تعيش الأمة الإسلامية نفحات الذكري العطرة لمولد الرسول صلي الله عليه وسلم، وهي مناسبة تمثل فرصة لهذه الأمة التي تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة علي قصعتها، أن تستذكر نهج صاحب المناسبة كخير نموذج يحتذي به علي مر العصور والأزمان، فقد باتت منساقة وراء الأكلة المتآمرين عليها بعد أن نجحوا في الإيقاع بها في فخ الطائفية والمذهبية، لتشتيتها وتمزيقها وإضعافها، فغدا الدم العربي والإسلامي هو اللون الذي تروي به أرض العرب والمسلمين. جاء عيد المولد النبوي الشريف هذا العام ومعاناة العرب من بين المسلمين تتفاقم وتكبر وتتدحرج وتكبر وهي تتدحرج حتي بلغت درجة غير مسبوقة.. ففي الوقت الذي نجد فيه سوريا غارقة ومغرَقة في مستنقع الدم، ونجد العراق علي جناحها الشرقي مهدداً باستمرار ما كان فيه قبل يومها وبتوالد ما يتوالد فيها من فتنة وبؤس، ونجد لبنان مهدداً بنار الفتنة المذهبية وما يتهدد سوريا منها يتهدده فالبيت واحد لكنه بغرفتين.. في هذا الوقت نجد مصر تُجر نحو المستنقع العفن بقوة جذب شديدة، وتلعب في ملاعبها أقطار عربية وبلدان أجنبية، وفئات ذات أغراض وارتباطات ومآرب شتي.. ونجدها مهددة لا سمح الله بأمر مقارب لذلك الذي يتم في سوريا، مع خلافات واختلافات في التحالفات والأهداف والوسائل والأدوات.. ونلحظ اللاعبين العرب المعنيين في الساحة المصرية علي هيئة مشجعي ''أهلي وزمالك''، فإما مالك وإما هالك؟! وعلي جناح مصر العزيزة، وعند مفرقها الإفريقي لا تزال النار تحرق ليبيا التي تفككت أو كادت، ودم أبنائها ما انفك يسيل.. لن يكون بوسع أحد أن يحاجج في حالة التمزق التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي في وقتنا الراهن، والمحاولات المشبوهة لجر الإسلام الي فتنة كبري جديدة وجعله أداة أيديولوجية طيعة لخدمة المشاريع الاستعمارية والأطلسية لنخبة المحافظين الجدد، والأزمة الاقتصادية في الغرب، بعد أن كان الإسلام ورجالاته رواد مرحلة التحرر من التبعية للأجنبي والخلاص من الاستعمار. لقد أصبحت الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر غثاء كغثاء السيل، لقد تمزّق شملها وتشتت صفها، وطمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني وأصبحت قصعة مستباحة بعدما كانت تقود العالم، ورسولها الكريم صلي الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين وللناس أجمعين، بدليل قوله تعالي: 'وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون'. والآن نراها قد أصبحت ضعيفة لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع.. فتحت شعار الدعوة والنصرة والجهاد تتلطي نزعات سلطوية وتنخفض ميول إقصائية وتزحف شوفينيات حاقدة ظاهرها ''الرابطة الواحدة'' و''وحدة المصير'' وباطنها التضحية بإخوة الدين والإخاء في المعتقد آملاً بالحفاظ علي المكسب، والبحث عن تكييف الأدوار واسترضاء الكبار. وبصرف النظر عن المآل وعمن يدفع الثمن الفادح ويتحمل الخسارات الكبيرة، المنظورة وغير المنظورة، علي مستوي الأمة العربية علي الأقل، من العرب والمسلمين البسطاء، ومن دول عربية وإسلامية مستهدَفة أو منجذبة بعوامل شتي، منها ميول واستعدادات داخلية وعلاقات وصلات، نحو دائرة الاستهداف الخارجي.. لقد قست قلوب في دوائر صنع القرار ومدارج النار عمن يدفع الثمن الفادح من أبناء الشعب الذين يدفعونه: دماً وتخلفاً وجوعاً ومعاناة وتخلفاً وخوفاً وحقداً دفيناً يورث حقداً ودماً وموتاً.. بينما يقطف الغربُ الاستعماري، والحركة الصهيونية العنصرية القذرة، وقوي عالمية أخري تعنيها مصالحها قبل العدالة والحرية والديمقراطية والأناشيد الثورية.. تقطف كل الثمار، المادية والمعنوية والاستراتيجية والسياسية، لهذا الصراع البائس، من دون أن تتحمل أي عناء أو تخشي أية عواقب؟! وهكذا يزج عدو الأمتين العربية والإسلامية كل من يستطيع زجه في معترك النار وهو يقول: ''تقاتلوا ومني السلاح والمال ومنكم الدم والأرواح.. تقاتلوا حتي النهاية، حتي لا يبقي لكم لا قومية ولا دين، ولا حامٍ ولا ضعين، وحتي تبقي إسرائيل آمنة ومهيمنة وقوة أعظم، ولكي أنام أنا السيد مرتاحاً مطمئناً إلي ثروتي ونفوذي وسيطرتي عليكم وعلي بلدانكم وعقيدتكم وأموالكم وكل قواكم الحية.. فهذا أمري أنا سيد السادة، ولتكن كل مفاتن بلدانكم علي جيد سيدة بيتي قلادة؟! ولا يستثني أعداء الأمة من ذلك سوي أدواتهم التي يتخذونها واجهة لتنفيذ ما يريدون وللتنظير لما يفعلون، يلمعونها ويضربون من خلفها، ومن أولئك في السياسة والثقافة والفكر فئة متسلقة علي الفكر البَّناء، والسياسة المدركة لذاتها ومسؤولياتها وأبعاد قراراتها وخياراتها، والثقافة التي تحمل هوية أمة وتجسد تاريخها وذاكرتها وشخصيتها وحضورها في صيرورة الزمن وسيرورة التقدم والنهضة.. مللناهم في فضاء السياسة والثقافة والوعظ والإرشاد والإعلام.. وفيهم كل من يتفيقه في فضائية أو وسيلة إعلامية هنا وهناك باسم الإسلام، يدعو لعلي ضد عمر ولعمر ضد علي.. وما هو منهما في شيء.. وما دعوته إلا دعوة خالصة للموت والمقت لأنها لا تمت إلي الحقيقية والنجاة والعدالة بصلة، وهي أقرب إلي سلوك طريق التكفير، وحرب التدمير، حرب السنة علي الشيعة والشيعة علي السنة.. وكل ذلك مداخل لأعداء الأمة علي الأمة! لقد بات الكثير من ''زعماء'' العالم الإسلامي يتحدثون لغة طائفية مكشوفة وسافرة وفجة، وبات آخرون يخاطبون شعوبهم بلسان الغرائز ويتلاعبون بالهواجس في محاولة لتأليب وتقليب الرأي العام، علي قاعدة تكريس إسلام بسيط وأعزل، بل وساذج، لا شيء يرتجي منه إلا الخضوع لبرمجة عصبية تذكر بأسوأ فصول ومراحل عصر الانحطاط. اليوم، لا يواجه العالم الإسلامي هجمة خارجية عاتية ومهددة فحسب، بل الأنكي من ذلك أنه يشهد صراعات زعامات لن تنتهي في الواقع الراهن إلا إلي المزيد من التفكك والتبعية والارتهان، فهناك من يتطلع إلي وضع الدول العربية ملفاً قائماً بذاته في محاولة مشبوهة ومريعة لإعادة ترتيب الأولويات، وهناك من يغذي طموحاته السياسية الداخلية والمتوسطية الخارجية عبر إطلاق موجة كراهية مقيتة وحاقدة لا تتورع عن إعادة تصنيف المسلمين وفقاً للملل والنحل، للوصول من ذلك إلي حق حصري بتوزيع شهادات الإيمان، يمارس هؤلاء التكفير الديني والمذهبي في الطريق إلي التكفير السياسي ويتحدثون مع ذلك عن تهويد الأقصي وحرمة الدم في الإسلام. وحكمة العرب في كل هذا مغيبة أو غائبة، فأهلها بين حليم يخاف أن ينطق، وحكيم ابتلع سم السياسة ومالها فغص ويسكت، ومسؤول في مرتبة روحية عليا، يختار الاعتكاف في وقت الحاجة إليه، ويري أن يغيب في العزلة أو الاعتزال، أي في ''نسك تصوفي سلبي'' خير منه المواجهة بقوة العقل والقلب والإيمان وصلابة الصوفيين في الأزمات الطاحنات والملمات الكبار.. ومن بين أهل الحكمة وكبار الرجال من يتفرقون شذر مذر، ويقفون علي ضفاف الخلاف، لا يجمعهم جامع فيقويهم ولا يشدهم إلي الإيمان بالله جل وعلا ما يجعلهم حرباً علي الفتنة وأهلها. والحقيقة التي لا يحجبها غربال، أن الأمة ضعفت بهذه الصورة المهينة، يوم غاب عنها أصل الأخوة في الله الذي لا يتحقق بمعناه الحقيقي إلا علي عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها، وتحولت هذه الأخوة إلي واقع عملي ومنهج حياة يوم أن آخي النبي عليه الصلاة والسلام بين الموحّدين في مكة علي الرغم من اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم وأوطانهم، وآخي بين حمزة القرشي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وأبي ذر الغفاري، وراح هؤلاء القوم يهتفون: أبي الإسلام لا أب لي سواه وتقيدوا بقوله تعالي: 'إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون'. هذه هي الأخوة الصادقة التي لا تبني إلا علي أواصر العقيدة، وأواصر الإيمان، وأواصر الحب في الله، تلكم الأواصر التي لا تنفكّ عُراها أبداً، لأن الأخوة في الله نعمة، وفيض فضل يغدقها الله علي المؤمنين، وشراباً طهوراً. ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها انتصر الآخرون علينا في كل شيء، ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة 'المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشداً لك وتتبعها فتبلغ غايتك'، لم نتمكن من التحرك إلي الأمام خطوة واحدة، فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا، ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم، فبقينا أسري للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين، ولم تعد لنا أية إسهامات وإضافات علي الحضارة العالمية في إنتاجها العلمي والمعرفي والثقافي والصناعي والغذائي. إن اتجاه الحضارة تتغير ميزتها وتتجه بوجه خاص طبقاً لعلاقة المبدأ الأخلاقي بالعقيدة والإيمان، وكل مجتمع فقد حضارته يفقد كل أصالة في السلوك والتفكير أمام الآخرين، والإنسان من دون إيمان وحش في قطيع لا يرحم، ومن دخل في ظلمة النفس جعله الله معدوماً، ومن تطلع إلي جبل ذاته جعله الله حجراً جلموداً ودخل في ظلمة وفي ضلالة وغواية. إننا نشكو من جراحات عميقة أليمة، وآفات فتاكة، وفساد كبير، وظلم جسيم، وانفعال اجتماعي، وانحراف خلقي وقوده مال ونفط وخيانة عربية وإسلامية، كل هذا يستدعي منا تضافر الجهود، وبناء النفوس، وصقل الأفكار والتصورات، وجمع الكوادر والطاقات، واجتثاث الخبث من أوساطها، ومن شيم الرجال أنهم يأخذون الدروس والعبر من ماضيهم لحاضرهم، ومن حاضرهم لمستقبلهم.