مر المجتمع طيلة الثلاثين عامًا الماضية بكثير من التغيرات التي أثرت وانعكست علي سمات الشخصية المصرية، وشيئا فشيئًا انتشر العديد من الأمراض والعلل الاجتماعية التي أصابت جسد المجتمع في مقتل، الجرائم الغريبة علي روح المصريين والتي بدأت تتغلل بين فينة وأخري في ثنايا المجتمع، لم تكن وليدة أيام أو شهور ولكنها وليدة سنوات طوال، أفسد فيها المفسدون ما استطاعوا طمعًا في مكسب هنا ومصلحة هناك. سياسة 'ياعم مشي حالك' التي أصبحت شعارًا للفلهوة والشطارة و'خطف القرش من فم السبع' كما يقولون في الأمثال العامية، هي سياسة عقيمة أَمَّن عليها بعض من كبار المسئولين وتبعهم زمرة من صغار الموظفين، فكانت النتيجة الحتمية انعدام الضمير وانتشار الفساد إلي حد وصوله 'للركب' علي حد تعبير زكريا عزمي، أحد رموز نظام مبارك، ويبدو أنها كانت جرس إنذار لما هو قادم، ولكن لم يهتم أحد حتي وقعت الواقعة وثار الشعب في 25 يناير. الفساد مثلما كانت له أسباب ومقدمات، فإنه بالطبع ترتبت عليه نتائج، ولعل أبرز تلك النتائج كان الانفلات الأخلاقي الذي بدأ يتسلل إلي جسد المجتمع حتي بات، وكأنه مرض مزمن سيحتاج الكثير من العلاجات حتي يبرأ منه الجسد المعتل، لم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن ما زاد الأمر سوءًا وضاعف الأزمة ما مر به الوطن من تراجع لهيبة الدولة في تنفيذ القوانين والعقوبات الرادعة خلال السنوات الثلاث التي أعقبت ثورة يناير. الآن وبعد أن أصبح لدينا رئيس منتخب، لابد أن يتغير الوضع، وبالتأكيد سيتغير، بعد أن ألمح الرئيس في أكثر من موضع في خطاباته إلي ضرورة عودة المنظومة الأخلاقية وبناء الشخصية المصرية، ولعل حديثه إلي ضحية التحرش في ميدان التحرير أثناء زيارته لها، وتأكيده أنه سيأخذ بحقها، وأنه لن يسمح لأحد بأن ينظر للمرأة المصرية بعد اليوم بنظرة سوء أو مهانة، هي رسالة بالغة الأثر في نفوس المصريين جميعا، الذين افتقدوا الأمان علي أنفسهم وأبنائهم وممتلكاتهم لثلاث سنوات مضت. غياب الضمير وغياب الرادع الأخلاقي كان عنوانًا لحوادث مفجعة هزت مشاعر المجتمع المصري بأسره، فالمصري الشهم 'الجدع، ابن البلد' تواري أمام طوفان التردي الأخلاقي، من منا كان يتخيل أن تحدث مثل هذه الجرائم علي مرأي ومسمع من البعض؟!، هل مات الإحساس؟!، هل تحول الشباب إلي كلاب شوارع ينشهون جسد الضعيف دون شفقة أو رحمة؟!، هل تخيلوا أن هذه السيدة التي روعوها هي وابنتها، وفعلوا بها وبغيرها من الفتيات ما فعلوا، يمكن أن تكون أختا أو أما أو ابنة لأحدهم؟!. أين مروءة المصري الذي كان يتشاجر ويلقي بنفسه للتهلكة حينما كان يري شابا منفلتا يطارد فتاة بمجرد كلمات خارجة أثناء سيرها في الشارع؟!، وأين شهامة الرجل الذي كان يهب لمساعدة فتاة أو سيدة ويفسح لها الطريق لتستقل وسائل المواصلات ويجلسها بدلا منه؟!، لا نقول إن هذه الصور اختفت تمامًا، ولكننا نقول إنها توارت بفعل كثير من العوامل. نحتاج عودة 'المصري' كما كان بعيدًا عن أمراضه الاجتماعية، وعلينا أن نعيد بناء الشخصية من جديد، وأن نصلح ما أفسده الدهر، وذلك لن يتأتي إلا من خلال تنفيذ القوانين الرادعة وتغليظ العقوبات بشكل عاجل، ثم العمل علي المدي الطويل لإعادة الشخصية المصرية لمنظومة قيمها، وتفعيل دور وسائل التنشئة في بث القيم الأخلاقية والدينية في نفوس الأجيال القادمة. الرسائل المتعددة التي يحاول الرئيس إرسالها للمصريين، هي في مغزاها تحمل بين طياتها نهجا جديدًا في التعامل، وفي اعتماد سبل مختلفة لتجاوز كل ما اعتري المجتمع من عورات علي جميع المستويات، وهو أمر يتطلب من الجميع العمل بكل جهد لتحقيقه، حتي يمكن للمجتمع أن يستعيد روحه التي سرقت منه عمدًا، ورونقه الذي أنطفأ بفعل فاعل. 'المصري' سيعود ما دامت هناك إرادة حقيقية من مسئوليه، وما دامت هناك رغبة صادقة في التغيير من مواطنيه.. المهم فقط أن تلتقي الإرادات، وقتها ستنقشع الغمامة التي طالما لَبَّدَت سماءنا.