وزير البترول يجري سلسلة لقاءات ثنائية مع نظيره القبرصي وقيادات الشركات العالمية    مسؤول سابق في البنتاجون: المجر موقع مناسب للمحادثات مع موسكو    نتنياهو: التزام إسرائيل بإعادة رفات المحتجزين الإسرائيليين ال16 المتبقين من غزة    الشارقة ينهار بخماسية والاتحاد يكتسح الشرطة في دوري أبطال آسيا للنخبة    سان دييجو المملوك للمصري محمد منصور يصنع التاريخ في الدوري الأمريكي ويتأهل لأبطال كونكاكاف    حفر من داخل المسجد.. تفاصيل إحباط محاولة سرقة مكتب بريد في الإسكندرية    قبل انطلاقه بأيام.. نفاد تذاكر حفل إليسا ووائل كفوري بموسم الرياض    بعد وفاة والدة أمير عيد.. تأجيل حفل كايروكي في التجمع الخامس    الأربعاء.. علي الحجار ونجوم الموسيقى العربية على مسرح النافورة ضمن ليالي الموسيقى العربية    جامعة عين شمس تستقبل المدير الإقليمي لفرع الجامعة السويسرية في إسبانيا    المصري الديمقراطي يرفض استبعاد مرشحين من انتخابات البرلمان ويدعو الهيئة الوطنية لتصحيح قراراتها    حقيقة مفاوضات حسام عبد المجيد مع بيراميدز    منتدى أسوان للسلام منصة إفريقية خالصة تعبّر عن أولويات شعوب القارة    مصرع وإصابة 8 أشخاص فى حادث مرورى بالمنيا    وكيل تعليم الفيوم يشيد بتفعيل "منصة Quero" لدى طلاب الصف الأول الثانوي العام.. صور    هيئة السكة الحديد تعلن مواعيد قطارات المنيا – القاهرة اليوم    رئيس جامعة كفر الشيخ يتفقد معامل ومدرجات الطب البيطري لمتابعة أعمال التطوير    بريطانيا تتراجع 5 مراتب في تصنيف التنافسية الضريبية العالمي بعد زيادة الضرائب    روني: لن أتفاجأ برحيل صلاح عن ليفربول    نقابة الأشراف تعليقا على جدل مولد السيد البدوي: الاحتفال تعبير عن محبة المصريين لآل البيت    غدًا.. أساتذة طب الفيوم يناقشون أمراض الحنجرة والتهابات الأذن    محافظ أسوان يتفقد مركز الأورام ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    نساء 6 أبراج تجلبن السعادة والطاقة الإيجابية لشركائهن    المغرب يستضيف بطولة للكرة النسائية بمشاركة تاريخية لمنتخب أفغانستان    أمينة الفتوى: الزكاة ليست مجرد عبادة مالية بل مقياس لعلاقة الإنسان بربه    هل يشترط وجود النية في الطلاق؟.. أمين الفتوى يوضح    تكريم ستة فائزين بمسابقة المنصور الجامعة للأمن السيبراني    محمد الحمصانى: طرحنا أفكارا لإحياء وتطوير مسار العائلة المقدسة    «القومي للبحوث» يناقش تطوير علم الجينوم بمشاركة خبراء من 13 دولة    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار بين باكستان وأفغانستان    هشام جمال يكشف تفاصيل لأول مرة عن زواجه من ليلى زاهر    مصدر من الأهلي ل في الجول: ننتظر حسم توروب لمقترح تواجد أمير عبد الحميد بالجهاز الفني    "بين ثنايا الحقيقة" على مسرح السامر ضمن ملتقى شباب المخرجين    حزن وبكاء خلال تشييع جثمان مدرب حراس المرمى بنادى الرباط ببورسعيد.. صور    الأمين العام الجديد للشيوخ يجتمع بالعاملين لبحث أليات العمل    قرار وزارى بإعادة تنظيم التقويم التربوى لمرحلة الشهادة الإعدادية    ليست الأولى.. تسلسل زمني ل محاولة اغتيال ترامب (لماذا تتكرر؟)    مركزان ثقافيان وجامعة.. اتفاق مصري - كوري على تعزيز التعاون في التعليم العالي    تشغيل 6 أتوبيسات جديدة غرب الإسكندرية لتيسير حركة المرور    «العمل»: التفتيش على 1730 منشأة بالمحافظات خلال 19 يومًا    مجلس إدارة راية لخدمات مراكز الاتصالات يرفض عرض استحواذ راية القابضة لتدني قيمته    لعظام أقوى.. تعرف على أهم الأطعمة والمشروبات التي تقيك من هشاشة العظام    وزير الصحة يطلق جائزة مصر للتميز الحكومي للقطاع الصحي    «نقابة العاملين»: المجلس القومي للأجور مطالب بمراجعة الحد الأدنى كل 6 أشهر    موانئ البحر الأحمر: تصدير 49 الف طن فوسفات عبر ميناء سفاجا    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الوضع كارثي والاحتلال يعرقل إدخال المساعدات لغزة    اتصالان هاتفيان لوزير الخارجية مع وزيري خارجية فرنسا والدنمارك    الرئيس السيسي يوجه بمواصلة جهود تحسين أحوال الأئمة والخطباء والدعاة    طالب يطعن زميله باله حادة فى أسيوط والمباحث تلقى القبض عليه    تأجيل محاكمة 3 متهمين بالتنظيم الثلاثي المسلح لسماع أقوال شاهد الإثبات الأول    علي هامش مهرجان الجونة .. إلهام شاهين تحتفل بمرور 50 عامًا على مشوار يسرا الفني .. صور    التنظيم والإدارة يعلن عن مسابقة لشغل 330 وظيفة مهندس بوزارة الموارد المائية    أسعار البقوليات اليوم الاثنين 20-10-2025 في أسواق ومحال محافظة قنا    روح الفريق بين الانهيار والانتصار    حبس المتهم بانتحال صفة موظف بخدمة عملاء بنك للنصب على مواطنين بالمنيا    تقارير: اتحاد جدة ينهي تجديد عقد نجم الفريق    د. أمل قنديل تكتب: السلوكيات والوعي الثقافي    سهام فودة تكتب: اللعب بالنار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شحن الروح المعنوية للشعب!
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 03 - 08 - 2014

لو كان لي أن أقدم مقترحًا أري أنه يشكل استجابة لضرورة وطنية في بيئة شعبية يزداد فيها صعود المنحني العام للقلق والتوتر، لاقترحت خطة عاجلة تحت عنوان محدد هو 'شحن الروح المعنوية للشعب'، ذلك أنني أحد الذين يرون أن القوي المضادة للكيان الوطني، وللدولة المصرية وقيادتها، تعمل بدأب واضح، وقوة مضاعفة، وباستخدام كافة المنصات والأسلحة والأدوات، لخفض منسوب الروح المعنوية للشعب المصري، إلي الحدود التي لا تسمح ببقاء مشاعر الرضا العام، أو الحفاظ علي ندي الثورة فوق زهور المستقبل، فقد باتت الصورة العامة في أنظار كثير من قواعد المجتمع مكسوة بالضباب، وكأنها تبحث عن هلال وليد في يوم غائم.
أقول ذلك مؤكدا أن الروح المعنوية للشعوب، شأنها شأن الروح المعنوية للجيوش هي الزيت الذي يولد طاقة الحركة، ويضيء مسافات الروح، ويدفئ مسام الوجدان، وهي المصدر الحقيقي لكل ما يمكن أن تتغذي عليه إرادة الصمود والمقاومة. فالإرادات القوية هي وليدة روح معنوية متأججة، والإرادات المهتزّة هي وليدة روح معنوية منطفئة، ولم يبالغ 'كلاوزفيتز' أستاذ المدرسة البروسية في علم الحرب، عندما وصف القوة المعنوية للجيوش بأنها حد السيف القاطع البتّار، ووصف القوة المادية لها بأنها قبضة السيف الخشبية، بل وصف هذه الروح المعنوية في ميدان المعركة، بأنها المسلّة العالية في قلب الميدان الرئيسي الذي تبدأ منه، وتنتهي إليه كل الشوارع الجانبية، ونحن بصراحة لا نزال نمتلك قبضة قوية للسيف، ولكن حدّه لم يعد يبدو كما كان قاطعا، ونمتلك ميدانا واسعا للمعركة، ولكن المسلّة لم تعد تبدو عالية إلي الحد الذي تغطي جاذبيتها كل الشوارع الجانبية.
ومن المؤكد أن هذه الحالة هي وليدة تفاعل عدد من العوامل ولكنها في مجملها ليست من صنع المصادفة أو الطبيعة، وإنما من صنع أيدينا، ومن صنع عوامل أخري تم تصديرها إلينا:
أولا: لقد أصبحت المتناقضات في الحياة العامة المصرية، متقاربة ومتجاورة إلي حد فريد، وهذا في حد ذاته مبعث قلق وخطر، ويكفي أن تشاهد عبر شاشات التليفزيونات المختلفة، وفي لحظات متداخلة، صورا للفقر المدقع، والجوع العابر للحواس، كما أخرجتها حرفة التسول، ودراما الفواجع واللحم الرخيص. جنبا إلي جنب مع كل صور المنتجعات الفخمة، ووجبات اللحوم التي تنبعث منها روائح الشواء، وأصناف الحلوي التي يقطر منها العسل والشيكولاتة.
ولا يمكن لأحد أن يتخيل أن ملايين المصريين الذين يبيتون علي الطوي، ويخوضون نضالا يوميا للحصول علي لقمة عيش جافة يمكن أن يجدوا في هذه الصور ما يؤمنهم من خوف، ويطعمهم من جوع، ويضيء أمامهم طريقا واضحا للمستقبل، ثم أن هذه الصور في حد ذاتها رغم ما فيها من صنعة وزخرف وضعة، إنما تعكس بدورها واقعا ليس مصطنعا، فشوارع مصر نفسها وأحياؤها باتت أركانها وزواياها تعبر بالقدر نفسه من تقارب المسافات بين المتناقضات إلي حد اقتسام الحضور في صور الحياة اليومية. والحقيقة أن المشكلة ليست فحسب في تلك الهوّة التي ازدادت وتزداد اتساعا بين الفقر المدقع والغني الفاحش في مصر، ولا فيما لحق بشرائح الطبقة المتوسطة من انكسارات وانهيارات، فلم تكن هذه الهوّة في مصر الملكية قبل ثورة 23 يوليو أضيق أو أقل، ولم تكن الطبقة المتوسطة نفسها أكثر من شريحة ضيقة لا تمثل طبقة بالمعني الاجتماعي، ولكن الاحساس بهذه الهوّة أصبح حاضرا بقوة مضاعفة، وبأشكال ضاغطة علي أغلب خلايا المجتمع والرأي العام. وفي المحصلة
النهائية فإننا نعيش حياة يومية تكاثرت فيها التناقضات وتجاورت وتقاربت أكثر من أي وقت مضي، وهو ما يدفعها دفعا إلي أن تتحول من حالة تعايش إلي حالة احتراب، حتي إذا كان هذا الاحتراب ما يزال في طوره المعنوي الخالص.
ثانيا: إن هذا الشعب العظيم أنجز ثورتين غير مسبوقتين في التاريخ الانساني. وبرهن لنفسه وللعالم الكبير من حوله، أنه أكثر صلابة في طلب حقوقه، وقوة في الدفاع عن مصالحه من كل ما تصوره أصدقاؤه قبل خصومه، بل إنه استطاع ببأس عظيم وقدرة أسطورية أن يعصف باستراتيجية كونية. أرادت أن تفرقه زمرا، وأن تكسر إرادته وأن تفرض عليه القعود الأبدي في متحف التاريخ. ومن الطبيعي أن يكون قوس الأمل في صدره بعد ذلك مشدودا حتي اتساعه، وأن يشعر بأن يده هي العليا، وهي الأقرب حد الملامسة من قطف الثمرة، وهي في جوهرها لم تكن رفضا للتوريث بالمعني المجرد، أو للاستبداد بالمعني الليبرالي الخالص، فهذا شعب لم يتوقف في تاريخه أمام شكل السلطة، وإنما مضمونها، وهو شعب قد لا يدرك كثيرون وفي المقدمة منهم حكومته، أن القانون الأعلي الذي يحكم رضاه وسخطه، هدوءه وتمرده، انصياعه وثورته، هو العدل وحده دون سواه، منذ أن حاذي النيل العادل وسار علي خطاه.
والحقيقة أنه لا أحد يتوهم استعادة المرحلة الناصرية بما في ذلك أكثر الناس صدقا في إيمانهم بها، لأن التاريخ لا يستعاد، لكن الشاهد من صور عبد الناصر التي كانت إشارة سحرية خلال هاتين الثورتين، أن الناس كانت تلّح علي استدعاء أوضاع مرحلة لا يمكن وصفها بالليبرالية السياسية، ولكن يمكن وصفها بالعدالة الاجتماعية، أي أن الإلحاح لم يكن علي استحقاق صناديق الانتخاب، وإنما علي استحقاق الاستقلال والمساواة والعدل. وليس بمقدور أحد أن يزعم أن موازين العدل في مصر قد استقامت، بل إن الشروخ في البنية الاقتصادية والاجتماعية، قد ازدادت اتساعا وتحولت إلي فوالق، فقد أصبح الغني أكثر إسفافا مما تسمح به الظروف، وأصبح الفقر أكثر حضورا مما تتحمله الموازين، وليس منطقيا بعد ثورتين عظميين، أن يترجم عائد العمل الوطني نفسه إلي مزيد من غني الأغنياء، ومزيد من فقر الفقراء، مهما كان التعلل، وكانت المبررات.
ثالثا: فيما يتعلق بالحكومة نفسها، فإنها بذاتها تشكل صورة مركبة من التناقضات، فهي حكومة ما بعد ثورة شعبية أطاحت بجماعة إرهابية من فوقه مقاعد السلطة، ولم يكن توجه هذه الجماعة علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي، إلا تعبيرا عن 'حرية السوق'، وفق أكثر أشكال الرأسمالية توحّشا. لكن الواضح أن حكومة ما بعد الثورة أبدت تمسكّا والتزاما بها لا يقل خشونة وجورا عن السلطة التي أطاحت بها الثورة، وإذا كان الرئيس المخلوع قد اكتفي بالتندّر علي الستينيات بقوله الشائع، 'وما أدراك ما الستينيات'، فإن رئيس الحكومة الحالية أبدع في وصف الستينيات بأنها 'الوراء' الذي لا عودة إليه.
ثم إن جانبا من هذا التناقض في حكومة ما بعد الثورة يطول وجوهها قبل توجهها، فنحن بالمجمل أمام نسل جديد من تلاميذ مخلصين لأسوأ الوجوه في حكومة ما قبل 25 يناير. بل إن الوجوه القديمة كانت أوسع رؤية. وأعمق خبرة إضافة إلي آخرين هم بحكم انتماءاتهم الفكرية وروابطهم الاقتصادية والاجتماعية، لا يمثلون سندا للطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا. بقدر ما يمثلون داعما لتلك القلّة المحتكرة علي قمة الهرم الاجتماعي التي اختصت نفسها بكل المغانم سواء قبل الثورة أو بعدها ثم إن جانبا آخر من المفارقة التي يصل منتوجها إلي الناس، أنهم أمام حكومة هي الأكثر حضورا بينهم، بينما هي في الوقت نفسه الأكثر غيابا عن نبضهم وهي الأكثر حركة في الشارع ولكنها الأكثر جمودا عن حركة هذا الشارع، وبين الحضور المادي والغياب السياسي، وبين الجمود الفكري، والحركة العشوائية، ثمة تناقضات تبدو واضحة للعيان، تثير العواصف، وتغذّي المخاوف وتلقي بظلال رمادية علي نوافذ المستقبل.
غير أن الحقيقة المطلقة التي ينبغي أن تظل شاخصة للعيان أن أكثر النتائج عمقا لثورتي 25 يناير و30 يونيو، أنه لم يعد بمقدور سلطة تريد أن تبقي فوق مقاعدها، أن تختار أداء تلك الوظيفة التي غفت عليها الثورة، وعفا عليها الزمن، وهي الحفاظ علي مصالح الأقلية، في مواجهة حقوق الأغلبية، فهذه وظيفة لم تعد قابلة للبقاء، لا علي مستوي المكان، ولا علي مستوي الزمان.
رابعا: تبقي أكثر الضغوط شدة علي القواعد الشعبية وأكثر العوامل تأثيرا مباشرا عليها، وهو ما يحدث من عبث منظم في رغيف المصريين الذي أسموه بعبقرية ناطقة 'العيش' وما يحدث في منظومة دعم مفردات الزيت والسكر والشاي والأرز. وأولئك الذين يبدون تضررهم من أن المصريين هم أكثر شعوب الدنيا استيرادا واستهلاكا للقمح، ربما لا يعرفون أنهم يصنفون في مرتبة متدنية من شعوب الدنيا استهلاكا للحوم، ذلك أنهم يتقوّتون بهذا العيش ويسدون أنين بطونهم وهو في الوقت نفسه مصدرهم الرئيسي للحصول علي طاقة الحركة والبقاء علي قيد الحياة، خاصة بعد أن باعد وحش السوق بينهم وبين الخضراوات وأقام قطيعة بينهم وبين أغلب ثمار الفواكه.
وليس ثمة عاقل حتي لو كان فظًا غليظ القلب، يمكن أن ينثر في صفوف المصريين كل هذا القدر من التوتر والغضب والاحتقان ليوفر موازنة هذه الحكومة جزءا من 1% من الناتج القومي الاجمالي، ويحول أرغفة الخبز وأحفان السكر والزيت والأرز إلي ماكينة لشحن قواعد المجتمع بمزيد من الغضب واليأس والانكسار المعنوي، والحقيقة أنني لم وزيرا للتموين يحترف وضع الناس في خصومة مع الدولة بهذا القدر المدهش من النجاح، بينما يضع نفسه في توافق مع غرف التجارة التي يتنفس هواءها الراكد.
والحقيقة التي ينبغي أن تدرك بوضوح ودون مواربة، من خلال ما يتخلق في الشارع، أن الناس لا تعرف هذه الحكومة ولا تعرف وزير التموين ولا سواه من السادة الوزراء. ولكنها تعرف الرئيس عبد الفتاح السيسي وقد اطمأنت إليه، ووثقت فيه، ومن المؤكد أن النواة الصلبة لهذه الثقة لا تزال قوية ومتماسكة ولكنها تتعرض لمحاولات يومية مستميتة لكسرها، بنظرية بسيطة هي نظرية 'كسارة البندق'، فقرارات الحكومة التي غذّت وحش السوق تضغط من أعلي، وما تنتجه آلة القوي المضادة من حشد وتحريض وأكاذيب تضغط من أسفل، وهذا وضع ليس من الحكمة ترك تفاعلاته الذاتية لحالها.
خامسا: إذا كانت الحكومة والسوق قد تشاركا في منح استراتيجية تخفيض الروح المعنوية للشعب إمكانية أكبر للتأثير، فإن نشاط النخبة السياسية التي تطفو علي سطح المجتمع، كان شريكا متضامنا مهما. فقد بدا واضحا للقواعد الشعبية أن هذه النخبة تزداد انفصالا عنها، وتزداد اندماجا حد التشرنق في مصالحها الذاتية وطموحاتها الشخصة وهي تمارس مع نفسها نشاطا أقرب إلي نوع من التوالد اللا جنسي، وهو نوع من التوالد المعزول عن البيئة، يؤثر في نفسه ولا يؤثر فيها، ومهما كان ما يقطر من شعارات وعناوين مرفوعة فوق الاجتماعات والتحالفات والتفككات من مفردات مثل 'الأمة'، 'الدستور'، 'الشعب'، 'الاشتراكية، 'الناصرية'، وغيرها، فلن تجد في الأغلب الأعم إلا مفردات خاوية كفؤاد أم موسي، فالأمة هي ذلك النفر من الأشخاص الذين يريدون أن يكونوا في أنفسهم أمة، والشعب هو أشخاص يرون في أنفسهم شعبا بلا شعب، أما الدستور فأقرب الظن أن المقصود به هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وعلي نفس المنوال فسوف تجد ليبراليين بغير ليبرالية، وناصريين بغير ناصرية، واشتراكيين بغير اشتراكية، واسلاميين بغير اسلام، وسوف تجد في ذلك المستوي المعزول من التحالفات والتفككات ما يردك إلي أصل الداء، وهو الطموح الذاتي القاهر، إذ كيف يتآلف تيار يطلق علي نفسه صفة الثوري مع تيار هو في ذاته تيار الثورة المضادة، وكيف ينام جمع من الناصريين مع خصومهم في مخدع واحد، وكيف يركب بعض الاشتراكيين وأعداؤهم علي مقعد واحد في دراجة واحدة.
غير أن ما يثقل القلب في ذلك أن يصل مدي الايمان بالسلطة والكفر بالشعب أولا عند بعض هؤلاء جميعا إلي الانخراط في خلوات غير شرعية مع ممثلين لجماعة الإخوان لاتمام صفقات ليس فيها من الوطنية أو الكرامة أو الشرف ذرة واحدة، فهي صفقات شيطانية، لا تختلف عن أسطورة 'فاوست' الذي باع روحه للشيطان مقابل المال والسلطة. وأن يصل مدي الايمان بالسلطة والكفر بالتاريخ ثانيا حد أن يتحول ضريح عبد الناصر إلي ساحة لانتاج كراهية شاذة ضد القوات المسلحة المصرية، وكأن الجيش المصري العظيم، لم يكن صانعا ومشاركا في كل الثورات الوطنية في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي قلبها ثورة يوليو، وكأن عبد الناصر نفسه لم يكن منتوجا عبقريا لمدرسة العسكرية المصرية.
سادسا: يضاف اللي تفاعلات مسألة الروح المعنوية للشعب تلك الاشعاعات الساخنة التي تأتي من وراء الحدود شرقا وغربا وتفتح العيون والقلوب علي برك من الدم. وتلال من الخراب والدمار، وسهام مسمومة من التهديدات. إن المؤكد أن الشعب المصري لم يبد تعاطفا مع حركة حماس فمشاهد اقتحام السجون، وتدمير أقسام الشرطة وقتل المتظاهرين لا تزال ندية في ذاكرته. ولكن من المؤكد أيضا أن هذا الشعب المحارب والذي بذل جانبا كبيرا من دمه علي أرض فلسطين، لم يغادر قلب القضية الفلسطينية، كما أنها لم تغادر قلبه. ولذلك فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن صور برك الدم الفلسطيني في غزة لم تتبدد في فضاء الصمت أو السكون، ولكنها تمددت في عروقه واختزنت نفسها تحت جلده. وأضافت إلي اجهاده وتوتره مزيدا من الاجهاد والتوتر. فضلا عما أحدثته تلك الأصوات الجهولة التي أخذت توزع جراثيمها المُمرضة في الفضاء، وهي تسوق تارة عبارات الاعجاب بقادة اسرائيل وهم يسحقون عظام الشعب الفلسطيني بآلة الحرب الاسرائيلية. وتطالب تارة بأن تخرج مصر من ذاتها فتطرد الفلسطينيين وتضع مؤيدي القضية الفلسطينية في سجن الخيانة الوطنية، ولا تثريب علي هؤلاء الذين تصوروا بضيق أفق بالغ أن مجدهم هو جزء من مجد آلة الحرب الإسرائيلية وسادتها في واشنطن وتل أبيب.
لكن الحقيقة أن الإعلام المصري مسئول عن بعض تلك الظواهر غير الحميدة التي أحاطت بالموقف المصري من قضية العدوان الاسرائيلي علي غزة. والتي مسخت جوهره، وشوهت صورته. لقد قدمت مصر مبادرة منذ الوهلة الأولي، مبنية علي تقدير موقف عميق، واستشراف صحيح للنوايا والتفاعلات والنتائج، لكن الإعلام تعامل معها دون استبصار علي أنها من قبيل سدّ الذرائع، بينما حولها الآخرون إلي كرة يلعبون بها في الفضاء ويحاولون أن يحرزوا بها أهدافا في الملعب المصري. لم يقل أحد في هذا الإعلام أن تقدير الموقف المصري كان يري أن إسرائيل تري عوامل ناصعة في البيئة الاقليمية والدولية تمنحها فرصة غير مسبوقة لتكسير عظام غزة دفعة واحدة، ولم يقل أحد إن هجوما إسرائيليا واسعا علي غزة سوف يخلق أمواجا عالية تشبه التسونامي، يمكنها أن تغمر شواطئ عربية أصبح منسوبها مختلفا، ولم يقل أحد إن الجانب الأكبر من التسونامي الاسرائيلي كان مخططا أن تصل أمواجه بشكل أو آخر إلي مصر، وإذا لم تصل بنفسها فسوف تصل ضغوطها العاصفة، ولم يقل أحد إن العقيدة الخاصة بطرفي الصدام رغم تناقضها تفكر بمنطق المباراة الصفرية مما يعني حربا مفتوحة لا يعرف أحد متي ولا أين يمكن أن تضع أوزارها؟ ولم يقل أحد إن توسيع بركة الدم الفلسطيني كان يسعي إلي تحويلها إلي بورصة الدم الفلسطيني، فكلما اتسعت زادت أثمان من يملكون الأسهخم علي جنباتها ومن حولها في بعض دول الاقليم، ولم يقل أحد إن المبادرة المصرية كانت لذلك كله محاولة مدروسة لوضع عمود من الصلب في عجلة آلة الحرب الاسرائيلية لمنعها أساسا عن الدوران. لكن جانبا من سوء الفهم، وسوء العرض، لم يطل المبادرة وحدها، ولم يكن من نصيب الاعلام المتهافت وحده. وإنما كان من نصيب الجموع التي أعطت آذانها له.
شحن الروح المعنوية ليس مهمة عادية، رغم أنها ضرورة عاجلة، فالأمر لا يتطلب قرارا، أو إعلانا، أو وعدا، وإنما يتطلب خطة مدروسة أبعادها الاقتصاد والمجتمع والإعلام والثقافة مما يدخل في صلب حياة الناس اليومية، وما يضيء جانبا من مستقبلهم. وأي تهاون أو تأخر في ذلك. ليس لصالح الثورة، وإنما لصالح خصومها، وليس لصالح الشعب وإنما لصالح أعدائه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.