تحت وطأة عدم اليقين الذي يلف الأمة في هذه المرحلة الموحشة، تبقي مصر حاضرة في الأذهان لكل الأسباب التي تجعل من دولة ما جسراً لنهضة شعبها وأمتها. تبقي مصر الأمل وقشة الغريق العربي في بحر التيه والأوهام والإرهاب والفتن والكذب والتدليس والأجندات. تبقي مصر العنوان الذي لا تحيط به كل التفاصيل الممكنة وغير الممكنة، وتبقي العصيّة علي جرّها إلي اللا دور أو الدور المرسوم في دوائر أعداء الأمة. هي كانت دائماً هبة فلاحها وإبداع شبابها وحكمة شبابها وخفّة دمها ونيلها وأهرامها وغيطانها. كانت كذلك وستعود إلي ما كانت رغم أنف الجاهلين بطبيعتها وطبعها وطبعتها المحدّثة بعد انتفاضتين. مصر التي في خاطر محبيها رونق العرب وزهرة إفريقيا وأم الدنيا. هذه العروس المسربلة بالحضارة والتاريخ تواجه الرياح العاتية بأقصي ما في المواجهة من حرص علي الكرامة وحفظ حق الشهداء وإعادة الاعتبار لكل من آلمه ظالم أو عتّم في وجهه ظلامي. هي إصبع في عين كل حاسد، وغصّة في قلب كل حاقد، ودرس وفاء لكل جاحد، وسلّم لكل صاعد. مصر الضلع الثالث مع سوريا والعراق في مثلث الدول العربية الذي دعا الصهيوني بن جوريون لتدمير جيوشها وتفكيكها، تتعرّض لاختبار تنفيذ الأحلام القديمة والأوهام الذميمة. جيشها يتعرض لشيطنة يتولاها إعلام لا يتقن سوي النعيق بالخراب، من الفضاء تتساقط عواصف التحريض وزخّات الأكاذيب وسناج تشويه الوجوه النظيفة، وعلي الأرض يرسلون له من يصطاد ضباطه وجنوده ويشاغله ويستنزفه ويبقي حياته ووجوده رهناً ب 'مساعدات' أمريكا المشروطة ثمناً للكرامة والاستقلال، خدمة لمقولة التفوق العسكري 'الإسرائيلي' علي كل العرب من خلال التفوق علي مصر وإبقائها مكبّلة بأصفاد 'كامب ديفيد'. دم الشهداء من ثورة عرابي والفلوجة وبحر البقر وبور سعيد والسويس ويونيو، 1967 والاستنزاف وانتفاضتي يناير ويونيو الأخيرتين، يسأل أبناء 'الإخوان': ما الذي يريدونه من مصر؟ هل السلطة أهم من الوطن؟ هم يريدون أن تبقي مصر مشتعلة بالفوضي ليجعلوا من أنفسهم المخرج الوحيد وتؤول إليهم السلطة التي لم يحافظوا عليها، بل بدّدوها بالأخطاء والنهج الفئوي وضيق الأفق. لا يستمعون لمواقف القوميين والعلمانيين واليساريين، هذا شأنهم. لكنهم لا يستمعون لمواقف أشقائهم في الفكر والتوجّه، الذين يشيرون إلي أخطائهم بالبنان. لو نجحوا لكان غبياً ومشبوهاً كل من يقف ضدهم، لكن الأوطان أغلي من الجماعات، والشعوب أهم من الاحزاب، والمستقبل أضمن من الماضي. من الواضح أن 'الإخوان' لا يستمعون إلا لأنفسهم ولا يريدون أن يعترفوا أن عقارب الساعة لا تعود إلي الوراء، ولم يتّعظوا حتي من تجاربهم الخاصة. لقد حاربوا جمال عبد الناصر ولم يتركوا من سيئ الصفات حرفاً إلا وألصقوه به، وأعملوا فيه سكاكين التشويه والشيطنة من الوريد إلي الوريد، ولكنّهم لم يسقطوه أو يضعفوه، ولم ينتزعوه من أفئدة ملايين المحبين في مصر والعالم العربي وكل الأحرار في العالم. لا يمكن لجماعة أن تقف في مواجهة أغلبية الشعب وكل القوي السياسية والدينية، وأن تدرك أن سياسة التظاهر العبثي وإشعال الجامعات وتعطيل الدراسة ومشاغلة الجيش تزيد من عزلة أصحابها وتعمق أزمتهم. كفي عبثاً بمصر، ومن يحبّها عليه أن يسهم في بنائها وليس هدمها.