لو بقي نجيب محفوظ علي قيد الحياة إلي اليوم لكان أسعد خلق الله برؤية يوم ظل يحلم به ويحرض عليه في أدبه طوال عمره المديد، أعني يوم خروج الشباب المصري في الخامس والعشرين من يناير مطالبين بالحرية والعدالة وإنهاء عصر الفساد حيث التحم بهم الشعب المصري في ثورة عارمة أسقطت الرئيس ونظامه. كان نجيب محفوظ يراهن علي شباب مصر وكان علي ثقة راسخة بأن تغيير الجهاز الحاكم بل تغيير الواقع كله لن يتم إلا بسواعد وعقول الشباب، ولم يكن يطيب له الجلوس في أي مكان إلا وحوله عدد كبير من الشباب. علاقته بالشباب كانت قوية جدا وذات حميمية خاصة وكل من اقترب من نجيب محفوظ لابد قد أدرك هذا، ولابد قد لاحظ أن كثرة عدد الشباب في ندوته الأسبوعية في كازينو أو برا ثم في مقهي ريش ثم في كازينو قصر النيل كانت تبهجه وتنعش دماغه وملكاته وتوقظ حسه الفكاهي فيتوهج في نكته وقفشاته. إن حرصه علي قيام ندوته الأسبوعية أساسه الحرص علي ملاقاة الشباب فلقد طارده جهاز أمن الدولة وعمل علي إفشال الندوة, ولأن ذاك الجهاز المقيت لم يكن يجرؤ علي اقتحام الندوة وفضها بالقوة كما فعل ذات يوم في كازينو أوبرا في ستينيات القرن العشرين فإنه كان يلجأ إلي تهديد أصحاب المكان بالويل ما لم يغلقوا الأبواب أمام نجيب محفوظ وصحبته، هكذا فعلوا مع أصحاب كازينو أوبرا بعد أن استأنفت الندوة الانعقاد في الأسبوع التالي لأسبوع الاقتحام، وحرصا من نجيب محفوظ علي مصلحة أصحاب المكان نقل ندوته إلي مقهي ريش واستمرت في الانعقاد سنوات عديدة تعتبر أخصب السنوات في عمر الندوة حيث اتسع المكان لأعداد كبيرة جدا من شباب الكتاب عشاق نجيب محفوظ، وفي مقهي ريش اكتسبت الندوة شهرة عريضة امتدت إلي جميع أنحاء الوطن العربي والعواصم الأوربية؛ فكان الأدباء العرب والمستشرقون والمترجمون والنقاد من بلاد أوربية كثيرة يأتون إلي مقهي ريش يوم الجمعة لمقابلة نجيب محفوظ والتحدث إليه.. أنا شخصيا تعرفت علي أدباء من السودان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمغرب وتونس والجزائر وليبيا في ندوة نجيب محفوظ في مقهي ريش، بل أصبح المقهي عنوانا يتراسل عليه الأصدقاء من الأدباء والشعراء العرب والمصريين كان كأنه بيت المثقفين العرب، لهم فيه حضور حتي إن لم يحضروا بأجسادهم فإن أعمالهم الأدبية تتناولها الندوة، ومن الجمعة إلي الجمعة يدور الحديث بين الرواد عن موضوعات سوف يقترحونها علي الندوة يوم الجمعة المقبل. ذلك أن صاحب المقهي - عليه رحمة الله - رجل صعيدي قح مع أن لونه ومظهره يخدعانك بأنه قد يكون من أصل يوناني أو يوغسلافي كإيزافيتش وهذا الصعيدي الذكي اللماح كان علي درجة عالية من الوعي وبُعد النظر، تحكمه أخلاق الصعايدة ذات الصلابة والجدية فيما يتعلق بالأصول والقيم الأخلاقية والاجتماعية، وذات أريحية فيما يتعلق بالجوانب الإنسانية، أعني أنه كان رجلا يحترم المودة والعشرة وواجب الصديق علي الصديق. ولهذا لم يظهر لنجيب محفوظ أو لأي من رواد الندوة، - لا تصريحا ولا تلميحا - أنه يتعرض لضغوط قوية من مباحث أمن الدولة لكي يمنع إقامة الندوة في مقهاه, ضغوط وصلت إلي حد التهديد بإغلاق المقهي. ولكن نجيب محفوظ هو الذي شعر بهذه الضغوط بفطنته كابن بلد بمعني الكلمة يفهمها وهي طائرة، فلقد كان خبيرا في التعرف علي المخبرين الذين يندسون عليه في الندوة في بعض شبان يدعون أنهم من هواة الأدب، وكان علي يقين بأن مباحث أمن الدولة تعتقد أنه يجمع الشباب حوله ليحرضهم علي الثورة ضد النظام الحاكم الذي يهاجمه نجيب بضراوة في قصصه ورواياته، ولم يكن ينزعج بل كان يطلق ضحكته الرنانة وهو في غاية من الاطمئنان سيما وأنه في ندوته لا يتحدث إلا عبارات محدودة جدا لا تعكس رأيا محددا فيما يجري من أمور السياسة, إنما كان مستمعا مثاليا ولما تأكد أن الضغوط علي صديقه صاحب المقهي تتضاعف آثر الانسحاب حتي لا يسبب له أي ضرر، ونقل ندوته إلي كازينو قصر النيل، ونقل قعدته الصباحية اليومية إلي مقهي علي بابا في ميدان التحرير حيث يشرب القهوة ويقرأ الصحف ثم يتركها ويذهب سائرا علي قدميه إلي جريدة الأهرام. ويوم أن تلقي نبأ فوزه بجائزة نوبل لم تفقده الفرحة توازنه، ربما لشعوره بأنها تأخرت عليه وفاز بها من قبله من هم دون موهبته بكثير، أو لعله لم يكن يبغي من وراء الأدب شهرة ولا مالا؛ ولكن المرجح عندي أنه الكبرياء الشامخ، للعلو علي الصراعات الرخيصة، فليس هو بالذي ينتظر جائزة لكي يعترف به الواقع الأدبي حتي لو كانت جائزة نوبل، وهكذا حينما أذيع الخبر رسميا وامتلأ بيته بالزوار المهنئين تركهم جميعا في البيت وانطلق إلي كازينو قصر النيل ليجلس مع أصدقائه الشباب من رواد ندوته، كأنه يريد إبلاغهم بأن الجائزة ليست أعز عليه منهم، إنهم في نظرة القيمة الكبري، إنهم المستقبل المأمول. ولئن كانت هواية المشي قد أطالت عمره البدني كما أطالت عمر يحيي حقي وتوفيق الحكيم وهما من زعماء المشائين, فإن التحام نجيب محفوظ بالشبان قد أطال لا شك - عمره الإبداعي، حيث لم يتوقف عن الإبداع إلا في فترة محدودة بعد أن تلقي طعنة سكين غادرة في رقبته كانت كفيلة بالقضاء عليه نهائيا. إلا أن إرادته الصلبة مكنته من الشفاء، وبصبر أيوب درَّب أصابعه علي الإمساك بالقلم، وكتابة أحلام فترة النقاهة وهي أعمال فنية مضغوطة فيما يشبه الأقراص الصغيرة. الرأي عندي أن التحام نجيب محفوظ بالشبان في مختلف الأجيال الطالعة جعله علي الدوام شابا في الفكر وحيوية الرؤية الفنية، كان يقتبس اللهب من الشبان ويستمع إليهم بشغف فيعرف كيف يفكرون كيف يعبرون وما القضايا التي تشغلهم ونوع الهموم التي يعرضها عصرهم عليهم. ولنجيب محفوظ روايات أبطالها شباب في عمر أحفاد أحفاده ومع ذلك تعكس وعيا دقيقا بحقائق حياتهم ومشاعرهم وله في التجريب الفني أساليب تظن وأنت تقرؤها أنها لكاتب في العشرينيات من عمره ملم بثقافة عصره حتي الامتلاء. أجزم أنه لو بقي علي قيد الحياة حتي يدرك يوم الخامس والعشرين من يناير لنزل فورا إلي ميدان التحرير يتنقل بين جموعهم يستمع إلي طموحاتهم وأحلامهم ويغذي ثوريتهم بغمزات خفية ذكية حتي إن كانت في شكل نكتة تنعش الفكر أكثر مما تثيره من بوح وبهجة.