من الأقوال القديمة، التى حفظتها عن ظهر قلب.. أن «مصر هبة المصريين».. لا كما رآها هيرودوت بأن «مصر هبة النيل».. ولأننى لا أرغب فى إعادة اكتشاف العجلة.. أو الدخول فى جدل سفسطائى حول المقولة وعكسها.. فسأكتفى بمسيرة التاريخ.. ونضال الأجيال تلو الأجيال.. منذ عهد الفراعنة، حتى اليوم وغدًا وبعد غد.. وهم يبذلون الغالى والنفيس.. الدم والعرق من أجل هذه البقعة الباهرة، الطاهرة، الخالدة، المتوهجة، الصامدة.. التى تسمى «مصر».. نعم إنها تشبه التاج.. بل هى التاج الماسى على رأس النيل الخالد.. عندها يكون المصب والتلاشى.. وعندها يتم الالتحام والذوبان فى البحر المتوسط. ولا جدال فى أن من صنع هذا التاج، وهندَّسه ورصَّعه بالجواهر النادرة والنفيسة التى تحدت الزمن فى البقاء والخلود.. هو الإنسان المصرى «الشاعر» بقيمتها وقدسيتها وأهميتها وألقها.. قل عنه الفنان.. المثقف.. الجندى.. المهندس.. الفلاح.. العامل.. الطبيب.. المفكر.. الفلكى.. المعمارى.. إنه مزيج مدهش من أفكار مبدعة.. وجنود أبطال.. وسواعد لا تلين.. وخيال خلاق.. انصهروا فى بوتقة أرض ووادٍ ونهر.. وفى عناق تحدوا المستحيل.. فولدت حضارة من أعرق الحضارات وأقدمها يعرفها القاصى والدانى.. العدو والصديق.. الشرق والغرب. ولا عجب أن نقول ونؤكد أن من بنى مصر وشيَّدها هو «الشاعر» إحساسًا بقيمتها وقدسيتها.. نعم إنه فى البداية الصوت الذى يجمع.. صوت المنادى.. صوت الناى والربابة، ونعمات الساقية، والشادوف، والمحراث.. إنه الصوت الذى يؤلف بين القلوب ويغذيها.. ويحض على الإنجاز والبناء.. ويدفع فى الشرايين وهج العلم والمعرفة والعمل والانتماء والتضحية. وقديمًا أيضًا.. قرأت فيما قرأت.. أن الشعر العامى هو ديوان العمل.. إنه أغنية طويلة ممتدة تحرضك على الإنتاج والسير فى سبل الحياة ومناحيها.. وقد قرأت فيما قرأت للراحل الكبير.. والباقى! سيد شعراء العامية «سيد حجاب» شيخ صيادى اللغة واحد محاربيها.. والمشهود له بإنجازه الضخم فى الأغانى عن عشرات المسلسلات والمسرحيات والأغانى الفردية المتميزة بأهازيجها الأصيلة والعفية.. وبأصوات مازجة بين الشجن الدفين والبهجة المطلة من الشبابيك و«البيبان».. فقد قال: «إذا كان الشعر ديوان العرب.. فإن الأغنية ديوان المصريين».. وهو وصف دقيق ودال.. ولهذا راهن على الأغنية التى تطل بسهولة على الناس، وتجمعهم.. فصنع منها وبها عقدًا فريدًا.. لا يزال المصريون منشدِّين إلى سماعه فى الأفراح والأتراح.. والدليل «ساقية الصاوى» وحفلات الغناء فيها، وتهافت الشباب على سماع تلك الأغانى القديمة الحديثة.. وهى تجمع بين القدم والحداثة، لأنها أغانٍ صافية ونقية وعفية.. تتشبع بحس وطنى صادق وعميق.. خالية من كل ما هو مطروح فى الأسواق وهو يشبه الوجبات السريعة ومكسبات الطعم التى تؤدى إلى التلبك المعوى وربما السمعى أيضًا!! نعم أغانيه تصيب العصب العارى، والمعنى الدفين لدى كافة الأعمار والمهن.. إنها باختصار أغنية تضرب على الأصيل وتعرى الهجين الزائف! ويرحل شاعرنا الكبير «سيد حجاب» عن 77 عامًا.. يوم 25 يناير.. وهو يصادف الذكرى السادسة للثورة.. وهو يوم يكتنفه الحزن.. والغيوم الكثيفة.. لأكثر من سبب.. السبب الأساسى هو فقد شاعر بقيمة وقامة «سيد حجاب» الذى من الصعب أن تجود الأزمنة القادمة بمثله.. أو نصادف مثل هذا الصوت فى عذوبته، وأصالته، وعمقه، وصموده، ونضاله.. فى الأيام والسنوات القادمة المنظورة.. لأن تكوين الشاعر فوق موهبته «الربانية» يحتاج إلى سنوات عديدة متراكمة من تكوين، واجتهاد، وتثقيف عانى فيها «حجاب» وكابد.. وقبض على الجمر، و«بحَّر وقبَّل».. حتى ارتقى إلى ما ارتقى إليه شيخ صيادى الأغنية العفية المكتملة.. الباقية والمؤثرة.. والشاهدة على العصر.. نعم لقد صنع مع رفيق دربه الموسيقار الراحل «عمار الشريعى» ثنائيًا غنائيًا مصريًا استثنائيًا ومبدعًا وخلاقًا.. وسيظل يشنف الآذان والوجدان المصرى والعربى.. لكأنه يطلق ألسنة من نيران على ما نحن فيه من هوان موسيقى غنائى.. من كلمات وألحان فى معظمها كسقط متاع! وها هى «المهرجانات» المنتشرة التى تشبه «الفيروسات» السمعية!! أما السبب الثانى.. فهو ذاك الأسى العام الذى أصيب به «سيد حجاب» وشاركه فيه كل من آمن بثورة يناير ويونية.. وأعتقد جازمة أنه إذا ما كانت واتته القوة والعزم- وقد كان فى أيامه الأخيرة يعانى بشدة المرض العضال وألمه صامتًا صامدًا- كنا سنقرأ له أكثر من قصيدة تنال من هذه الظاهرة البغيضة.. ظاهرة التسريبات الصوتية التى تذاع فى الفضائيات للتشهير بشخصيات قد نختلف معهم شاركت فى الثورة.. والهدف هو إهالة التراب على الثورة ذاتها! لكن من يتأمل الظاهرة ويقرؤها بعمق وروية.. سيرى أنها تنال بالأساس من الدولة المصرية الوطنية التى ترغب فى أن تكون حديثة.. والتى تكفل الحماية للمواطنين كافة.. ولا تتعرض لحياتهم الشخصية كما كفلها ونص عليها دستور 2014.. ذلك الدستور الذى كُتبت ديباجته بإبداع قلم «سيد حجاب».. وهى للأسف لم تعجب من هم وراء تلك التسريبات.. فى الوقت الذى نالت استحسان مؤيدى الثورتين، لأنهم مؤمنون بأنه لولا يناير ما كانت يونية.. وهكذا لمسناها فى كلمة الرئيس السيسى يوم 25 يناير 2016.. وها هو الدستور ومن واقع الديباجة ينص فى إحدى فقرات الديباجة على أن «ثورة 25 يناير 30 يونية فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية بكثافة المشاركة الشعبية التى قُدِّرت بعشرات الملايين وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية وبمباركة الأزهر، والكنيسة الوطنية لها.. وهى أيضًا فريدة بسلميتها وبطموحها أن تحقق الحرية والعدالة الاجتماعية معًا». *** نعم آمن سيد شعراء العامية بالثورتين.. مثله فى ذلك مثل رفيقى الدرب.. شاعر السجون والمعتقلات والحريات «أحمد فؤاد نجم».. وشاعر الجنوب وصهد الحرائق.. والفقراء والمساكين «عبد الرحمن الأبنودى».. الثلاثة دافعوا بحرارة عن يناير وعن الثوار.. لكن يظل «سيد حجاب» الأقرب إلى صورة المعادل الموضوعى المعاصر لعبد الله النديم الذى آمن بثورة عرابى والفلاحين حتى صار عنوانًا لها.. بل صار صوتًا للفقراء والثوار الذين يستدفئون بأغانيه فى أيام التحاريق!!