حينما كنا صغارًا كانت تجمعنا وقت الإفطار فوازير رمضان, نيللي, شيريهان, سمير غانم, وكانت حلاوة الصورة وخفة الظل, وهذه الروح المداعبة الخفيفة التي قدمت بها هذه البرامج تمنح الأسر المصرية حالة من السلام النفسي والبهجة وتخلق الابتسامة علي الوجوه ساعة الإفطار التي ننتظر فيها البرنامج كما ننتظر شربة الماء ووجبة الطعام. هوة كبيرة حدثت ما بين الماضي القريب, واليوم, فكل عام كان ينحدر مستوي ما يقدم في رمضان – للأسف- عن العام الذي يسبقه، وإذا ما نظرنا لشكل ومضمون البرامج اليوم ندرك أننا نحن من نسهم في تشويه أنفسنا, نحن من نهدر قيم الرحمة والإنسانية والنبل فينا, نحن من نقتل أنفسنا حين نتعامل مع العنف والشروع في القتل علي أنه برامج ترفيهية للتسلية والضحك والفكاهة، ولننظر كم برنامجًا يعتبر في عرف القانون 'إرهابًا' و'شروعًا في قتل' أليس 'الإرهاب' هو كل ما يصيب الآخرين بالخوف والرعب، أليس الشروع في القتل هو ما نشاهده يوميًا علي الشاشات حين نكتم أنفاسنا خوفًا من إصابة ضيف البرنامج بالسكتة القلبية أو هبوط في ضغط الدم يؤدي لوفاته نتيجة حالة الرعب التي يتعرض لها الضيف؟!, الغريب والمؤسف أن الضيف حينما يكتشف الحقيقة يرضي مع من بعض الغضب أو البكاء, إلي هذه الدرجة يشتري المال النفوس؟؟!! ولنضرب أمثالا لبعض البرامج 'رامز واكل الجو, هبوط اضطراري, 1.5 ريختر, دوس بنزين، المشاغب' وغيرها من البرامج التي تستحل وتتلذذ بالتعذيب النفسي والبدني لضيوفها, ليشاهد الملايين من المصريين والعرب في كل دول العالم هذا الإسفاف الذي تعيشه مصر في برامجها ما بين دموع وتوسلات وقيء وسباب ولحظات موت تسمم يوميًا وجبة الإفطار, وإذا قررت تغيير القناة لا تجد إلا هذه النوعية البذيئة التي تكتمل ب'سر حليمة' شيء يبعث علي الاستغراب والدهشة, إلي هذه الدرجة وصل الحال في الإعلام المصري؟ إلي هذه الدرجة من السوء صرنا نعيش ونتعايش مع هذه البذاءات يوميًا في شهر كريم؟! ولا أعرف كيف ومتي تتوقف هذه المهزلة؟ ومن المسئول عنها؟ هذا طبعًا غير الإعلانات التي تحتل تقريبًا نسبة 70% من وقت البرامج والمسلسلات, نسبة كبيرة منها توضح حجم هذه الفجوة الواضحة بين طبقات الشعب المصري, فإعلانات الفقر والمرض والجوع والمطالبة بالتبرعات محزنة إلي هذا الحد الموجع لمن يعي كيف وصل بنا الحال في مصر, وإعلانات المنتجعات السياحية والسكنية للصفوة توحي بحجم الفجوة ما بين الغني والفقر وانهيار الطبقة المتوسطة –رمانة ميزان المجتمع- وهو ما يجدد دق جرس إنذار لمن يهمه الأمر, وما بين فقر ومرض وجوع ورفاهية, نقف أمام إعلانات معناها بالغ الخطر, لمن يعي, فهذا الإعلان الذي يتحدث بكل فخر عن مستشفي 500 500 أنه أكبر مستشفي في العالم لعلاج السرطان, وكأنه يعلن عن مشروع قومي عملاق لتصنيع الطائرات أو كأنه إنشاء لأكبر محطة نووية, أكبر مستشفي في العالم لعلاج السرطان يعني يا سادة أن في مصر أكبر عدد مرضي سرطان في العالم, وهي للأسف الحقيقة التي يتحدث عنها إعلان مماثل حينما ذكر إحصائية عن مرضي فيروس 'سي' بأن من كل 12 مواطنًا هناك مريض بفيروس 'سي' وفي مصر, النسبة أكبر بكتير, علي حد ما يقال في الإعلان!! ناهيك عن مسلسلات استعراض الأجساد العارية, والألفاظ الخادشة للحياء, وغياب المسلسلات الدينية في شهر رمضان الذي لطالما اشتهر بها وحققت نجاحًا كبيرًا وأضافت الكثير من المعلومات للكثيرين عن دينهم ورجاله وأحداث التاريخ. الصحة والتعليم والثقافة والإعلام، كلها منظومة متشابكة, الاهتمام بها يبني مجتمعات, وإهمالها يدمر أوطانًا وأجيالاً كاملة, فماذا نحن فاعلون بأنفسنا؟