جاءت ذكري الهجرة النبوية الشريفة هذا العام، ومعاناة العرب من بين المسلمين تتفاقم وتكبر وتتدحرج وتكبر وهي تتدحرج حتي بلغت درجة غير مسبوقة.. وليس مبالغة القول إن الأرض العربية فتحت فاها لأعدائها ومكنتهم ليس من ابتلاع لسانها العربي فحسب، وإنما لينقلوا إليها فيروسات الطائفية وجراثيم المذهبية، وليزرعوا فيها بذور الشقاق والتعصب والعنف والإرهاب، عبر مشارط ''الديمقراطية، والحرية'' وحقن ''حقوق الإنسان، والدولة المدنية''. لقد صنعوا لكل بلد فخاً يكبر ويتسع أو يضيق حسب الحاجة.. عرسال للبنان، والأنبار للعراق، وسيناء لمصر، والشعانبي لتونس، وفي سوريا عدد من الأفخاخ.. هي تدريب علي بؤرة لا يموت فيها الحدث، وقد يهدد دولة بكاملها كما جري للعراق مثلا حين وظفت منطقة الأنبار في متاهة تدافعت فيها الأمور إلي حد تمدد ''داعش'' وصولا إلي العاصمة، لولا استفاقة عراقية أعادت ترتيب الأماكن، تبعتها استفاقة دولية تحاول أن تجعل من هذا التنظيم قميص عثمان قد تعلق عليه سلسلة أحداث مرتبطة به أو غير مرتبطة. ففي الوقت الذي نجد فيه سوريا غارقة ومغرَقة في مستنقع الدم، ونجد العراق علي جناحها الشرقي مهدداً باستمرار ما كان فيه قبل يومها وبتوالد ما يتوالد فيها من فتنة وبؤس، ونجد لبنان مهدداً بنار الفتنة المذهبية وما يتهدد سوريا منها يتهدده فالبيت واحد لكنه بغرفتين.. في هذا الوقت نجد مصر تُجر نحو المستنقع العفن بقوة جذب شديدة، وتلعب في ملاعبها أقطار عربية وبلدان أجنبية، وفئات ذات أغراض وارتباطات ومآرب شتي.. ونجدها مهددة لا سمح الله بأمر مقارب لذلك الذي يتم في سوريا، مع خلافات واختلافات في التحالفات والأهداف والوسائل والأدوات.. ونلحظ اللاعبين العرب المعنيين في الساحة المصرية علي هيئة مشجعي ''أهلي وزمالك''، فإما مالك وإما هالك؟! وعلي جناح مصر العزيزة، وعند مفرقها الإفريقي لا تزال النار تحرق ليبيا التي تفككت أو كادت، ودم أبنائها ما انفك يسيل.. لن يكون بوسع أحد أن يحاجج في حالة التمزق التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي في وقتنا الراهن، والمحاولات المشبوهة لجر الإسلام إلي فتنة كبري جديدة وجعله أداة أيديولوجية طيعة لخدمة المشاريع الاستعمارية والأطلسية لنخبة المحافظين الجدد، والأزمة الاقتصادية في الغرب، بعد أن كان الإسلام ورجالاته رواد مرحلة التحرر من التبعية للأجنبي والخلاص من الاستعمار. لقد أصبحت الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر غثاء كغثاء السيل، لقد تمزّق شملها وتشتت صفها، وطمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني وأصبحت قصعة مستباحة بعدما كانت تقود العالم، ورسولها الكريم صلي الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين وللناس أجمعين، بدليل قوله تعالي: 'وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون'. والآن نراها قد أصبحت ضعيفة لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع.. اليوم تطرح مشاريع مذهبية من النوع التفتيتي، فلقد نضبت تقريباً سلة التآمر الصهيوني علي الأمة، وبقيت لعبة واحدة يدور رحاها علي العقل الإسلامي: كيف نفتت المسلمين وكيف نجعلهم مجموعات متناحرة وعلي مدي سنوات طويلة، بل كيف نحولهم إلي قطعان تأتمر بأوامر إسرائيل، يحركهم ريموت كونترول صهيوني، يتزعمهم، يصنع لهم الهدف كي يحصد النتيجة.. يقدم لهم حكمته الخاصة كونهم مسلمين من نوع الضحك علي الذقون، يرفع أمام عقول جيلهم الصغير بتجربته وثقافته ما هي الأفكار التي تنشط فيهم توترهم. فالتحالفات الجديدة شبه المعلنة بين بعض الدول العربية وإسرائيل تختفي خلفها الولاياتالمتحدة الأميركية وتباركها وتدعمها، وهي ليست في صالح العرب والمسلمين، ولا تساهم في حل ملفات عالقة منذ سنوات بين دول كثيرة تتشابك مصالحها وقواها في المنطقة أمنيًّا واقتصاديًّا.. وهي ملفات يؤثر حلها إيجابيًّا علي قضايا وعلاقات وملفات كثيرة، وعلي أمن المنطقة ومستقبل شعوبها ودولها، ومن تلك الملفات الملف النووي الإيراني الذي يجمع كثيرون علي أنه سيفتح أفق تعاون جديد بين إيران والغرب، ومن شأنه أن يؤثر علي حل الملف السوري وعلي أوضاع اقتصادية تهم الشعوب والدول. من المعلن أن إسرائيل تعادي هذا التوجه لأنها أصلاً تعادي السلام والقيم وتعيش علي الحروب والأزمات والعدوان والتمييز العنصري، وتقف موقفاً شديد العداوة من سوريا وقضية الشعب الفلسطيني الذي تبيده وتقضي علي حقوقه رويداً رويداً، وتمارس ضده عنصرية يسكت علي ممارستها العالم، بل ويضم إسرائيل إلي مجلس حقوق الإنسان!؟ لم يعد بعد هذا التحالف شبه السري الذي ينخرط فيه عرب وإسرائيليون ومسلمون في الاقتتال ضد عرب ومسلمين، وهو يتعمق تحت مسوغات وتعلات مختلفة لا يسبغها الوجدان العربي، لم يعد بعد هذا التحالف بين تلك الأطراف أن يقال إن إسرائيل عدو للعرب والعرب أعداء لإسرائيل، بل هناك خلط للمواقف والأوراق والتحالفات في المنطقة بدأ الإرهاص به منذ عام 2006 في عدوان إسرائيل علي لبنان. فعرب إسرائيل يعادون عرباً ضدها تحت عناوين مذهبية صارخة لم يعد بالإمكان التغاضي عنها، وفي خلفية بساط الفتنة ذاك صراع علي النفوذ من جهة، وجعل دول المنطقة وشعوبها في نزاع واحتراب لا يلتئم لهم صف.. ومن الداخل بدأت إسرائيل اليوم تعمل أكثر من أي وقت مضي، ضمن تحالف يتصل بملف إيران النووي وبمعاقبة سوريا لأنها لم تقبل سلام السادات كما قال السيئ الذكر شمعون بيرس ولمصالح وأهداف أخري تهم الناتو أيضاً. ورغم وضوح زوايا الحقيقة حول الدور الصهيوني وامتطائه أنظمة وجماعاتٍ وأحزاباً، وتقنعه بأقنعة الكذب والنفاق، فإن هناك من لا يزال مصاباً بالعدوي ويرفض أخذ الأمصال والتخلص من الداء، بل إنه يري في هذه الأدواء العضال سبباً في نيله الخاتمة التي يتوهم أنه سينالها بسلوكه مسالك الإرهاب والعنف التي يزينها له شياطين الإنس علي أنها ''جهاد'' ينقله إلي مصاف الأنبياء والصديقين وجنات الحور العين.. وفق هذا التقدير، فإن هذا النجاح لمعسكر التآمر والتخريب بقيادة القوي الاستعمارية والامبريالية في بعثرة دول المنطقة وتشتيت شعوبها وتقسيمها إلي طوائف ومذاهب متصارعة متواجهة، دفع المنطقة إلي حفلة جنون كاملة يرقص المحتفلون فيها علي أنهار الدماء البريئة المسفوكة عدواناً وظلماً وعلي جثث الأبرياء، ويتاجرون في الموت والقتل، ويطلقون صيحاتهم وتغريداتهم فرحاً وطرباً ''دعهم يتقاتلون، يتناحرون، وما علينا سوي التلذذ بمشاهد الذبح ومسيل الدماء''. فمتي يا تري نرتاح من صبيب الدم وألوان وحشية الجُرم والإثم، ومتي نثوب إلي رشدنا فنري ما صنعت أيدينا في الناس والوطن والعِمران، ومتي نتبصر بما ألحقناه بأنفسنا من عار ودمار كان يطلبهما عدونا فينا فلا يستطيع، وكأن أن نفذنا له ما يحلم به بأداء فريد وعزمٍ من حديد؟! ألا متي نري أنفسنا وأوضاعنا وأوجاعنا علي حقيقتها فنكف عن الفتك والهتك ونفكر بتغيير الأحوال ونبصر ما تحت الجمر من نار إن لم نتدارك شررها فستأتي علي ما تبقي منا جميعاً.. والنذر في سورية وفي العراقولبنان ومصر وتونس وليبيا واليمن، أوضح من أن تُشرح، وأفصح من أن تُعرب.. وما يبذر في الأرض اليوم من بذر الشوم سيتفتح عن وجوه للفتنة يعجز عن لملمتها الوعي والطيب من الإرادات والحسن من النيات، ذلك لأن انفجار العقل بالشر أشد فتكاً بالعباد والبلاد من شرر كالقصر، وحين تدب جنادب الفتنة المذهبية في الأنفس والدروب، يقتل الجارُ جاره والحِبُّ حِبَّه، وتتحجر القلوب، وتنطوي علي ما فيها من حقد يفرخ إرهاباً ورعباً.. ويمكن للمتبصر أن يقرأه أو يراه اليوم في سياسات قصيرة النظر يعبر عنها ساسة أبالسة، بعباراتٍ مثيرة للمشاعر والذواكر وخطيرة، تفضح نفوساً أفعوانية تنطوي علي الجهل بالحكم وأصوله وأسسه ومسؤولياته، وتنم عن الكراهية في تعابير دواهية، وتؤسس لصراعات مذهبية مقيتة بدأت نارها تعس هنا وهناك، وهي إن علا دخانها وثار أوارها لن تبقي ولن تذر، لا ممن ''ينتصر منا ولا ممن ينكسر''؟! ونحن نلمس مثل ذلك ''الإنجاز المعجز؟!'' في الفعل السياسي وخطابه العملياتي الذي يعبر عن نفسه في الاقتتال والملاحقة والتعذيب والاتهام والمحو والاجتثاث، وفي إنكار حق الناس المواطنين في معالجة شؤونهم وشؤون غيرهم من شركائهم في الوطن والقرار والمصير، مع من يتولي التدبير فيتصدي لكل من لا يروق له رأيه وموقفه وقوله وكأنه القدر المقدور والمصير؟! ونلمسه أيضاً في خطاب دعاةٍ ليسوا فقهاء ولا أمناء علي الفقه إن هم فقهوا ولا رعاة للحق والدين ولا دعاة.. يتاجرون بالدين والقيم والبشر وبالجنة والنار وبالشهداء الأبرار، وأخطر ما نلمسه من ذلك في إعلام ذي آفات وأفانين افتراء، يتوالد من أدائه الداء، ويتكاثف بسببه في سماء العقول وطيات القلوب ظلم وقسوة وظلمات. إن الأمور واضحة ولكن من لا يدافع عن حقه يخسر حقه ومن ثم نفسه.. وهذا هو شأننا نحن المسلمون والعرب اليوم مع كثير من حقوقنا ومقومات وجودنا وقوتنا وهويتنا وحضارتنا. وإذا توقفنا اليوم عند محنتنا في القدس ومحنتها معنا.. وجدنا أنها تقضم متراً بعد متر وبيتاً بعد بيت، وقد وصل القضم الصهيوني حد التخطيط لتقسيم المسجد الأقصي ذاته، والتجرؤ علي كل مقدس ومُلك ومواطن وحقيقة تاريخية، وشجرة يقتات منها الفلسطيني في ظل عجز عربي مقيم، وتنافر عربي لا يستقيم لهم معه أمر. ومن أسي أنهم أشداء علي بعضهم ومغلولة إرادتهم ضد أعدائهم لأسباب تعود إلي انعدام الثقة، وإدمان التبعية والاستعداء.. استعداء الأخ علي الأخ، والغريب علي القريب.. والوقائع التي تشير إلي ذلك في تاريخنا أكثر من أن تحصي، وما نعانيه اليوم من ذلك يفوق الوصف. لسنا بلا قوة أو شجاعة أو مكر أو إمكانيات أو.. أو.. ولو دققنا فيما جري في العراق أو فيما يجري في سوريا.. لأذهلتنا الوقائع والمعطيات.. فنحن في حروبنا مع العدو الصهيوني الذي احتل أرضنا وشرد شعبنا ودنس مقدساتنا وشوه صورتنا.. لم نستمر أكثر من ثلاثة أسابيع، وفي حروب الاستنزاف لم يزد الوقت علي ذلك بكثير.. ولم نقدم من الشهداء عشر ما قدمته سوريا في أزمتها الكارثة، هذا عدا عما لحق بالبلد الذي يتعرض للعدوان من دمار، وما يصرف في هذا الشأن من مال.. ولو أن نسبة 5 في المائة من الجهد والمال والشجاعة والصبر والعزم الذي قدِّم في حرب الإخوة بعضهم لبعض قد بذلت في مواجهة عربية صادقة مع الكيان الصهيوني لزلزلت الأرض تحت قدمه وانكمش إلي حدود الاضمحلال، ولو أن نسبة أقل من تلك مما نراه ونتابعه ونفجع به مما يتم في سوريا بين ''أشاوس العرب والمسلمين'' بُذلت في التصدي للعدو الصهيوني لما وصل في وقاحته وعدوانه وظلمه واستيطانه وتهويده واستهتارة بالأمة إلي ما وصل إليه ويستمر في ممارسته منذ عقود من الزمن..؟! ولو أن هناك حكاماً عرباً ينتمون إلي أمتهم بوعي ويدافعون عن دينهم بمعرفة وصدق ويحرصون علي حقوقهم ووجودهم وكرامتهم وأوطانهم لما وصلت أقطار من بلدان الأمة إلي محنة أو مأزق أو حالة من التبعية المزمنة كما هي عليه الحال اليوم، ولما بذل المال وماء الوجه لأعداء الأمة العربية وعلي رأسهم الأميركي لكي يحموا بلداً أو حكماً في بلد ويستنزفوه تماماً؟! ولو أن 1 في المائة من العرب والمسلمين الحاكمين والمالكين صدَق في إيمانه في ضوء فهم صحيح للدين ولما يرتبه الإسلام علي المسلم من نصرة المظلوم، سواء أكان مسلماً أو غير مسلم، ولم يخالف حكم قرآنه حين ينهاه عن أن يتخذ من غير المسلمين أولياء ضد المسلمين لما تهاوت كل القيم والعلاقات والبني الاجتماعية والخلقية ومقومات الحكومات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية إلي درك الفساد والانحطاط والتآمر علي الحق والشعب في بلد ونصرة الظلم والاستبداد والإرهاب والقتل والجهل الأعمي في بلد من البلدان أو مكان من الأمكنة.. ولكن في الأمة العربية الكثير الكثير مما لا يشرف، ومما لا ينم عن الوعي والإيمان والانتماء والتبصر وسعة الأفق.. فحين نري دولة تضحي بدولة ولا تسأل في حربها عن شعب، ولا تقيم وزناً للحياة ولا للمعاناة، وتزدري كل القيم والروابط والعلاقات الأخوية.. وحين نري حاكماً يضحي بمال وشعب وعمران من أجل أن يغلب خصمه أو يقهره، ومن ثم يشمخ بأنفه تيهاً ويصعِّر خده للناس.. ندهش للمستوي الذي بلغه المسؤول العربي في هذا البلد أو ذاك، ونعجب من استمراره في ممارسة هذا النوع من الجنون، ومن أناس يضعون أنفسهم مادة لصراع غبي من هذا النوع، ويخوضون في الفتنة فيقتل بعضهم بعضهم ويتقاتلون حتي الإفناء؟! هكذا يزج عدو الأمتين العربية والإسلامية كل من يستطيع زجه في معترك النار وهو يقول: ''تقاتلوا ومني السلاح والمال ومنكم الدم والأرواح.. تقاتلوا حتي النهاية، حتي لا يبقي لكم لا قومية ولا دين، ولا حامٍ ولا ضعين، وحتي تبقي إسرائيل آمنة ومهيمنة وقوة أعظم، ولكي أنام أنا السيد مرتاحاً مطمئناً إلي ثروتي ونفوذي وسيطرتي عليكم وعلي بلدانكم وعقيدتكم وأموالكم وكل قواكم الحية.. فهذا أمري أنا سيد السادة، ولتكن كل مفاتن بلدانكم علي جيد سيدة بيتي قلادة؟! ولا يستثني أعداء الأمة من ذلك سوي أدواتهم التي يتخذونها واجهة لتنفيذ ما يريدون وللتنظير لما يفعلون، يلمعونها ويضربون من خلفها، ومن أولئك في السياسة والثقافة والفكر فئة متسلقة علي الفكر البَّناء، والسياسة المدركة لذاتها ومسؤولياتها وأبعاد قراراتها وخياراتها، والثقافة التي تحمل هوية أمة وتجسد تاريخها وذاكرتها وشخصيتها وحضورها في صيرورة الزمن وسيرورة التقدم والنهضة.. اليوم، لا يواجه العالم الإسلامي هجمة خارجية عاتية ومهددة فحسب، بل الأنكي من ذلك أنه يشهد صراعات زعامات لن تنتهي في الواقع الراهن إلا إلي المزيد من التفكك والتبعية والارتهان، فهناك من يتطلع إلي وضع الدول العربية ملفاً قائماً بذاته في محاولة مشبوهة ومريعة لإعادة ترتيب الأولويات، وهناك من يغذي طموحاته السياسية الداخلية والمتوسطية الخارجية عبر إطلاق موجة كراهية مقيتة وحاقدة لا تتورع عن إعادة تصنيف المسلمين وفقاً للملل والنحل، للوصول من ذلك إلي حق حصري بتوزيع شهادات الإيمان، يمارس هؤلاء التكفير الديني والمذهبي في الطريق إلي التكفير السياسي ويتحدثون مع ذلك عن تهويد الأقصي وحرمة الدم في الإسلام. وحكمة العرب في كل هذا مغيبة أو غائبة، فأهلها بين حليم يخاف أن ينطق، وحكيم ابتلع سم السياسة ومالها فغص ويسكت، ومسؤول في مرتبة روحية عليا، يختار الاعتكاف في وقت الحاجة إليه، ويري أن يغيب في العزلة أو الاعتزال، أي في ''نسك تصوفي سلبي'' خير منه المواجهة بقوة العقل والقلب والإيمان وصلابة الصوفيين في الأزمات الطاحنات والملمات الكبار.. ومن بين أهل الحكمة وكبار الرجال من يتفرقون شذر مذر، ويقفون علي ضفاف الخلاف، لا يجمعهم جامع فيقويهم ولا يشدهم إلي الإيمان بالله جل وعلا ما يجعلهم حرباً علي الفتنة وأهلها. ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها انتصر الآخرون علينا في كل شيء، ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة 'المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشداً لك وتتبعها فتبلغ غايتك'، لم نتمكن من التحرك إلي الأمام خطوة واحدة، فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا، ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم، فبقينا أسري للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين، ولم تعد لنا أية إسهامات وإضافات علي الحضارة العالمية في إنتاجها العلمي والمعرفي والثقافي والصناعي والغذائي. لقد سقطت بكل الأبعاد والمعاني في مراكزها العالمية وفي بيئاتها ومجتمعاتها الحاضنة لها.. ولكنها ما زالت في بعض المواقع من وطننا العربي والإسلامي قائمة تفتك بمجانية واستعلاء وجهل وغباء، والعجب العجاب أن سدنتها خشب مسندة، وأموات يحسبونهم فيما يشبه السبات، يستندون إلي منسأة كمنسأة سليمان الحكيم الذي شبع موتاً وهو يستند إليها حتي قرضها الدود وتهاوت فهوي..؟! في ذكري الهجرة النبوية الشريفة، تشكو الأمة الإسلامية من جراحات عميقة أليمة، وآفات فتاكة، وفساد كبير، وظلم جسيم، وانفعال اجتماعي، وانحراف خلقي وقوده مال ونفط وخيانة عربية وإسلامية، كل هذا يستدعي منا تضافر الجهود، وبناء النفوس، وصقل الأفكار والتصورات، وجمع الكوادر والطاقات، واجتثاث الخبث من أوساطها، ومن شيم الرجال أنهم يأخذون الدروس والعبر من ماضيهم لحاضرهم، ومن حاضرهم لمستقبلهم.