تابعت قبل عيد الأضحي المبادرة التي طرحها د.أحمد كمال أبوالمجد، وقال إنها تهدف إلي تحقيق التوافق الوطني، ولأن 'العيد فرحة تجمع شمل قريب وبعيد' علي رأي الفنانة القديرة صفاء أبوالسعود، ولأن 'السن له أحكام'، قلت لنفسي من حق د.أبوالمجد أن يوهم نفسه بأنه يقدم لمصر خدمة عظيمة، ويلعب دورًا وطنيًا كبيرًا بهذه المبادرة، خصوصًا أننا نعيش أجواء احتفالات أكتوبر، والتليفزيون المصري يذيع أغنيات وطنية ومشاهد من 'العمر لحظة' و'رأفت الهجان' و'دموع في عيون وقحة'.قلت لنفسي.. لا توجد مشكلة أن يطرح د.أبوالمجد مثل هذه المبادرة ليشعر بينه وبين نفسه أنه لم يُقصر في حق وطنه وأنه حاول إنقاذ البلاد حتي اللحظة الأخيرة!!.. وهو ما سيمنحه الفرصة لأن يجلس بين أحفاده وتلاميذه أو يَظهر علي شاشات الفضائيات ويقول: 'الوضع خطير، لقد حذرت، لقد أكدت، لقد تحدثت، لقد حاولت،...'.. ويمنح أيضًا أحفاده وتلاميذه أو مقدمي البرامج الفرصة لتطييب خاطره: 'لو كانوا استمعوا لك، لو كانوا وافقوا علي مبادرتك، لو...لو...'، وهكذا. كنت أعرف أن د.أبوالمجد يحتاج إلي ذلك.. خصوصًا أن موقفه من ثورة 30 يونية، ومواقفه أيام حكم المعزول كانت متخاذلة لحد كبير وخصمت من رصيده 'لعلكم تذكرون موقفه من الإعلان الدستوري المكمل، ومساندته القانونية لعودة مجلس الشعب بعد حله، في تحد للمحكمة الدستورية العليا'، وهو ما يدفعه الآن لمحاولة غسيل سمعته بمسحوق المبادرات الذي يغسل أكثر بياضًا. إلي هنا في تقديري كانت الأمور طبيعية، فمنذ فض اعتصام 'رابعة العدوية' ونحن نسمع عن هذه المبادرات.. من البرادعي إلي زياد بهاء الدين، ومن محمد حسان إلي سليم العوا، ومن كاثرين آشتون إلي جون ماكين.. وكما كنا نسمع، نعرف أيضًا أن مصيرها المحتوم إلي سلال المهملات. فأي عاقل يُدرك جيدًا أن هذه المبادرات لن يُكتب لها النجاح، فخروج الإخوان من المعادلة السياسية وربما التاريخ لم يأت بقرار سلطة حاكمة، وإنما لفظهم الشعب المصري وأسقطهم من حساباته، ولم يكن ذلك نتيجة إخفاق الإخوان في إدارة شئون البلاد، لكن لأنهم كشفوا عن وجههم القبيح، وعرف المصريون أنهم جماعة غير وطنية، ولاءاتها غير ولاءات الدولة المصرية، وانتماؤها لمصالحها يتعارض مع المصلحة الوطنية.. وفوق هذا وذاك فإن اندماجهم من جديد في الحياة السياسية لا يعبر عن رغبة شعبية أو أهداف وطنية وإنما رغبة أمريكية غربية. فالمصريون لن يقبلوا بعودة هذه الجماعة مرة أخري، ولن يتصالحوا في الدم، ولن يفرطوا في حقوق أبنائهم الذين سالت دماؤهم بعد 25 يناير بداية من موقعة الجمل إلي مذبحتي رفح الأولي والثانية وغيرها من الجرائم التي ما زالت تجري وقائعها حتي الآن.. ولن يتصالحوا في الخيانة، والتفريط في الأرض.. وأنا هنا لا أتحدث عن المخدوعين من المصريين البسطاء فهؤلاء سيفهمون عاجلا أم آجلا أين كانوا يقفون. لكن يبدو أن د.أبوالمجد صدَّق نفسه، وعاش الدور أكثر من اللازم، وأسهم في ذلك موقف الحكومة غير الواضح، أو المائع، فراح أبوالمجد يمهل الإخوان فرصة للتفكير والموافقة علي خارطة الطريق، وراح يهاجم معارضي المبادرة ويصفهم بأنهم 'كلامنجية'، ولا يصلحون للعمل السياسي.. وراح يعلن أنه سيحصل علي موافقة الإخوان ليذهب بعد ذلك لقيادات القوات المسلحة!!.. ويا 'بخت من وفق راسين في الحلال'. وهو ما تلقفته بعض الأطراف في الداخل والخارج وراحت تبني عليه.. تضيف وتحذف وتنسج سيناريوهات وتقترح حلولا.. لتخلق حالة تفاوضية وكأننا أمام طرفين، تخيلوا.. هؤلاء الواهمون يضعون مصر في كفة وجماعة إرهابية في كفة أخري.. فهذا يطالب الإخوان بالكف عن مساعي تدويل قضية فض اعتصام 'رابعة العدوية' والتلويح باللجوء لمحكمة الجنايات الدولية حتي لا يقطعوا الطريق علي مساعي الصُلح، وهذا يطالب الدولة بالإفراج عن 'المعتقلين!!' لإبداء حسن النية، وذاك يؤكد أن تعليق المعونة يهدف للضغط علي النظام الحاكم للقبول بالمصالحة.. وآخر يعلن عن انفراج الأوضاع قريبًا. وفي الوقت الذي لم تعلن فيه حكومة د.الببلاوي أو يعلن مستشارو الرئيس المؤقت موقفًا واضحًا من المبادرة وإن كان أصحاب الهوي الأمريكي داخل الحكومة أو السلطة الانتقالية يرحبون بالمصالحة تلميحًا لا تصريحًا أعلن الإخوان أو ما يسمونه ب'تحالف دعم الشرعية!' رفض مبادرة د.أبوالمجد بوصفها تنحاز للسلطة الانتقالية وتصب في اتجاه تنفيذ خارطة المستقبل التي فرضتها ثورة 30 يونية، مع وجود بعض المبادرات أو بالأحري المماحكات التي تبدو من تصريحات بعض المنتمين للتيار المتأسلم ليدخل علي الخط عبود الزمر وغيره. وبين هذا وذاك يراقب الشارع المصري ما يجري حوله علي الساحة السياسية ساخرًا.. فالنظام الانتقالي لا يملك الحق في الموافقة علي مثل هذه المبادرات، خصوصًا أنه اكتسب شرعية وجوده في الحكم من كونه معبرًا عن رغبة الملايين التي خرجت للشوارع ترفض تنظيم الإخوان وتهتف 'يسقط.. يسقط.. حكم المرشد'.. كما أن مروجي المبادرات ومع تقديرنا لشخوصهم ليس لهم وزن حقيقي في الشارع بل ينظر لهم الناس بوصفهم 'أرزقية سياسة'. فالدكتور أبوالمجد علي سبيل المثال ومع تقديرنا لشخصه كان قريبًا من الأنظمة المتعاقبة في مصر ولم يُضبط يومًا معارضًا لأي من هذه الأنظمة رغم تناقضها. ورغم أن الشعب المصري هو صاحب القرار الوحيد في مسألة المصالحة، تسقط دومًا الجماهير من حسابات السادة مدعي الحكمة أو مروجي المبادرات الذين يتعاملون مع الأمر كما لو كانوا يُصلحون بين زوج وزوجته، أو جار وجاره، أو تحركهم انتماءاتهم السابقة للإخوان مثل د.أبوالمجد الذي دفعه الحنين إلي الماضي لمحاولة الحفاظ علي التنظيم حتي ولو علي حساب الوطن. وأنا هنا لن أناقش المبادرة الساذجة أو المغرضة، لا فرق ولكن أقول للدكتور أبوالمجد تقديرًا لتاريخه: لقد وضعت نفسك دون أن تدري أو ربما تدري في خانة ما كان يجب أن تضع نفسك فيها، في هذه السن المتقدمة وبعد هذا التاريخ السياسي الطويل، خاصة أن عودة تنظيم الإخوان إلي المعادلة السياسية يمنح الجماعة فرصة أخري ولو بعد حين لتنفيذ المخططات الغربيةالأمريكية في المنطقة.. وهو ما يفسر المحاولات الأمريكية المستميتة لدمج الإخوان من جديد في المعادلة السياسية في مصر، فبقاء التنظيم يعني بقاء المخطط قائمًا. لقد نسي د.أبوالمجد أو تناسي أن المشكلة ليست صراعًا بين فصيل سياسي ونظام حكم، كما يحاولون أن يقنعوا الناس، لكنها تعدت ذلك بكثير لتصبح معركة وطن يحاول أن يتخلص من براثن التبعية لأمريكا.. وطن يحمي نفسه من ويلات التقسيم و'سايكس - بيكو' جديدة علي أساس عرقي ومذهبي وطائفي. نسي د.أبوالمجد أو تناسي وأتمني ألا تخرج المسألة عن كونها نسيانًا أو سوء فهم أن الوطن العربي أو بالأحري الشرق الأوسط أمام مشروعين.. الأول: 'أمريكي تركي صهيوني قطري' يحظي برضا أوربي، يلعب فيه تنظيم الإخوان دور رأس الحربة ويهدف لتقسيم المنطقة إلي ولايات تحت حكم 'الأغاوات' في تركيا، ولن يكون ذلك إلا بتدمير الجيش المصري أكبر الجيوش العربية والعقبة الأقوي أمام هذا المشروع. والثاني: مشروع 'مصري سعودي إماراتي' يحظي برضا روسي صيني يريد استقرار الأوضاع علي ما هي عليه وفق 'سايكس- بيكو' القديمة ولن يتحقق ذلك إلا بمساندة الجيش المصري وبقائه متماسكا، وهو ما يفسر الموقف السعودي الخليجي باستثناء قطر طبعًا الداعم لثورة 30 يونية والمساعدات الاقتصادية والسياسية غير المحدودة وغير المشروطة التي قدمتها وتقدمها هذه الدول لمساندة مصر. لقد نسي أبوالمجد أو تناسي أن المسألة تجاوزت تنظيم الإخوان ونظام الحكم الانتقالي في مصر وأن المعركة في حقيقتها معركة استقلال وطني يخوضها الشعب المصري بدعم عربي.. معركة لكسر الإرادة الأمريكية وتحطيم مخططاتها في الشرق الأوسط. نسي أبوالمجد أو تناسي أن تنظيم الإخوان لا يملك من أمره شيئا فهو مجرد أداة لخلخلة الأنظمة العربية التي تقف أمام مخطط التقسيم.. ليس أكثر من سلاح في يد الولاياتالمتحدةالأمريكية تلوح به للإدارة المصرية الجديدة لإعادتها مرة أخري إلي الحظيرة، وكسر أنف المصريين الذين قالوا لا في وجه المخططات الغربية. يا د.أبوالمجد.. المعركة دارت رحاها يوم خرج الملايين إلي الشوارع في 30 يونية و3 و26 يوليو، ومازالت محتدمة ولن تنتهي إلا بإقرار مشروع علي حساب آخر، فإما أن تبقي 'سايكس- بيكو' القديمة وإما أن يتحول الوطن العربي إلي دويلات صغيرة متناحرة، وأمامنا نماذج العراق و ليبيا والسودان.. المعركة قائمة يا فقيهنا القانوني والدستوري، والحياد في المعارك يضعك كما قلت في خانة لا نحب أن تضع نفسك فيها. ولن أقول الحياد في المعارك خيانة.