورات في أيامها الأولي. رابعا: تشابهت الثورتان في موقف البيروقراطية الحكومية منهما، ففي كل الحالات لم تخف البيروقراطيات في دول الثورات جميعا شكوكها في أن الثورات لن تستمر طويلا لأنها لم تستعد بالكفاءات اللازمة والأساليب الضرورية لإدارة شئون البلاد، أو حتي شئون 'الثورات' وعملت البيروقراطية، ومازالت تعمل، استنادا إلي هذا الاقتناع. بل إنها ذهبت إلي أبعد من مجرد انتظار الفشل حين بدأت تعمل متكاتفة مع القوي المناهضة للثورات، أنصار النظام القديم في حالة الربيع العربي، وتنظيمات اليمين المحافظ في حالة ثورات نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وبوسطون ومدن أوروبية إلي الجانب الآخر من الأطلسي. خامسا: تشابهتا حين اختارت، كل علي حدة، أن لا تلتصق باليسار فكرا أو تنظيما، ويقول جون جابار في مقال بصحيفة فاينانشيال تايمز إن الثورات أحسنت صنعا لأنها لو التصقت لجاءت نهايتها أسرع، أو لما حققت انجازا علي أي الأصعدة ولما استجابت الحكومات لمطلب من مطالبها. وأعتقد أن ملاحظة جون جابار ذكية وأن نشر فاينانشيال تايمز بالذات لهذه الملاحظة له مغزاه وإن كان لا يعني بأي حال أنني أوافق علي أن اختيار عدم الالتصاق باليسار وقع بناء علي تخطيط أو دراسة بقدر ما يكون قد أتي مثلما أتي اختيار ثورات الربيع العربي الابتعاد عن القضايا الحساسة في السياسات الخارجية علي الأقل خلال فترة الانطلاق والتثبيت. وقد لاحظنا فعلا أن تيارات يسارية لم تبارك علي الفور أو بالحماسة المتوقعة الثورات العربية وثورة مانهاتن وإن فعلت بعد حين، ومازالت تصدر عن بعضها انتقادات منها عدم وجود أهداف محددة أو شكل محدد. ومايزال الجدل دائرا حول ميل هذه الثورات جميعا إلي استخدام الشوارع والميادين والحدائق 'مثل حديقة زوكوتي في نيويورك'، كساحة لاتخاذ القرارات، فمن قائل إنها تعكس طبيعة العصور الطبيعة الخاصة لهذه الثورات التي تتخذ قراراتها عبر الوسائل الإلكترونية وتحملها معها جاهزة إلي الساحة، ومن قائل إنه من غير المعقول أن نقلد في القاهرة وصنعاء وحمص وحماة ونيويورك، بل وفي أثينا المعاصرة، أثينا الإغريقية حين كانت القرارات تتخذ جماهيريا وفي الميادين العامة. ●●● تشابهت الثورات أو الانتفاضات في نواحي عديدة، ولكنها تشابهت أكثر شيء في ردود فعل الطبقة السياسية الحاكمة، سواء تلك التي فقدت بعض عناصرها كنتيجة مباشرة لانطلاق الثورة، أو تلك التي تحاول الآن جاهدة وبحماسة مفاجئة تفادي ذلك. ففي كل الأحوال عمدت الطبقة الحاكمة، وأكثرها لم يسقط تماما أو لم يسقط غالبا، إلي استخدام وسائل متباينة لترويض الاحتجاجات، منها الاعتراف السريع بأخطاء جسام. وهو ما فعلته الطبقة الحاكمة الأمريكية، إذ خرج محافظ البنك المركزي الأمريكي ليعترف بحجم الفشل الذي أصاب الاقتصاد الأمريكي، وبالمثل صرح الرئيس أوباما تصريحات متعاقبة عن هول الأزمة الاقتصادية الأمريكية وبشاعتها وإن حاول إلقاء بعض المسئولية علي الأوروبيين، وسارع مجلس الشيوخ بإعلان استعداده الموافقة علي زيادة الضرائب علي أصحاب الدخول التي تتجاوز المليون دولار. تدرك الطبقات السياسية أن مقتل أي ثورة يكمن في إجبار 'الثوار' علي إصدار قرارات هم غير مؤهلين لاتخاذها، وفي تسريع عملية 'تسييس' الثوار بحيث يختصر وقت الثورة ويبدأ وقت التأهل لتولي مناصب السياسة، والاكثار من استدراج أو حث مؤسسات وشخصيات من خارج الثورة لتنصح الثوار وترشدهم أو لتمزق صفوفهم وتكشف للرأي العام عن براءتهم وبساطتهم. ما أغربها صورة.. صورة ثوار تستشيرهم الطبقة الحاكمة في أدق مسائل السياسة وإدارة الدولة والقانون والدستور وتأخذ رأيهم في شئون بعضها بعيد.. بل بعيد جدا عن أحلام شعب وتطلعات ملايين العاطلين عن العمل ومئات الألوف من عائلات لم تحقق لها الثورة آمالها في الكرامة والعدالة الاجتماعية. تفرغ ثوار عديدون للإدارة والقرار فتغيرت الصورة التي التقطت للثورة في أيامها الأولي، لم تعد الصورة، كما كانت، واضحة وبسيطة ومعبرة. يقول ثوار مانهاتن إنهم لن يتخلوا عن ممارسة الضغط حتي تستجيب الطبقة الحاكمة إلي مطالب الكادحين ويتوقف نفوذ رجال المال والأعمال في دوائر الحكم وتمتنع الحكومة عن لعب دور وكالة التأمين علي الشركات والأغنياء والاقوياء، وتجاهل صغار المستثمرين والفقراء والضعفاء. ●●● اختلف مع بعض ما يطرحه الكاتب الصحفي توماس فريدمان من أفكار وآراء، ولكنني توقفت طويلا وبإعجاب أمام فقرة في مقال نشرته له أخيرا صحيفة نيويورك تايمز تعليقا علي الحملة الجماهيرية لاحتلال حي المال والأعمال، يقول فريدمان.. 'اقرأ الصحف فأقتنع بأننا.. نحن الشعب، نعيش في أزمة اقتصادية وننشغل بأمورها بينما أنتم السياسيون تستعدون للانتخابات وتنشغلون بأمورها. إنه أمر مخيف لأنه لا توجد صلة بين الانشغالين. انشغال الشعب وانشغال الطبقة السياسية'. الشروق