جاء خطاب الرئيس السوري، أمس الأول، الذي عرض فيه رؤيته للأزمة التي تعصف ببلاده حالياً، والتي دخلت منعطفاً حاداً - مخيباً للآمال. فقد كنا نعتقد أن الرئيس بشار الأسد يبدو مختلفاً عن بقية الزعماء العرب من أكثر من زاوية: 1- فهو شاب في زمن أصبح فيه معظم الزعماء عند خريف العمر، ولم يعد معظمهم في وضع صحي أو عقلي يسمح لهم حتي باستيعاب ما يجري حولهم من متغيرات. 2- وهو الأكثر تعليماً وثقافة، مقارنة بكثيرين آخرين محدودي الثقافة والتعليم، وبعضهم لم يتعلم القراءة والكتابة إلا علي كبر. 3- ولديه رصيد شعبي، علي الصعيدين المحلي والإقليمي، بسبب مواقفه الداعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وخطاب سياسي رسمي يعكس نَفَساً عروبياً ووحدوياً. غير أن هذه المزايا تبدو الآن كأنها استنفدت رصيدها، ولم يعد لها جدوي في زمن تتطلع فيه الشعوب العربية إلي الحرية وإلي الكرامة، وتعتبرهما المفتاح الحقيقي للنهضة ولمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. لذا أصبح الجميع أكثر اقتناعاً الآن بأن النظام السياسي السوري الراهن لا يختلف في كثير أو قليل عن بقية النظم العربية التي تجمع بين الفساد والاستبداد، والتي أصبحت تشكل عقبة كأداء تعوق قدرة شعوبها علي الانطلاق والتقدم. صحيح أن بشار الأسد لا يُعد مسؤولاً عن هذا النظام الذي شاخ، إلا أن كثيرين داخل وخارج سوريا كانوا يأملون أن يتمكن هو بالذات، ربما بحكم شبابه وتعليمه، من إدخال إصلاحات جوهرية عليه، علي الرغم من أنه هو نفسه يعد إحدي ثماره الفاسدة، التي غرستها بذرة توريث السلطة، التي انتقلت عدواها بسرعة إلي بقية النظم الجمهورية في العالم العربي. لقد بدأ الرئيس بشار عهده بخطاب إصلاحي، غير أن الأيام أثبتت أن قدرته علي القيام بالإصلاحات التي وعد بها كانت محدودة، إما لأن نواياه لم تكن صادقة أصلاً، إما لأن تحالف الاستبداد والفساد في نظامه كان أقوي من إمكاناته وقدراته. وأياً كان الأمر فقد كانت النتيجة واحدة في الحالتين: فقدان الشعب السوري ثقته في قدرة النظام ببنيته الراهنة علي إصلاح نفسه من داخله. وعندما اندلعت الأزمة الراهنة، التي هي امتداد طبيعي لرياح تغيير تهب علي العالم العربي كله، تصورنا أن الرئيس بشار سيتعامل معها بطريقة مختلفة عن رؤساء سقطوا، لأنهم لم يتجاوبوا مع مطالب التغيير إلا ببطء شديد ودائما بعد فوات الأوان، من أمثال زين العابدين بن علي وحسني مبارك، أو رؤساء صمموا علي البقاء في كراسيهم حتي آخر لحظة وقرروا تبني استراتيجية 'أنا ومن بعدي الطوفان'، حتي لو كان الثمن هو فناء أوطانهم، من أمثال 'المهرج' معمر القذافي و'الشاويش' علي عبدالله صالح. ويبدو، للأسف، أن الرئيس بشار الأسد قرر أن يستلهم أسوأ ما في النموذجين: فتجاوبه مع المطالب الإصلاحية جاء بطيئاً ومتأخراً، ودائماً بعد فوات الأوان، ويبدو مصرا في الوقت نفسه علي 'الصمود' والبقاء في السلطة حتي النهاية، حتي لو كان الثمن موت الآلاف من شعبه برصاص الجيش وأجهزة الأمن. فهل يدرك الرئيس بشار الأسد أنه حُشر في زاوية يتعين عليهم عندها أن يختاروا بينه هو وبين الشعب السوري، لكن أظن أن لا أحد سوف يتردد حين يوضع في مثل هذا الاختيار أن يختار الشعب السوري، الذي يجب أن يظل هو صاحب الكلمة العليا والنهائية في تقرير مصيره. ولا أدري ما إذا كان هذا الشعب مازال لديه الاستعداد لمنح رئيسه فرصة جديدة، أتمني ألا تكون قد ضاعت إلي الأبد. وإذا كان الواجب يحتم علينا أن نقف بصلابة خلف الشعب السوري المطالب بحريته وكرامته، فإنني أناشد الرئيس الأسد، من هذا المنطلق وحقنا لدماء هذا الشعب الذي كان ولا يزال يمثل قلب العروبة النابض، لكي يتخذ القرار الصائب الذي يغلب في النهاية مصالح بلاده علي مصالحه الشخصية ومصالح أسرته أو طائفته. فسوريا أكبر وأبقي من أي فرد أو أسرة أو طائفة، وعليه أن يعثر علي مخرج ينقذ به سوريا من الدمار. فإما إصلاحاً حقيقياً يرتب لتداول سلمي للسلطة يحفظ للبلاد وحدتها وتماسكها، وإما رحيلاً فورياً وتفويض السلطة لشخصية يمكن أن تدير مرحلة انتقالية آمنة