بينما يتطلع الشعب العربي في مصر إلي إعادة صياغة مجتمعه بعد ثورة الثلاثين من يونيو، علي أسس جديدة من تأكيد الحقوق والحريات وتحديد الواجبات والمسؤوليات، خصوصاً بعد الحراك الثوري الشعبي الوطني والتغيير الديمقراطي مرتين في ثورتين في ثلاثة أعوام فقط، بما ليس مسبوقا في التاريخ الحديث.. تتوالي الإشارات بأن هذه الإرادة الشعبية المشروعة في التغيير، بشرط سلميتها، نحو مزيد من الحرية والتنمية والعدالة والوحدة، تتوازي معها إرادة غربية خارجية بأدوات داخلية مضادة لا شعبية ولا مشروعة، تحاول تغيير الهوية من التعريب إلي التغريب، وفرض التبعية لا الحرية، والتخلف بدل التنمية.. والظلم الاقتصادي والاجتماعي بدلاً من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والانقسام والفوضي بدلاً من الوحدة الوطنية والقومية، سعياً لإعادة إخضاع الدول العربية والإسلامية لسيطرتها. وفي الطريق إلي المستقبل، وفق' خارطة المستقبل ' التي أجمعت عليها غالبية القوي الوطنية والسياسية والدينية، يثور الجدال، في أوساط النخب الثقافية والسياسيةالمصرية، من جديد حول مسألة الهوية الوطنية وصياغة الدستور، ونشأ بهذا الجدال تناقض مفتعل بين الرؤي الجزئية للتيارات الرئيسية الأربعة الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية.. وانعكس ذلك علي بعض أعمال لجنة صياغة مشروع الدستور، بين الانتماء الوطني والانتماء القومي تارة، وبين الانتماء العربي والانتماء الإسلامي تارة أخري.، وأيضا حول التواصل في تاريخ الثورة المصرية الواحدة، ومراحل التاريخ الوطني، خصوصا حول النص علي دور ثورة 23 يوليو الأم كمصدر إلهام لثورتي يناير ويونيو في انتداد واحد متكامل ! في حين أن روابط التاريخ والجغرافيا وروابط الآلام والآمال المشتركة، وروابط الوحدة في المستقبل والمصير بين شعوب هذه الأمة الواحدة، لا تجعل هناك تناقضاً بين الوطنية والقومية العربية، ولا بين الهوية الثقافية العربية والحضارة الإسلامية. فالوطن هو الأرض الحاضنة لكل المواطنين علي اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية والسياسية، والوطنية القائمة علي حقوق المواطنة هي الحل لمشكلة التمايز بين المواطنين.. والقومية هي الحل لمشكلة الأقليات الدينية، وهي الرابطة الحاضنة للمسلم والمسيحي وللسني والشيعي.. والانتماء للأمة الإسلامية هو الحل لمشكلة الأقليات القومية، وهو الضامن لإقامة 'الدولة العادلة' الحامية لحقوق الأقليات الدينية السماوية، وللمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات بلا تمييز، علي قاعدة 'لهم ما لنا وعليهم ما علينا ''. هذا الجدال النخبوي المعزول عن التيار الشعبي العربي العام، عبر عن نفسه بصراع فكري واستقطاب سياسي في المجتمعات العربية، حول ثنائيات متضادة جلها مفتعلة حول العلاقة بين الدين والدولة وشكل نظام الحكم، وهي امتداد للصراع بين التيارات والأحزاب القديمة، التي أضافت لها اختلالات وتناقضات الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وحراك التغيير الشعبي العربي، عناصر اشتعال إضافية وصلت بحدة الاستقطاب الفكري والسياسي إلي ما يشبه المعركة الأهلية الفكرية والمذهبية !! لكن معارك هذه التيارات بفوضي المصطلحات حول علاقة الدين بالدولة، يمكن لها بالحوار الوطني الموضوعي الجاد، أن تلتقي علي رؤي توافقية مشتركة، ذلك أن ما يجمع شعوب أوطاننا وأمتنا من الجوامع المشتركة أكثر مما يفرقها، وهذا ما ثبت بالفعل في الحوار النموذج الذي جري في مصر في رحاب الأزهر الشريف، بين مختلف الأطياف الفكرية المصرية الإسلامية والمسيحية والعلمانية والليبرالية واليسارية والقومية، والخروج في النهاية ب'وثيقة الأزهر' حول صيغة 'الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة'. وحتي مع اختلاف هذه التيارات في صراعها علي السلطة وحول الخيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تبقي ثلاث حقائق مهمة، الأولي، أن أي مجتمع عربي أو إسلامي محكوم بالتوافق بالطبيعة وبالضرورة وبالمصلحة معا . والثانية، هي أنه لا يمكن لأي حزب أو تيار بمفرده حكم مجتمع متنوع بهذه الصورة وبهذا الحجم. والثالثة، أن ما يبدو خلافاً حاداً بين هذه التيارات، في الواقع فيه من عناصر الائتلاف أكثر من عوامل الاختلاف، خصوصاً إذا تم بروح التوافق نزع تلك المصطلحات المثيرة للجدل، مثل مصطلح 'الدولة الدينية' المستورد من سياق عصور الظلام الأوروبية، وليس من عصور الحضارة الإسلامية، أو.أو مصطلح 'الدولة المدنية' الذي لا محتوي فكري ولا قانوني له.إذ أن الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية لايمكن أن توصف بدولة مدنية ولاعسكرية، حكومتها فقط هي التي يمكن ان توصف بحكومة مدنية أو عسكرية، وبالتالي فلا معني لوصف الدولة المصرية في الدستور الجديد بدولة مدنيةلأنه لايعني شيء محدد. وهنا يمكننا الحديث عن ' دولة عادلة ' لا دولة ظالمة، وعن دولة ديمقراطية لا دولة دكتاتورية، وعن سلطة مدنية لا دولة مدنية، وبالتالي عن دولة وطنية ذات سلطة مدنية، دينها الاسلام، والشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع ونظامها جمهوري ديمقراطي، تقوم علي العدالة في جميع المجالات ولكل التيارات والفئات والمواطنين، مع ملاحظة أنه حتي في حالة التعامل مع مصطلح 'الدولة الإسلامية' فإنه ليس مرادفاً بأي حال لمصطلح 'الدولة الدينية'، فالدولة الإسلامية عبر التاريخ كانت ذات طبيعة مدنية، غير عسكرية ولا كهنوتية.. ولقد نشأ عن ذلك الصراع القديم المتجدد، هذا العراك الجديد المتعدد الذي نشهده حالياً علي وقع الحراك الثوري الشعبي في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وهذا التناقض المفتعل بين الدين والعلم، أو بين الدين والسياسة، أو بين الدين والدولة، أو حتي بين الدين والحياة. بينما جوهر الرسالات الدينية في الحقيقة لا يتصادم بطبيعته مع حقائق الحياة ولا يتناقض مع إرادة الشعوب في الحق والخبز والعدل والحرية، بل 'إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته'، كما أوضح ميثاق ثورة 23 يوليو مؤكداً 'إن حرية العقيدة الدينية يجب أن تكون لها قداستها في حياتنا الجديدة الحرة'. بل إن أهم ضمانات العمل الوطني والثوري، كما أكدها جمال عبد الناصر قائد ثورة يوليو المصرية في تقديمه للميثاق الوطني. هو 'إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله، ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدي إلي الإنسان في كل زمان ومكان'، ما يدل علي ألا تناقض بين الثورية والتدين. إن الطريق إلي المستقبل يتسع للجميع، ويتطلب مشاركة الجميع في بناء الدولة العادلة القوية، التي تترجم الإرادة الشعبية وتفرض سيادة القانون علي جميع المواطنين، بعدالة ومساواة ودون تمييز. وذلك لا يتم إلا بالحوار الديمقراطي، وبالتوازن وبالواقعية والصياغة التي تعكس روح التوافق ولاتثير الخلاف والتعبير عن الضمير الوطني لاالضمير السياسي، وعن الضمير الشعبي لا التوجه الحزبي في الطرح والاحترام المتبادل للاجتهادات المختلفة، وصولاً إلي 'ميثاق وطني جديد' برؤية توافقية مشتركة يكون أساسا لصياغة الدستور الجديد للثورة بداية من ثورة يوليو، ومرورا بثورة يناير، ونهاية بثورة يونيو..