الاحتفال بالذكري الخمسين لتحويل مجري نهر النيل في 15 مايو 1964، وبدء مشروع مصر الأعظم في القرن العشرين، أو السد العالي، أعاد للأذهان من جديد أجواء فترة من أزهي فترات التاريخ المصري الحديث.. فالسد العالي لم يكن فقط مجرد مشروع، أو بناء لتخزين المياه وتوليد الكهرباء، بل هو عنوان كبير لنضال مصر في عنفوانها.. مصر تحرر الإرادة.. والاستقلال الوطني.. والعزة والكرامة.. والعدالة الاجتماعية.. والبناء والتنمية.. والنهضة الاقتصادية والصناعية. مصر السد العالي.. هي مصر الانتصار السياسي في تأميم قناة السويس عام 1956، والحضور القوي عربيًا وإفريقيًا ودوليًا. مصر السد العالي.. هي مصر 'مجمع الحديد والصلب' في حلوان، و'مجمع الألومنيوم' في نجع حمادي، و'المراجل البخارية'، والصناعات الكيماوية والغذائية والغزل والنسيج. مصر السد العالي.. هي مصر الحديثة الناهضة، صاحبة الصروح الصناعية العظيمة، التي لم يكن يمر عليها أسبوع دون أن تشهد افتتاح مصنع جديد. مصر السد العالي.. هي التي أعادت بناء الجيش بعد النكسة، وخاضت حرب الاستنزاف، وعبرت قناة السويس وقهرت أكبر مانع مائي في التاريخ وحررت الأرض في إنجاز عسكري، مازال يدرًّس في الأكاديميات العسكرية. مصر السد العالي.. هي مجانية التعليم التي شغل أبناؤها الفقراء ممن تعلموا بالمجان أرفع المواقع في مراكز الأبحاث الأمريكيةوالغربية، بعد أن لفظهم وطنهم في السبعينيات والثمانينيات. مصر السد العالي هي مصر التي كانت.. وخرج ملايين المصريين لتعود من جديد. في 30 يونية، كنت في المسيرة التي توجهت من شارع عبد الخالق ثروت إلي ميدان التحرير عبر شارع طلعت حرب. مئات المتظاهرين تحركوا من أمام نقابتي المحامين والصحفيين ونادي القضاة، غلب علي المسيرة في البداية الصحفيون والمحامون.. لكنها كلما تحركت خطوة انضم لها مؤيدون. كنت أتجول بين المجموعات المتظاهرة أرصد نوعيات المشاركين وهتافاتهم، وأتفحص الوجوه.. دقائق وتحول الشارع إلي صورة مصغرة من مصر، مسلمين ومسيحيين علامات السجود، واللحي، والمصاحف والصلبان تكشف أحيانًا عن الديانة محجبات وسافرات، شبابًا ورجالا، شيوخًا وأطفالا، صنايعية وأفندية.. أيادي متشققة، يبدو عليها تعب السنين، وأخري ناعمة. تباينت الهتافات.. فقد انقسم المتظاهرون إلي مجموعات، البعض يهتف 'يسقط حكم المرشد' و'الشعب يريد إسقاط الإخوان'، والبعض يردد هتافات معادية لأمريكا، وآخرون يطالبون بحقوق العمال، وهكذا. وفجأة توقفت المسيرة أمام صورة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر المعلقة علي نافذة الحزب 'العربي الناصري'، الكل راح يصفق بحماس، ويهتف باسم الزعيم: 'ناصر.. ناصر.. ناصر'. ارتفعت الأصوات شيئًا فشيئًا، اسم الزعيم وصوره ألهبت حماس المتظاهرين، اشتعل الشارع بالهتاف.. توحدت الأصوات والحناجر، المتظاهرون.. السكان.. أصحاب المحلات.. دقائق أو ربما ثوان.. الكل راح يردد في نفس واحد: 'عبد الناصر قالها زمان.. الاتنين مالهمش أمان.. الإخوان والأمريكان'. حقيقة شعرت وكأن العمارات والسيارات علي جانبي الطريق تهتف باسم الزعيم الراحل. السؤال الذي يجب أن يضعه الرئيس القادم نصب عينيه، ويحاول دومًا أن يجيب عليه: لماذا يرفع المصريون صور الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وسيرفعون صوره في المستقبل.. ولماذا يقترن اسمه بلقب الزعيم الخالد؟!!. ولا أبالغ لو قلت إن روح جمال عبد الناصر ما زالت تحلّق بين المصريين، لتؤرق أي رئيس قادم، لا يضع في حسبانه رغبات وطموحات المصريين في وطن قوي حديث، يتبوأ مكانه الذي يليق به، بعد سنوات من الغياب والتغييب. وسيبقي الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.. توجهاته واختياراته وأولوياته، أو بالأحري مشروعه الوطني، حاضرًا بين الشعب المصري وبين كل من يجلس علي كرسي الحكم في مصر. منذ رحيله في سبتمبر1970، والأنظمة التي جاءت بعده، تهاجمه وتشوه إنجازاته، تحاول يائسة أن تمحو أثره، لكنه ظل خالدًا في القلوب والعقول، بل كان كل يوم يمر علي المصريين يضيف إلي رصيد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. ظلت الحكومات المتلاحقة بعد رحيله تبيع ما بناه من مصانع وتأتي علي ما تحقق في عهده من إنجازات، لكن أربعين عامًا ويزيد لم تكفِ لبيع ما تركه الزعيم الخالد أو محو ذكراه من القلوب والعقول. كثيرة هي حملات التشويه التي حاولت النيل من عبد الناصر في حياته وبعد مماته قادتها وروجت لها أجهزة استخبارات الكيان الصهيوني وأمريكا وبعض الدول الغربية، التي أزعجها وجوده ولو مجرد رمز للعزة والكرامة والتحرر الوطني. ورغم عمليات التشويه الممنهجة لثورة يوليو ومشروعها، وبعد أن اعتقدوا أن عبد الناصر قد غاب، خرج المصريون بالملايين في احتجاجات لم يشهد العالم مثلها من قبل، ينددون بنظام مبارك، ثم حكم المرشد، وهم يرفعون مطالب وشعارات وأهداف ثورة يوليو، لتخرس الألسنة التي حاولت زورًا وبهتانًا وظلمًا وضع الستين سنة الماضية في سلة واحدة. استحضر المصريون روح الزعيم الخالد وهم يثورون لاسترداد وطنهم، بل وضعت ثورة يناير، ومن بعدها ثورة يونية حدودًا فاصلة وواضحة وكاشفة بين 'مصر الخمسينيات والستينيات'، و'مصر بعد كامب ديفيد'.. لذلك لم يكن غريبًا أن تسعي الولاياتالمتحدةالأمريكية أو الرأسمالية العالمية للالتفاف حول الثورتين، الأولي عبر تمكين الإخوان، والثانية باستخدام الجماعة الإرهابية أيضًا. جمال عبد الناصر لم يغب يومًا.. وكان المصريون كلما مر بلدهم أو وطنهم العربي بأزمة كبيرة أو صغيرة لجأوا إليه، بداية من احتلال وتمزيق العراق، وضياع الحق العربي في فلسطين، مرورًا بعمليات بيع القطاع العام، وعودة مجتمع النصف في المائة والرأسمالية المتوحشة. صوره المرفوعة في المناسبات الوطنية، وكلماته التي كان يرددها أبناء الشعب المصري، منذ أن خرجوا يبكونه في أكبر جنازة عرفها التاريخ، مرورًا بالمظاهرات التي انطلقت عام 1971 تطالب بالحرب، والثأر من الكيان الصهيوني، وحتي الاعتصامات والاحتجاجات العمالية والطلابية وغيرها، كانت تجسد مدي وقوة ارتباط المصريين بمشروع عبد الناصر. صوره وكلماته وتجربته ظلت هي السلاح الذي يرفعه المصريون في وجه مبارك والإخوان من بعده، لم تخدعهم محاولات الربط بين المشروع الناصري وبين ما تلاه بعد ذلك من أنظمة وحكومات. تلك المحاولات التي قام بها رجال الحزب الوطني ليمنحوا مبارك شرعية ثورة يوليو وحرب أكتوبر، ودراويش الجماعة أيضًا لتشويه المشروع الناصري وتحميله سوءات وعورات 'نظام مبارك - السادات'. عبد الناصر لم يغب يومًا، لكنه اليوم أقرب إلينا من ذي قبل، بعد أن اكتشف المصريون أو من كان في قلبه شك وبالتجربة العملية في السنوات الثلاث الأخيرة حجم الكذب والتضليل والتشويه الذي تعرض له الرجل ومشروعه ونظامه.. خلال الأربعين سنة الماضية، عبر الإخوان وزبانية الرأسمالية المتوحشة. إن رد الاعتبار للزعيم الخالد عبد الناصر ومشروعه الوطني، من بين أبرز ما حققته ثورة 25 يناير التي أزاحت مبارك ورجاله، وثورة 30 يونية التي أطاحت بتنظيم الإخوان ودراويشهم إلي غير رجعة. وهو ما يضع الرئيس القادم في مأزق أو أمام اختبار صعب، وأزعم أن تمسك الغالبية بالمشير السيسي وخروج الملايين لتأييده مرجعه أنهم وجدوا فيه نواة طيبة لناصر جديد، بوصفه من تصدي منذ البداية بمساعدة ملايين المصريين لمعركة الاستقلال الوطني.. فضلا عن امتلاكه الإرادة السياسية والقدرة علي الفعل وإدارة الصراع. وليعلم المشير عبد الفتاح السيسي الذي سأمنحه صوتي في الانتخابات أن ما بيننا وبينه هو 'مصر عبد الناصر'، وأن اقترابنا منه ومساندتنا له ستكون بقدر اقترابه من تحقيق أهداف ثورة يوليو.