في عامود سابق في هذا المكان تحدثنا عن الفن الهابط عامة وعن أفلام السبكي خاصة باعتبارها السينما الجماهيرية السائدة كما يجب أن تكون أي كمادة خالصة لتحريك الغرائز والانفعالات ولا علاقة لها بالفكر ثم في عامود تالي تحدثنا عن النفخ في الزبادي حين استخدمت السينما كوسيط لتوصيل أفكار مدمرة جدا للمجتمعات. نعم قد لا يبدو الأمران متعارضان لكن "حلاوة روح" من السبكي عن العلاقة بين سيدة ناضجة وطفل صغير جعل قرارات المسئولين دقيقة وصعبة خاصة في زمن الانتقال الضبابي المضطرب الذي نمر به. كثيرون يرون ازدواجية في الشخصية المصرية أن تعيش الحرية وتتشدق بالمحافظة لكن المشكلة أعقد لأنها تنازع أزلي أبدي بين قطبين الانجذاب الكامل لأيهما يعني صعقة النهاية بصياغة مغامرة بعض الشيء يمكن وصف "مصر الفرعونية" بمجتمع محافظ جوهره الحرية. الحرية بمعناها الشامل وليس الاقتصادي فقط أمر قاعدي جدا لدينا تراها علي مقاهي المدن وموالدها وأفراح أحيائها الشعبية ثم تذهب للريف فتري فطرية الفتيات أو أغانيهن الجنسية الصارخة. لكن هنا يوجد خط أحمر رفيع اسمه استدامة الحضارة. الحرية لو تجاوزت حدا معينا فستقوض ما يسمي بالقوي التقليدية أي علاقات الانتاج نفسها. الغرب ليسوا مجتمعات منحلة بل محافظة متمسكة بالإيمان كأمريكا أو حتي علمانية كأوروبا فإنها تعلم جيدا ان الأسرة كبيرة أو صغيرة هي اللبنات التي يقوم عليها مجتمع الحضارة وينتهي بالقضاء عليها. والملفت ان موقف المجلس القومي للمرأة صاحب السجل الحداثي والتحرري كان العامل الحاسم وراء قرار منع الفيلم ويجعل الأمر نقيضا لما جري لفيلم "المذنبون" مثلا. لعل أفضل توصيف لزمن الانتقال الحالي هو إبراء الجسد المصري من مرض الأسلمة الذي بدأ بداعية تليفزيوني اضطر السادات لاستخدامه لمحاربة الخراب الشيوعي والعروبي وتهاون مبارك في اجتثاثه حتي وصل إلي ما حدث في 25 يناير نجح فيه الإسلاميون حتي في توظيف خصومهم اليساريين كأكياس رمل لهم. نحن نمر بأعراض الانسحاب من ذلك المرض ولا شيء ملح اليوم قدر الحاجة للفصل بين المحافظة المصرية الأصيلة وبين المحافظة الشرقية المزعومة الوافدة من مجتمعات القهر الآسيوي. هذا كلام لا علاقة له بنشوة المشايخ بالمنع انما ينطلق من الهوية المصرية الخالصة. هوية الضمير الخالدة في جيناتنا وكل ما وفد عليها عبر التاريخ و30 يونيو و3 يوليو ما إلا هبة شعب وجيش لاستعادة الهوية الأصلية لأرض خوفو وأحمس. رئيس الوزراء الذي منع الفيلم هو نفسه صاحب أجرأ تصريح عندما قال ان المصريين أطاحوا بعصابة الإخوان ليس للجوع أو لفسادها وتجريفها المتعمد للاقتصاد. انما لمحاولتها تغيير الهوية المصرية. فالهوية أمر جيني جدا من قوي الطبيعة المادية جدا العنفوانية جدا. هذا مع كل التقدير لهيفاء وهبي باعتبارها إحدي قوي الطبيعة العاتية. صحيح ان عرض أو منع فيلم لن يقدم أو يؤخر كثيرا. لكن ما قد يصبح مسألة حياة أو موت هو ضعف رؤية الخط الفاصل بين الحرية المطلقة والحرية القصوي التي هي الحرية المطلقة مطروحا منها حرية أعداء الحرية أي اليساريين والإسلاميين. الدفاع المطلق عن التصريح سيؤدي لتكرار جريمة يناير والدفاع عن المنع بلا حيثيات علمانية واضحة معناه انه لا تزال قوي الظلام تبتزنا أخلاقيا. ربما لا حل لهذه المعضلة إلا بملاحقة الأشخاص وترك الأفلام لصعوبة ملاحقتها أي ذات ما يجري مع نشطاء الانترنت. من هنا سيعود الشأنان الثقافي والإعلامي برمتهما لوزارة الداخلية كما كانا في الأصل. فالمؤسسة الأمنية هي الوحيدة القادرة علي تجفيف منابع الشر.. ساعتها فقط سنعرف هل "حلاوة روح" يستحق المنع فعلا أم نعامله كمجرد قطعة فنية بريئة تثير الغرائز؟