يبدو أنه لا مجال للموضوعية في معالجة همومنا ولا في إدارة خلافاتنا، وأقرب رد فعل عند كل أزمة غالباً ما يكون النفي والإنكار، ثم استدعاء نظرية المؤامرة! وهكذا تذوب سريعاً الحدوتة الأصلية في هوامش وتفاصيل وقصص منسوبة للخلافات الشخصية، والحقد والغيرة "المهنية"، ذلك في الأحوال العادية، وفي حالات الهلوسة؛ منسوبة لمؤامرات كونية وحروب أشباح يخوضها مجهولون لعرقلة المسيرة! البيوت المصرية (مثلاً) خاصة تلك التي لديها أبناء مراهقين، انشغلت الأسبوعين الماضيين بفيلم "حلاوة روح" للسيدة هيفاء وهبي التي استوحت (على طريقة جغرافيتها الخاصة) أداء صوفيا لورين و مونيكا بيلوتشي، و انزعج الناس من المشاهد والألفاظ التي عرضتها شاشات التلفزيون خاصة وأن العمل يتناول في جانب منه علاقة أو حالة جنسية بين بطلة الفيلم و طفل! سجال كبير ومتشعب، واحتجاجات اندلعت في الصحف والشاشات وشبكات التواصل الاجتماعي لوقف الفيلم، بينما على الجانب الآخر يحقق الفيلم إيرادات كبيرة تجاوزت المليون جنيه يومياً، (في مصر فقط) وهو مايعني أن 40 ألف شخص كانوا يدخلون السينما كل يوم لمشاهدة هذا الفيلم (إذا كان متوسط سعر التذكرة 25 جنيه)! مساء الأربعاء، فاجأ رئيس الوزراء إبراهيم محلب الجميع خلال اجتماعه بالعاملين في غرفة صناعة السينما (!) بقرار وقف الفيلم وإعادة عرضه على مايسمى ب "الرقابة" لإعادة تقييمه وبيان ما إذا كان يصلح للعرض العام. وبدلاً من أن يتحول القرار الذي يمثل سابقة شديدة الندرة لوقف عرض فيلم بعد إجازته من تلك ال "رقابة" لفرصة لنقاش جاد ومسئول (مع أو ضد)، انقسم الناس إلى فسطاطين (على رأي الشيخ اياه) واحد يؤيد ويدعم ويعضد بالمطلق رافعاً شعار "بلا حرية بلا قلة أدب" كما أطلق هذا الفريق هاشتاج حقق أرقاماً قياسياً على شبكات الميديا الاجتماعية يقول: #شكراً_محلب! والآخر يشجب ويدين ويحذر من الهجمة السلطوية على الحريات، لدرجة اعتبار قرار رئيس الوزراء عاراً لن يمحوه التاريخ! وهؤلاء لم يفتهم تذكير "محلب" بوظيفته الأصلية "بتاع الدبش والظلط، ايه علاقته بالسينما والفن"؟! ولم يتسائل هؤلاء عن علاقة "السبكي" مثلاً بالسينما؟ السيد السبكي تقمص شخصية محمود المليجي ووصف من يهاجمون "حلاوة روح" بأنهم "ناس ماعندهمش ضمير"! كما أبدت السيدة هيفاء دهشتها وعبرت عن صدمتها في قرار وقف عرض الفيلم، متسائلة: "ليه؟ ليه؟"! وبطبيعة الحال اتهموا أعداء النجاح و أعداء الفن الجميل والطرف الثالث بتدبير مؤامرة حصار الفنون والقضاء على صناعة السينما. كَتيبةٌ من "الشماشرجية" تحركت على موجة أخرى متهمين القرار باللا مسؤول وبأنه سيتسبب في خراب كثير من البيوت وتشريد العاملين في السينما، خاصة والأحوال على ذلك الكساد العام الذي تشهده مصر. ارحمونا! فليس باقياً إلا أن تصنعوا "مقاماً" لرجل البر والتقوى محمد السبكي! أو تنعتوه بأنه وهيفاء وهبي شهيدين من شهداء الحرية! فهل هذه هي كل المشكلة؟ عرض أو وقف عرض فيلم لم يجرؤ أحد على الدفاع عنه؟ ماذا عن وظيفة السينما؟ هل من دور لها في صناعة وصياغة وجدان المجتمعات؟ هل من قضايا أخرى غير (أو بالإضافة إلى) تلك التي تَعْلَق وتتعلق بجسد المرأة، حتى ولو على سبيل سينما من أجل؛ التسلية أليس لديكم شيئ آخر تقدمونه؟ هل من فرصة لسينما ترتقي بالذوق وتدعم التقدم؟! هل بمقدور هؤلاء المنتجين والقائمين الآن على صناعة السينما في مصر تقديم منتجاً فنيا يدرك اهتمامات وقضايا مصر، مثل قيمة العلم، دفع المجتمع للأمام، قيادة أفريقيا وحشد العالم العربي حول قضاياه الحقيقية بدلا من انهاكه في تلك التفاهات؟ ثم، من أنتم؟! السينما والفنون بوجه عام يجب أن تخضع لإعادة بناء، حتى وإن تطلب الأمر اعتماد سياسة "الهدم من أجل البناء"، وإن لم يقم الفنانون والكُتَّاب والمؤلفون والمنتجون وغيرهم بتلك المهمة، فإن الدولة يتحتم عليها أن تقوم بذلك بنفسها، فالأمر لا يتعلق بحوانيت تبيع سلعاً جيدة أو رديئة لمن يشتري وبحسب ذوق الزبون! إنما نحن ازاء قضية تتعلق بالهوية وبالوجدان المجتمعي، وبذوق شعب عرف ألواناً من الفنون الراقية فأسهم بجد في بناء الحضارة الإنسانية.