من أزقة الجيزة القديمة.. استلهم ألحانه، وفي شوارعها المضمخة بعبق الأصالة ردد أغنياته الأولي، كنا نسهر حتي الصباح علي مقاهي شارع المحطة، والصناديلي، نستمع إليه وهو ينشد أغاني سيد درويش، وفي ليالي الصيف، نتحلق حوله بجوار حديقة كوبري عباس، ليغني لنا أغاني عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب.. كان صوته يتألق عندما يغني 'صافيني مرة'.. كان يغنيها بإحساس عجيب لدرجة أن الدموع كانت تنساب من عينيه.. نفس الإحساس كان ينتابه وهو يغني دور 'أنا عشقت' لسيد درويش.. هكذا كان منذ البداية – رياض الهمشري – كتلة من الإحساس والموهبة. كان صديقنا الكاتب الصحفي الراحل مجدي رياض هو أقرب الأصدقاء إلي قلبه. وهو الذي عرَّفنا عليه في شرخ الصبا وكان يدافع عنه ضد من لا يحبون أغاني التراث، ورغم صوت مجدي الأجش كان رياض يسعد عندما يتسلطن مجدي ويردد معه أغاني سيد درويش تحديدًا، ولشدة حماس مجدي لصوت رياض كتب له أغاني ثورية حماسية مستلهمًا أغاني سيد درويش وصلاح جاهين لكنها لم ترَ النور، وفي كل الأحوال كنا متحمسين لهما ولمشروعهما الثوري البكر لأننا طبعًا مؤمنون بموهبة أبناء حتتنا حد الجنون.. وانتبه لموهبته خاله, الفنان صلاح الهمشري، فسارع بتقديمه إلي برامج الهواة في الإذاعة والتليفزيون، فاحتفت به وسائل الإعلام كافة في ذلك الزمن الذي كان تكافؤ الفرص والموهبة هما جواز المرور الوحيد، وسمعه عبد الوهاب، وتنبأ له بمستقبل باهر, كان عمره لايتجاوز عشر سنوات، ورغم صغر سنه تحمس له وكتب عن موهبته الفذة كتاب كبار كرجاء النقاش وزكريا الحجاوي والسعدني والشاعر محمود حسن إسماعيل.. وكبر رياض ودخل معهد الموسيقي، وشارك في حفلات الإذاعة والتليفزيون.. وبدأت تتشكل ملامح إبداعه الفني المغموس بتراب الوطن وتراثه الغنائي والموسيقي الأصيل.. فشارك في أوبرات عالمية ونال أوسمة عديدة من الجيش المصري لمساهمته في إحياء حفلات بالجبهة بين الجنود أثناء حرب الاستنزاف، وازداد نضجًا فأنتج أعمالًا وألحانًا تتميز بالرقة والعذوبة والأصالة، وشكل مع فتحي سلامة فرقة شرقيات التي طافت بلدانًا أوربية عديدة وعندما عاد من جولاته الأوربية بدأ يلحن لنفسه ولأبناء جيله من المطربين الجادين كعلي الحجار، وإيمان البحر درويش، ومحمد الحلو، ومحمد منير.. وقدم أعمالًا كثيرة بصوته القوي الجميل، ولكن 'مافيا' سوق الكاسيت حاصرت إبداعه، ورغم نجاح إلحانه, وتقديمه لأصوات عربية عديدة من تونس والمغرب وسوريا, أجبره حصار المافيا بالقضايا علي الإقامة في بيروت، وهناك استأنف العمل والتلحين والغناء، حتي توقف قلبه عن النبض فجأة قبل أن يكمل عقده الخامس.. وعاد إلي الوطن في صندوق. .. وانتهت رحلته القصيرة، قبل أن يكمل لحنه الجميل.. تذكرت ذلك كله فجأة عندما اكتشفت أن الأربعاء المقبل 7 مايو ستمر 8 سنوات علي رحيلة المباغت.. فهل تتذكرون رياض الهمشري؟