اتفاقية المصالحة الفلسطينية كانت باكورة الإنجازات المتوقعة للثورة المصرية وكذلك القرار المتوقع لرفع الحصار المفروض من العهد البائد على قطاع غزة، فوجئت «إسرائيل» بالمصالحة التى تمت بين حركتى فتح وحماس، وتصرفت كأنها فوجئت بما تمكنت مصر الثورة من تحقيقه فى أسابيع، فما كان من نتنياهو إلا أن صرح بأن على رئيس السلطة أن «يختار بين المصالحة مع «إسرائيل» أو مع حماس، كان الرد على هذه الحماقة، التى يستولدها الغرور المطلق، حيث أضاف: «لن يكون من سلام مع الاثنين». وكما كان متوقعا كان تعليق البيت الأبيض أن حماس «منظمة إرهابية»، ثم أضاف «إن أى حكومة فلسطينية عليها أن تحترم الاتفاقيات السابقة وأن تعترف بحق إسرائيل بالوجود». وكان لابد لشمعون بيريز الإدلاء بدلوه بقوله «إن العالم لا يستطيع تأييد إقامة وطن عندما يكون جزءا منه تنظيم إرهابى مفترض» ثم أضاف: «إن الانتخابات المقبلة قد تأتى بمنظمة إرهابية قد تحكم غزة ويهوذا والسامرة (الضفة الغربية) وانتصار سياسات حماس». بمثل هذا المزيج من غطرسة نتنياهو وهذيان بيريز، ناهيك عما يدعو إليه ليبرمان من رد عسكرى فورى، واستباق للإفراج عن عناصر حماس من سجون «فتح». أجل إن ردود الفعل «الإسرائيلية» تصل إلى حدود الهستيريا على ما توفره المصالحة الفلسطينية من مناعة للوحدة الوطنية، حيث كان يجب ألا يحصل هذا الشرخ فى مرجعية مقاومة الاغتصاب، الذى مارسته «إسرائيل» من خلال الإمعان فى التمدد الاستيطانى. إن ذلك يؤكد بما لا يرقى إليه شك أن «إسرائيل» تصرفت على أساس تفكيك، ثم تفتيت شرائح الشعب الفلسطينى والاستفراد بالسلطة الفلسطينية من خلال إلغاء نهائى لأى توازن محتمل، حيث إن اتفاقيات أوسلو ودور مصر المطبعة أسهما عن قصد أو عن تجاهل فى استمرار الشرخ وفداحته بين السلطة وحماس. وإذا كان من أسباب تخفيفية لانزلاق السلطة الفلسطينية فى المباحثات الموصوفة خطأ ب«المفاوضات» استولد الشرخ الهائل فى وحدة المرجعية الفلسطينية، فقد يكون هذا ناتجا عن كون فلسطينالمحتلة محاطة بدولتين لديهما علاقات دبلوماسية مائعة أحيانا ومتنامية أحيانا أخرى مع «إسرائيل»، التى لا تعترف بأى حدود لها! أكثر من ذلك فإن «إسرائيل» تستهدف الضفة الغربية وحدها فى مسلسل «حلقات مسيرات السلام»، فى حين أن قطاع غزة هو بمنزلة «كيان عدائى»، وذلك يفسر شراسة ردود الفعل على اتفاقية المصالحة الفلسطينية، التى كانت باكورة الإنجازات المتوقعة للثورة المصرية، وكذلك القرار المتوقع لرفع الحصار المفروض من العهد البائد على قطاع غزة، والذى وصفه وزير الخارجية المصرى نبيل العربى بأنه «مخجل». إن شراسة الردود «الإسرائيلية» على المصالحة وما قد يستتبعها من خطوات إيجابية متوقعة، هى فرصة تريد «إسرائيل» من خلالها المضى فى تحدى القوانين والقرارات الدولية، وهو أمر مارسته منذ قيامها. إن «إسرائيل» غيبت حقوق الشعب الفلسطينى، وهذا ما يفسر أن وحدة المرجعية الفلسطينية سوف تمهد لإعادة بلورة قدرات الردع العربية، وفى طليعتها قدرات مصر العروبة، كما أن هذا بدوره سوف يعيد للقضية الفلسطينية مركزيتها فى الوجدان العربى والضمير العالمى، وفى هذا المضمار تعمل «إسرائيل» جاهدة لجعل كل انتقاد لها أو اعتراض على ممارساتها، يشكل انتقاصا لشرعية وجودها، ويترافق مع هذا الازدراء بعقول الناس امتناعها الدائم عن تعريف حدود دولتها، واتهام مقاومة جادة لاعتداءاتها واحتلالها بأنها «إرهابية»، مستندة فى هذا المسلسل من التشويهات للحقائق والتحريف لمعانى المصطلحات، إلى إشعار المجتمع العالمى بالذنب بأنها كيان مهدد، ولذلك هى تمارس منذ قيامها إهدار حقوق شعب فلسطين، داخل الخط الأخضر، وفى القدس وفى جميع الأراضى الفلسطينية، وأيضا حق اللاجئين فى العودة. أجل كل محاولة لكشف كذب وزور ادعاءاتها هو دليل على سامية كامنة أو ظاهرة، فى هذا المضمار تمكنت «إسرائيل» من ممارسة هذا التضليل. إلا أن عودة مصر إلى ممارسة دورها الرائد الواعد سوف يضع حدا لتمادى «إسرائيل» فى الانفلات من المساءلة الجادة، كما أن الانتفاضات العربية فى العديد من أقطار الأمة، التى تم توصيفها ب«الربيع العربى»، وبالرغم من أن البعض منها لا يزال متعثرا، تعبر عن حيوية الالتزام بالحقوق القومية والإنسانية، كما فى جدية الإصرار على تحقيقها، وأيضا فى تحقيق التكامل العربى، وتمكين شعوب الأمة من استرجاع تداخلها، وبما يوفر للتنمية فرصتها، وللمواطنة حضورها وكرامتها. هذا كله يفسر حماقة وانفعالية الردود «الإسرائيلية» على اتفاقية المصالحة الفلسطينية، ف«إسرائيل» تدرك أنه لن يكون سهلا عليها بعد الآن الاتكال على مصر «محايدة» فى ما تقوم به من اعتداءات على المقاومة فى قطاع غزة، كما حصل عام، 2009 كما أن ما تسوقه «إسرائيل» على أنه اعتداءات على مدنيين من قبل عناصر غير منضبطة، تبقى مندرجة فى إطار عمليات ثأرية مناقضة لثقافة المقاومة، فى حين أن «إسرائيل» تقوم بوساطة جيشها ومستوطنيها باستهداف المئات، بل الآلاف من المدنيين واللجوء الدائم إلى سلاحها الجوى لتنفيذ مسلسل من الاغتيالات والقتل الجماعى. إن القتل الجماعى الذى تمارسه «إسرائيل» هو النمط الذى ميز سلوكها ولا يزال، إضافة إلى أنها تعمل على تكريس مفهوم أن عمليات القتل هذه هى من مستلزمات «الأمن الإسرائيلى». فى الأيام القليلة المقبلة يصل نتنياهو إلى العاصمة الأمريكية لإلقاء خطاب أمام منظمة «الإيباك»، التى تشكل آلية تعميم سياسات «إسرائيل» وطلباتها، وهى قوة ضغط ذات نفوذ خاصة فى الكونجرس، الذى سوف يستضيفه لإلقاء خطاب أمامه، وبرغم أن قيادة الحزب الجمهورى تعمدت من خلال هذه الدعوة إحراج الرئيس أوباما وإبرازه «كرئيس يضغط على الحليف الرئيسى للولايات المتحدة” كما ورد فى تبرير دعوة الكونجرس، ستسعى قيادة الكونجرس إلى التذكير بأن مصر الثورة ستقيم علاقات مستقيمة، الأمر الذى تراه «إسرائيل» أنه يضع أمامها المزيد من التحديات والأعباء العسكرية، وهذا بدوره سوف ينطوى على مزيد من المساعدات العسكرية، وكأن هذا «الجديد» هو دليل على أن مصر الثورة تنسحب من حلف «الدول المعتدلة»، وكأن «الاعتدال» يقاس بمدى دفء العلاقة مع «إسرائيل» أو الاستعداد البطىء لتطبيع العلاقات. طبعا هذا هو التحدى الذى جسدت أضراره المحتملة الصور الرائعة لانتفاضتى تونس ومصر، واكتشاف الرأى العام الأمريكى خاصة والعالمى إجمالا الحيوية الكامنة، التى كانت مكبوتة ومهمشة وإذ بها تخترق أنظمة الاستبداد بنجاح أحيانا، وتتعثر أحيانا أخرى، لكن رغم هذا التباين فإن الربيع العربى، كما يسمى، أرجع التعامل مع العرب كأمة واحدة، وأن شعوبها قادرة على تحقيق مطالبها المشروعة. والمصالحة فى فلسطين خطوة فى هذا الاتجاه، وهذا يمثل مفاجأة حقيقية ل«إسرائيل»، وهو سر عشوائية انفعالاتها، وإن بمفردات يتقنها نتنياهو، مطالبا الولاياتالمتحدة باستمرار الالتزام بضرورة «التفوق الاستراتيجى» على كل العرب، وكأن الإلهام الذى حصل كان وهما أكثر منه إلهاما، فيبقى نتنياهو وحلفاؤه فى «إسرائيل» وفى الكونجرس فى حالة إنكار، بذريعة أن العالم يعمل على نزع شرعية «إسرائيل» رافضا الإقرار بأن عدوانه وعنصريته وتخلف عقائده الصهيونية وسلوكه فى رفض حق العودة والإمعان فى التمدد الاستيطانى وممارسته القمع وهدم المنازل والضم القسرى للقدس.. أجل كل هذه وأكثر هى التى تدفع «إسرائيل» بكونها هى التى تنزع الشرعية عن نفسها، وهذا ما يؤكده المجتمع الدولى. من هذا المنظور تأتى مصر من خلال إنجاز مصالحة بل وحدة لمقاومة ناجعة باكورة لتحرير فلسطين، ما يؤول إلى تحرير اليهود من التقوقع العنصرى والإرهاب الفكرى الذى يمارسه كل يهودى يحتكم إلى ضميره. كما دل الإرهاب المعنوى الذى مارسته «إسرائيل» على القاضى غولدستون وريتشارد فولك وغيرهما المئات ممن يؤكدون القيم الروحية والأخلاقية لدين مكون لإثراء الحضارة وقيم وحقوق الإنسان. ما حققه «الربيع العربى» أصبحنا نتعامل مع ما كان مستحيلا بكونه صار ممكنا، وإن لم يكن فورا فقريبا. هذا ليس من باب التمنى بل من باب التوقع، رغم الحواجز والعراقيل والصعوبات، وهى كثيرة. لكن كما تردد فى ثورات الربيع العربى «إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر»، هذا ما حصل، وهذا لا بد أن يحصل من خلال وضوح الرؤية واستقامة البوصلة.