سعر الذهب خلال التعاملات الصباحية اليوم الاثنين.. استقرار ملحوظ    أسعار الأسماك اليوم الإثنين 13 مايو 2024 في الأسواق.. كم سعر السمك البلطي؟    تباين أداء مؤشرات الأسهم اليابانية في الجلسة الصباحية    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 13 مايو    أخبار مصر: فرص عمل بالسعودية، حقيقة زواج ياسمين صبري، كاف يقرر تعديل موعد أمم إفريقيا، عرض 16 سيارة للبيع في مزاد علني، ماذا يأكل أطفال غزة؟    حزب الله اللبناني يستهدف مواقع وتجهيزات تجسسية تابعة للجيش الإسرائيلي عند الحدود    الرئيس الليتواني: إقالة شويجو إشارة موجهة إلى الشعب الروسي    بعثة الزمالك تغادر المغرب في طريقها إلى القاهرة بعد خوض مباراة نهضة بركان في ذهاب نهائي كأس الكونفدرالية    عقد مناظرة بين إسلام بحيري وعبدالله رشدي حول مركز "تكوين الفكر العربي"    "2100 مدرسة".. كيف استعدت التعليم لامتحانات الثانوية العامة 2024؟    حار نهارا، حالة الطقس اليوم الاثنين 13-5-2024 في مصر    الأقصر تتسلم شارة وعلم عاصمة الثقافة الرياضية العربية للعام 2024    اليوم| محاكمة متهمي قضية اللجان النوعية    مؤلفة مسلسل «مليحة»: استخدمنا قوة مصر الناعمة لدعم أشقائنا الفلسطينيين    الإثنين 13 مايو.. توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية    مناقشة آليات تطبيق رسوم النظافة بمنظومة التخلص الآمن من المخلفات بالإسماعيلية    ارتفاع «حديد عز».. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 13 مايو 2024    صابر الرباعي: أتطلع لمواكبة الأجيال الحديثة.. والنجاح لا يعتمد على الترند    مقتل وإصابة 15 شخصا في إطلاق نار خلال حفل بولاية ألاباما الأمريكية    هل يجوز التوسل بالرسول عند الدعاء.. الإفتاء تجيب    جيجي حديد وبرادلي كوبر يرقصان في حفل تايلور سويفت (فيديو)    وكيل «خارجية الشيوخ»: مصر داعية للسلام وعنصر متوازن في النزاعات الإقليمية    أزهري يرد على تصريحات إسلام بحيري: أي دين يتحدثون عنه؟    حدث ليلا| زيادة كبيرة في أراضي الاستصلاح الزراعي.. وتشغيل مترو جامعة القاهرة قبل افتتاحه    تشديد عاجل من "التعليم" بشأن امتحانات الشهادة الإعدادية (تفاصيل)    وزير التعليم: هناك آلية لدى الوزارة لتعيين المعلمين الجدد    بطولة العالم للاسكواش 2024.. مصر تشارك بسبع لاعبين في الدور الثالث    «اللاعبين كانوا مخضوضين».. أول تعليق من حسين لبيب على خسارة الزمالك أمام نهضة بركان    تدريبات خاصة للاعبي الزمالك البدلاء والمستبعدين أمام نهضة بركان    افتتاح مسجد السيدة زينب.. لحظة تاريخية تجسد التراث الديني والثقافي في مصر    بعد الخطاب الناري.. اتحاد الكرة يكشف سبب أزمة الأهلي مع حسام حسن    بعد تعيينها بقرار جمهوري.. تفاصيل توجيهات رئيس جامعة القاهرة لعميدة التمريض    لا أستطيع الوفاء بالنذر.. ماذا أفعل؟.. الإفتاء توضح الكفارة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك أن تستجيب دعواتنا وتحقق رغباتنا وتقضي حوائجنا    «من حقك تعرف».. هل المطلقة لها الحق في نفقة العدة قبل الدخول بها؟    منها تخفيف الغازات والانتفاخ.. فوائد مذهلة لمضغ القرنفل (تعرف عليها)    سر قرمشة ولون السمك الذهبي.. «هتعمليه زي المحلات»    مسلسل لعبة حب الحلقة 24، فريدة تعلن انتهاء اتفاقها مع سما    قصواء الخلالي تدق ناقوس الخطر: ملف اللاجئين أصبح قضية وطن    بسبب سرقة الكابلات النحاسية، تعطل حركة القطارات في برشلونة    «الإفتاء» تستعد لإعلان موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات قريبًا    أمير عزمي: نهضة بركان سيلجأ للدفاع بقوة أمام الزمالك في الإياب    استثمار الذكاء الاصطناعي.. تحول العالم نحو المستقبل    كاميرون: نشر القوات البريطانية في غزة من أجل توزيع المساعدات ليس خطوة جيدة    المصريين الأحرار يُشيد بموقف مصر الداعم للشعب الفلسطيني أمام محكمة العدل الدولية    العدو يحرق جباليا بالتزامن مع اجتياج رفح .. وتصد بعمليات نوعية للمقاومة    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد مستشفى الحميات وتوجِّة باستكمال العيادات (صور)    أربع سيدات يطلقن أعيرة نارية على أفراد أسرة بقنا    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    الكشف على 1328 شخصاً في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    وقوع حادث تصادم بين سيارتين ملاكي وأخرى ربع نقل بميدان الحصري في 6 أكتوبر    ليس الوداع الأفضل.. مبابي يسجل ويخسر مع باريس في آخر ليلة بحديقة الأمراء    نقابة الصحفيين: قرار منع تصوير الجنازات مخالف للدستور.. والشخصية العامة ملك للمجتمع    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    وزيرة الهجرة تبحث استعدادات المؤتمرالخامس للمصريين بالخارج    رئيس جامعة المنوفية يعقد لقاءً مفتوحاً مع أعضاء هيئة التدريس    الأعلى للصوفية: اهتمام الرئيس بمساجد آل البيت رسالة بأن مصر دولة وسطية    منها إطلاق مبادرة المدرب الوطني.. أجندة مزدحمة على طاولة «رياضة الشيوخ» اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا باع المثقف العربي ضميره..؟
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 14 - 11 - 2013

أذهلني أن بعض ''مثقفي'' هذا الزمان العربي، يرون مفهوم الثورة كما لم يره مثقف في العالم، فهي الشارع الصاخب المليء بالرؤوس الحامية والفارغة، وبالحطام وأشلاء البشر والحرائق، ومثلهم منتهزي الفوضي الذين يضفون علي أنفسهم ألقاباً وتوصيفات، ولا يرون في الثورة فعلاً تاريخياً بمقومات و ''شروط'' وأهداف تبدل طريقة حياة الناس إلي الأرقي والأكثر مدنية ولو سلماً، لا علي الأوضع والأكثر همجية وبالدم والموت حصراً.
أذهلني أن بعض ''مثقفي'' هذا الزمان العربي البئيس، يرون في الثقافة مجرد تراكم معرفي من الحروف والكلمات والمصطلحات، يمكن بيعه أو شراؤه أو المتاجرة به في كل سوق ولو كانت سوق نخاسة، ولا يرون فيها حلاً لمعضلات الإنسان، الأخلاقية أولاً، في طريقه إلي الحضارة، فيجتمعون تحت أي سقف يدفع ويمول، ولو كان سقف خيمة لقطري.. خليجي.. وبأخلاقية منتهية الصلاحية، ينيب عنه عضو كنيست إسرائيلي، تمنطق بورع الثقافة وجلبابها، وبرع في صنعة ''حديث الثورة'' و تصميم نماذجها السينمائية والمسرحية، ليؤمهم ويضبط ورودهم مناهل الماء المثلج والمناسف بعد كل مزايدة ثقافية في أصول التغيير العربي إلي الغد.
يذهلني أن بعض ''مثقفي'' عرب هذا الزمان البئيس، يرون في المثقف آلة للحذلقة والخطابة والعزف علي أوتار المنابر، بزر يتقيأ جوفه المعرفي أياً كان وحيث كان.. وبزر يعيد التهامه، كما لو أنه المأجور الطاريء في حرفة يصنع ما يريده الزبون، يقولبه برنين الكلمات والمصطلحات، ثم يلمعه بمسحة من نفاق الأنسنة والتعفف وحقوق الإنسان، ثم يرطبه بدموع تنهل من عيني تمساح.
للأسف الشديد فقد فاحت رائحة الفساد من أولئك 'المثقفين' الطارئين علي الحياة الثقافية العربية، أولئك الناعبين علي الشاشات، ولم تفلح الكاميرات المتطورة في إخفاء أحقادهم وجهلهم، حيث ترتبك وجوههم ليس بسبب بقايا ضمير بل استعجالاً لانطفاء الأضواء وتلقي المغلفات المحشوة بقليل من الدولارات ولاحقاً اليورويات، وكنت أحسب أن للفساد ميادينه في كل علاقات البشر التي ينهب فيها الطامع بعض المغفلين أو الخانعين، ما خلا الكلمة والثقافة، لأنني ظننتهما مقدستين كعتبات بيوت الله، فإذا بالمتعيشين الذين لم أسمع أحداً منهم يتقن لغته الأم يتمسحون علي أعتاب العواصم الغربية والبترولية علي حد سواء ليقبضوا ما لا يساوي قطرة واحدة من دم الوطن العربي، وهل من غرابة أن يطعن العاق أمه التي نسي حتي صفاء مفرداتها وأصالة روحها؟
ف ''أزمة المثقفين'' العرب احتلت دوماً مكانة مرموقة في مسلسل التأزيم المعتاد، فالمثقفون ليسوا سوي كتلة الوعي الفاعلة في أي أمة، ومصادر قوتها الحقيقية، وطليعتها الإنسانية القادرة علي تشخيص الوقائع، وكشف الخلل، واجتراح الحلول، وطرح المبادرات، وصولاً إلي التغيير الإيجابي المطلوب. وكان مثقفونا، كالمأمول دائماً، شجعاناً إلي درجة كبيرة، تعكس نضوجهم الفكري والإنساني من ناحية، وتجانسهم مع ''حال الرفض العام'' من ناحية أخري، إذ أفردوا المساحات الكبيرة للحديث عن أزمتهم الخاصة والعامة في آن، معددين أبعادها، وموضحين آثارها وتداعياتها عليهم وعلي المجتمع والدولة.
وفي ذلك قالوا إن ثلاثة أضلاع تُحكم حصاراً حول المثقف، مجسدة أزمته، أولها الاستبداد السياسي، وهم في ذلك محقون كل الحق، إذ يبقيهم رهن المطاردة والملاحقة وتحت سيوف العقاب والترصد، وثانيها المؤسسة الدينية التقليدية ذات الفهم الضيق الحرفي والمخالب الممتدة المفتئتة علي سلطات الدولة المدنية وحقوق الإنسان، وثالثها الرأي العام غير المستنير، مجسداً ''سلطة العوام'' العصية علي أي تحدٍّ، والممتنعة عن أي تطويع أو اختراق، والمصطدمة، بالضرورة، مع إشراقات الإبداع في تخطيها ل''الثابت''، وتحديها ل''المتفق عليه''.
فعندما تقرأ لمثل أولئك أو تسمعهم والحق أقول إني أقرأ لبعضهم وأسمعهم جرياً علي الحكمة ''إن لم تقرأ وتسمع ما لا تحب، فلن تتعلم أو قل تتثقف'' فتري أعينهم أثقب من ''شهود عيان'' فضائيات الملوك والأمراء، يصفون لك الحاصل مثلاً في القري السورية من قتل وتنكيل علي يد النظام للناس المسالمين طلاب الحرية بأدق التفاصيل حتي لتكاد تعتقد أنهم من حملة الشعار ''الشعب يريد إسقاط النظام'' في صدر التظاهرات وعلي ظهورهم آثار السياط وعلي صدورهم آثار الرصاص، علماً أن القاعدة القانونية كذلك في واشنطن وباريس وأورشليم التي يجب أن يعرفوها لكونهم ''نخبة الدولار المثقفة'' تقول: ''إن في الوقائع لا تقبل الشهادات السمعية''، ولكن كما الشعراء ما يحق لهم لا يحق لغيرهم!
لا يرون غضاضة في اتخاذ مواقف تتقاطع مع ''أوباما وآشتون'' وما خلفهما وما أمامهما و''نتنياهو'' و''الظواهري'' و''العرعور'' والملوك والأمراء والأجراء، لا بل يروحون يبررونها باختلاف المنطلقات وأكثر من ذلك بدمع علي الحقوق الإنسانية المداسة والحرية المراقة في ساحات سورية المصونة في الساحات الأوروبية، وكل ذلك من علي موائد الكافيار في الشانزيليه أو في الحي اللاتيني، والأنكي عندما يكتبون عن التدخل الأجنبي تراهم يقولون: ''نحن ضد التدخل الأجنبي ولكن إذا حدث! فالمسؤولية علي النظام''.
وأما أنت الرافض أن تكون في هذا التقاطع، فإنك متحجر فكري لا بل عاجز فكري أو عاقر أيديولوجي، هذا وإن ''الله ستر'' ولم تكن عاقراً إنسانياً ومع القمع وعدو الحرية، وباختصار لستَ مثقفاً! وللممانعة والمقاومة وللمحاور وللمشاريع وللمواخير في قطر وللدم المصري والعراقي والليبي والتونسي والفلسطيني والكردي واليمني، وللجوع في الصومال وفي حواري باريس ولندن وشيكاغو عندهم معان غير كل التي تعرفها، وستصير تفهمها فقط عندما يُصلب الشرفاء الحقيقيون، ويصير أعداء الوطن والتكفيريين حكاماً لبلداننا، وعندها فقط ستصير من عداد المثقفين النخبويين. وإن انتصرت بلداننا وتجاوزت المحن بصبر وصمود شعوبها، فستبقي بين الظلاميين لأنه حينها سيقلبون ولن يفتقدوا الحجة، ولن يبقوا لك مطرحاً.
أينَ المثقفون حيال ما يجري ببعض السّاحات العربية من تسليح وتقتيل وتنكيل وتخريب وتحريق وتفجير وتكفير وتهجير وارتباط حقير بالأجنبي المتربّص والمعتدي؟
أغلب الظن أنّ ثلة منهم حيّدت نفسها وقلمها وصوتها عن الرّصد وقرع ناقوس الخطر لمجمل الوقائع الساخنة، لسببٍ قد يكون أسَّهُ الخوف أو عدم القناعة أو الكفر بالهوية الوطنية من الأساس، أو ''لغايةٍ مُبيَّتة بنفسِ يعقوب''؟!
وعليه هل تظلّ ''النخبة المثقفة'' بمنأيً عن توعية المجتمع، بحيث لا تؤثر بحركته الوجودية ولا بسلوكياته اليومية؟ ثم ''إنّ العمل الثقافي بغير إخلاص ولا اقتداء ولا اقتدار ولا روح وطنية صافية، أشبه ما يكون بالمسافر يملأ جرابَه رَمْلاً يثقله ولا ينفعه''؟ مثل هذا الموقف الانكفائي، إنما هو بمنزلة تنازلٍ مقصود لدور المثقف'المُدَوَّر كالرّصيد المُدوَّر''، بانتظار ما ستسفر عنه الأحداث من تطورات ونتائج، وعندها يصبغ وجهه وقلمه وصوته بالتلوين الذي يشاء، ليضع قدمه من جديد علي السّكة التي يريد!
إنّ من أبسط واجبات الكاتب المثقف، الذود عن قضايا الحق والحرية والسيادة لوطنه، ودفع كيد المُرْجفين أصحاب الأقلام المأجورة، والوجوه ''القزَحِية'' المَسفوحَة، وأرباب الأصوات والمواقف والقنوات المُستلَبة بقوة الدولار الذي تلوح من فئات أوراقه ''روائح'' الغاز العربي المُسْتلب، و''أبخرة'' بترولهم المحاصَر كإراداتهم المحاصَرة ونخوتهم العُرْبانيّة الجوفاء.
ويمكن القول إن ''مثقف الدولار'' اليوم بات كياناً واضح المعالم، مكتمل البناء، بشروط ومواصفات وأنماط أداء محددة. فقد أورثه الاستبداد السياسي، ومعه التسلط المستمد قوته من التفسير الخاطئ للدين و''سلطة العوام''، خوفاً تقليدياً يمكن تفهمه، خصوصاً وقد تعرض مثقفون حقيقيون من خيرة صناع ثقافتنا ومبدعيها لهجمات شرسة مريرة، استهدفت حياتهم، أو أودعتهم السجون، أو ألجأتهم إلي المنافي، وحطت من شأنهم بين العوام. وبات قطاع من ''مثقفي الدولار''، إلي ذلك، مأخذوين بالتطور الاقتصادي المادي في نزعاته الاستهلاكية، التي شهدت حدوداً قياسية من السفه والجنون أحياناً، فلجؤوا إلي توظيف أرصدتهم العلمية والثقافية لزيادة نفوذهم الاجتماعي، وتعظيم مردودهم الاقتصادي، أو تحسين أوضاعهم السياسية، فانتهوا إلي عكس كل ما بدؤوا به، وبعدما كانوا مضرباً للمثل في العلم والخلق والوطنية أحياناً، صاروا جديرين بالاحتقار، الذي ما لبث أن عزّ عليهم حصده، فلم يبق لهم سوي الشفقة، ومن بعدها الرثاء.
وعف آخرون فقبضوا علي مواقفهم تجاه السلطات الثلاث، بعضها أو معظمها، وراحوا يمولون بقاءهم من مصادر أخري، من منظمات أجنبية وجمعيات مشبوهة تحت عناوين براقة، وفي الأحوال كلها حافظ معظم ''مثقفي الدولار'' علي خطاب دائري عقيم، ولغة تسفيهية، وجدل أجوف، مستخدمين مصطلحات العمالة والتخوين، وعازفين عن أي فعل إيجابي يمكن أن يطرح بديلاً لائقاً لتبنيه والبناء عليه.
وبالإضافة إلي تلك الاعتوارات كلها، بات ''مثقف الدولار'' متمترساً في أيديولوجيته، طالباً من نظرائه الاصطفاف خلف تياره، وإعلان هوياتهم لا إعلان مبادئهم. يعاملك ''مثقف الدولار'' كتابع مفترض ذليل، ويفترض فيك الانضمام إليه والحديث برأيه وربما استخدام تعبيراته، وهو جاهز باتهامك ب''البيع'' أو ''الانتهازية'' أو ''العمالة'' وفي أفضل الأحوال ب''الاستلاب'' و''السفه'' إن أنت لم تتفق مع طروحاته وأفكاره.
ونسأل بكل هدوء: لماذا هذا الغياب الآثم لعدد من مثقفينا وكتّابنا عن أوجاع أوطانهم وأمتهم ومستقبل أبنائهم وبناتهم فلذات الأكباد؟ ولماذا هذا الانكفاء عن ممارسة دورهم التنويري، مع أنّ غالبيتهم كانوا ما شاءَ اللهُ ''نجومَ الساحة الثقافية''، ''بلا حسدٍ''، فلا تفتح صحيفة أو مجلة أو دوريّة إلا وتجد أسماءهم وصورهم لمّاعة مُتصدّرة، إضافة لحضورهم ''عالي المقام'' بهذه الفضائية أو تلك، وبهذا المركز الثقافي أو بتلك الندوة الحوارية، وهم يتشدّقون وينظّرون عن الثقافة، وقيمتها العالية بحياة الأمم والشعوب، وعن دور المثقف الرّائد بمجتمعه ووطنه وأمته؟ لكنّ العقوق والسّمسرة والسّكوت عن قول الحق، لم تكن يوماً من أدبيّات الأدباء، ولا من أخلاقيات المثقفين البتّة!
والسؤال المتكرّر: أين موقفهم الصادق من قضايا الثقافة الوطنية أولاً وبالسّاحات العربية تالياً؟ وأيّ مستقبل للثقافة العربية برمّتها في عالمٍ عولميّ متغيّر، إنْ لم ننتبه ونتيقظ؟!
إنهم يؤكدون في كل لقاءاتهم وندواتهم، أنّ من واجب المثقف الغَيور، وبدواعي شرف المهنة والخلق، أن يكون مدافعاً بقلمه وصوته عن قضايا وطنه أولاً، وهو يتحدي أشرس فكر''صهيونيّ ماسُونيّ غربيّ'' حاقد عرفه العالم منذ بدء الخليقة حتي الآن!
ولكنّ الناقد العاقل يري أنّ هذا المثقف ''المُوجَز'' كاذب علي نفسه أولاً، وعلي مجتمعه ووطنه ثانياً، وعلي حاضر الثقافة ومستقبلها ثالثاً، لأنه لم يحترم حرفة الكتابة والإبداع، ولم يكن أميناً علي نِتاجه الثقافي والفكري والمعرفي الذي تنكب دربه سنوات، عاداً إياهُ السبيلَ الأسمي والأرقي والأجمل بالحياة.. وكان ينبغي أن يقصر اهتمامه علي ما يدخل ضمن النطاق الوطني والعروبي والإنساني من فضائل وحقائق ومواقف مبدئية، وأن يعرف أنّ كلّ ''الشعوب'' تسعي وراء الممارسات الثقافية لجعل وجودها أكثرَ ديناميكية وحياة ومَعنَي، فإذا لم يكنْ دوره كذلك، فإنه لا قيمة لما يصدر عن قلمه ''الريّان''، وصوته ''الرّنان''، ويكون كَمَنْ يحرث البحرَ تماماً!
لقد تجلت أزمة المثقفين العرب بوضوح خلال العدوان الغربي والعربي القطري الخليجي الهمجي علي ليبيا.. وعلي سورية ومصر وتونس، فكرست حالة ''مثقف الدولار''، الذي اصطف أيديولوجياً، واتخذ مساراً مبدئياً، لم تغيره تتابعات الأحداث أو انكشاف الحقائق أو تدفق المعلومات، فظل ''محتكراً وحيداً للحقيقة''، و''نبياً وطنياً نبيلاً في مواجهة عملاء وخونة''. وأسوأ من القصف والإرهاب والتقتيل الذي تمارسه العصابات الممولة عربياً بأموال الخليج والمدعومة بإعلام النفط الخليجي، مقالات بعض ''بعوض'' المفكرين والمثقفين العرب، الذين يغذون أفكارهم بمص الدماء العربية النقية والطاهرة، فبعض الكتبة الذين يقبضون من قطر والسعودية بالعملة الصعبة، جذبتهم ''المؤثرات الصوتية'' الصاخبة، التي تضرب ''طبول'' الديمقراطية، أو تنفخ في ''أبواق'' الحرية، أو تعزف علي ''وتريات'' التغيير.. من دون التدقيق في حقيقة أهداف هذه الموسيقي التصويرية، لمشاهد القتل والتخريب والفتنة.
بالتأكيد لا يليق ''المفكر والمثقف'' وهم الذين يشكلون علي الفضائيات المتورطة، الطبل والزمر لهذا المخطط المدمر، أن يظهروا علي هذه الدرجة من السطحية، بحيث تأخذهم الظواهر بعيداً عن الوقائع. ولا أدري كيف تنبذ هذه النخبة المفترضة الوقائع، وتتمسك بفبركات المعارضة، وتستند إلي شهاداتهم المتخيلة، لإضفاء الشرعية الوطنية علي شريعة المصالح الأمريكية وفوضاها الخلاقة.
وأتساءل وفي حلقي غصّة: منذ متي وفي أي زمان كانت أميركا وبريطانيا وفرنسا يرأفون بالشعوب العربية ويريدون لهم الرفاه والخير والتقدم والازدهار؟
أليس أوباما من صرّح أخيراً أن وجود إسرائيل التي اغتصبت أرض دولة كاملة وشرّدت شعبها، من وجود أميركا؟ أليس كل رؤساء الغرب وأميركا المتعاقبين من قالوا يجب أن تكون قوة إسرائيل متفوقة علي الدول العربية مجتمعة؟
أليست بريطانيا هي التي جلبت الصهاينة إلي فلسطين وسلمتها لهم بوعدها المسمي وعد بلفور المشؤوم، وهي التي كانت تحتل الكثير من الدول العربية وتنهب خيراتها وتذل شعوبها؟
أليست فرنسا من احتل الجزائر وتونس ولبنان وسورية وعاثت فساداً وقتلاً ونهباً؟
كيف أصبح من يوالي هؤلاء وطنياً، ومن يتمسك بعروبته ونهج مقاومة العدو الصهيوني والغربي الطامع بالبترول وخيرات الوطن العربي خائناً وعميلاً؟
ومن المخزي أن بعض الكتّاب الذين كانوا يتشدّقون بكتاباتهم السياسية وينظّرون للعروبة والقومية ويهللون للمقاومة، باتوا الآن يهللون للإقليمية ويتغنون بالطائفية وحث الأجنبي علي احتلال بلادهم
وباختصار، ف''مثقف الدولار'' مأزوم حقيقي، لا يعول علي أحد إلا ذاته، ولا يثق بأي كائن خارجها، يطرح يأساً وتفسيرات مجترة لوقائع يختارها مآساوية ومغلقة، فيما توقف عن إبداع الحلول وطرح البدائل وتخيل السيناريوهات، وكف عن احترام العمل الجماعي والإيمان بنظرائه وقدرتهم علي القيام بأدوارهم المفترضة وإنتاج الأفكار والرؤي المعتبرة حتي في حال تصادمت مع تحليلاته أو معتقداته ومواقفه. والملاحظة المؤلمة أن أكثر الناس استدعاءً للتاريخ بجانبه السلبي هم أمثال هؤلاء المثقفين، وأغلب هؤلاء تراهم وهم يتكلمون يحاولون إخفاء أفاعي التاريخ ولكن لا يستطيعون لأن فحيحها الذي يخرج مع كلماتهم يفضحهم.
فالثقافة الوطنية والمحلية، حتي لا نقول الدينية، يجب أن تفرض واقعاً جديداً آخر مختلفاً يحرر البلاد والعباد من ذهنية الوصاية والتبعية والاستنجاد بالمستعمر القديم أو حتي إسقاط كل اتفاقيات الإذعان بكل تفاصيلها وبنودها. وهذا واجب المثقفين الحقيقيين في العالم العربي من محيطه إلي خليجه.
كان الأولي لكل مدع من أولئك المثقفين الذين يكتبون تحت الطلب، أياً كانت حصيلتهم العلمية والمعرفية أن يتخلصوا من ادعائاتهم، ويقفون وقفة المعارض لكل عِلم ومعرفة كريهة، والحرب في مقدمتها لأنها تهدد بالكوارث والويلات التي لا حصر لها، والحياة علي الأرض اليوم كما بالأمس تنطوي علي الأصالة والزيف، وما الأصالة إلا الفاعلية الإنسانية والتمهيد لها والمساهمة فيها لكل ما يؤسس للأصالة ويستبعد التقليد، لأن التقليد نوع من الزيف الذي يوفر لصغار القوم من المثقفين، فرصة الثرثرة المأجورة التي تبغي الشهرة والمال علي حساب الرأي الحر الذي يشرع لخير الإنسان.
ونحن لا نريد لمثقفنا أنْ يكون ''يانوس'' إله البوابات الزمنية لدي الرّومان، تقول الأسطورة: ''إنّ ''يانوس'' كان يحرس بواباتِ روما وأقواسَها، وَصُوِّر فنيّاً علي هيئة رجلٍ بوجهين، ينظر كلّ وجهٍ لناحية''!
فهل من التعقل، أن يشبه أحد من مثقفي وكتّاب الوطن العربي ''يانوس'' صاحب الوجهين المُوَارَبَيْن؟! ومثل ''بعضهم'' بذلك مثل كثير من المسلسلات التلفزيونية التركية الأرْدوغانيّة، ذات الحلقات المئوية التي تملأ بأسفٍ بالغ شاشاتنا العربية، ممّا ينهض علي التفاهة والجهالة وتضييع أوقات العباد والبلاد سَرَاباً، وهذا نِتاج لما تروّجه جائِحة ''العوْلمة'' من تسليعٍ جائرٍ ظالمٍ لكلّ شيء، ومن إفقارٍ روحيّ حقيقيّ لبني آدم من أهل ''الديرَة والوطن'' وسواهم.. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر!
اليوم، لم يعد ثمة وقت للتسكع ثقافة أو فكراً.. ولا حتي في المقاهي وعلي الأرصفة، ولم يعد ثمة جدوي لمراكمة المزيد من الثقافات والمعارف فوق ما تراكم منها ويكاد أن يتعفن، ولم يعد ثمة هوامش وأرصفة ومقاهٍ للحياد أو الصمت.. واستخدام حاسة النظر فحسب في تأريخ ما يجري وتسجيل وقائعه كما لو أنه يدور في بلاد الواق الواق، لا وقت لحياد المؤرخ ولا لحكمة الفيلسوف ولا لعزلة المتصوف الزاهد، يمنع كل من انتخب نفسه أو انتخبه الآخرون مثقفاً من أن ينخرط غوصاً حتي أذنيه في نقاش حول ما يجري وحوار حوله، بخاصة أن موضوعة النقاش والحوار إياه هي الأوطان، وبكل ما تعنيه هذه الموضوعة من فلسفة أن نكون جميعاً أو لا نكون.. جميعاً أيضاً.
فثمة لحظات فقط لمحاكمة عقلية يجريها كل منكم بينه وبين ذاته، بين أن يكون مثقفاً عضوياً ملتزماً، مبدعاً ورائداً ومبادراً.. وبين أن يتحول إلي قرص مضغوط علي رف مهمل ومغبر أو في جهاز كمبيوتر لا يجيد سوي اللغو والتكرار.. والاجترار!
فثمة لحظات فقط ليصوب كل منكم المفاهيم والرؤي، فلا تعود الثورة فوضي من دم وركام بل حياة جديدة متجددة، ولا تعود الديمقراطية صناديق وطوابير وأوراقاً بيضاء بل وعياً وسلوكاً أولاً، ولا يعود الوطن سوق بازارات ومساومات بل حرية وسيادة واستقلالاً!
منْ هنا، أريدُ أنْ أسألَ سؤالاً صغيراً: لماذا تقدَّمَتْ الشعوب العربية من الناسِ العاديّين، في الأزمةِ التي يعيشها الوطن العربي، وكانتْ فاعلةً في الواقعِ ومؤثِرَةً علي الأرضِ ومدويةً في الفضاءِ، وكانتْ عاملاً حاسماً في تحديدِ مُرتسماتِ الواقعِ وإشاراتِهِ، بينما تأخرَ فعلُ المثقف. لماذا؟.
وعنْ أيِّ مثقفٍ تبحثُ الناسُ، اليوم؟ هل تبحثُ الناسُ عن المثقفِ الدَّجّال الذي صارَ الوطنُ لديه وجهة نظرٍ يُمكنُ المساومة فيها وعليها؟ أم المثقف التّاجر الذي يعرف منْ أينَ تُؤكَل الكتفُ فيشتري بإسمِ الدّين ويبيعُ بإسمِ الوطن؟. أم المثقف المتغطرس الباحث عن التصفيقِ الخارجي ويدّعي في كلِّ مرّة أنّ الحقيقةَ ملكُ يمينِهِ؟ أم تبحثُ النّاس عنِ المثقفِ الإقصائي الإلغائي أو المتناقض المهزوز الّذي يخلط بين ما هو خاص وعام في كل من الوطني والقومي؟
أم المثقف الكذاب الذي هو ضدّ الإسلامِ السّياسي مرّةً ومع الإسلامِ السّياسي دفعةً واحدة؟ أم تبحث عنِ المثقفِ المُراوِغِ الذي يري في استنساخِ الحالةِ الليبيةِ في باقي الدول العربية ضرورة وفي استجرارِ تدخلٍ خارجي مهمّة أوكلها له التاريخ و الشّعب معاً؟ أم تبحثُ عن ذلك المثقف الذي يقولُ في نهارِهِ أقوالَ النواميسِ ويفعلُ في ليلِهِ أفعالَ الجواميس؟ عنْ أيّ مثقفٍ تبحث النّاس؟.
أسئلة ملحّة وحادة تتقدّمُ وتشق مجراها وتأخذ طريقَها للظهورِ في خضمِّ الأزماتِ الكبيرةِ للأمّةِ والتحوّلاتِ الهامّةِ والإنعطافاتِ الحادّةِ والمصيريةِ، وتصبحُ إشكاليّةً في ظلِّ التبايناتِ المُريبةِ في خطابِ المثقفِ ورؤيتِه للأزمةِ والإختلافاتِ المحتدمَةِ في أنماطِ التفكيرِ وتعدّدِ مراجعِ الفكرِ وتنوّعِ مصادرِ المعرفة ومنابعِها.
وأسأل بعض المدّاحين المثقفين في هذا الزمن العربي البئيس، الذي أصبح الكذب فيه مدخلاً لغزو القلوب، واستمالة النفوس، وحرف العقول عن مسار التفكير الصحيح، فيما إذا كانت قيمة المكاسب التي ينالونها من ممدوحيهم تعادل عشر معشار ما يقولونه فيهم.. !
وطبعاً هم لا يمدحون حباً وإعجاباً، ولا وفاء واحتساباً، وكلنا يعرف أنهم المنقلبون يوم تنقلب الأيام وتميل كفة الزمن، وأن الباقين علي الوداد أولئك الذين لا يتقنون فن التملق والخداع، ولا يعرفون صيغ المبالغة والتفخيم، المؤمنون بأن أعذب الكلام وأصدقه هو الذي لم يقل بعد، وأن أنبل العواطف أكثرها بعداً عن الابتذال والنفاق، وأكمنها في القلوب والنفوس، الثابتون علي المباديء الذين لا يقبلون إذا أقبل الدهر، ولا بدبرون إذا أدبر، القائلون الحق عندما يتعذر قوله، المنصفون إذا حكموا، الصادقون إذا سئلوا، الثائرون إذا ظلموا، الصائنون لما عاهدوا، المؤتمنون علي ما أسرّوا، الناصحون إذا استنصحوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.