التوجه القومي والاشتراكي.. أفق مفتوح قامت (ثورة 25 يناير) في جمهورية مصر العربية علي أكتاف جماعة الشباب، من الجيل الجديد الذي لم "يتكيف" مع واقع المجتمع الفاسد، والمرتكز فساده إلي النظام السياسي "التسلطي" خلال الأربعين عاماً الأخيرة.. وهكذا فإن "القوة المفجرة" للثورة هي تلك القوة التي لم يكن النظام السياسي قد قام بتدجينها، لضيق المساحة الزمنية المتاحة في مواجهة جيل "صغير السن" نسبياً. أما التأييد "المجتمعي" أو "الشعبي" الواسع للثورة بعد تفجرها فقد جاء علي حين غرة من "جموع الحشد" التي طال تكيفها وتدجينها علي مدي العقود الأربعة لفترة السادات - مبارك (1971-2011). لم يكن لدي القوة الشبابية المفجرة للثورة مقومات فكرية وتنظيمية تسمح لها باستكمال عملية الثورة حتي تمامها المفترض. فمن جهة أولي، من الناحية الفكرية، لم تتوفر إيديولوجيا سياسية محددة ولا "نواة إيديولوجية" متبلورة لدي أولئك الشباب، عدا عن أفكار عامة تعكس حالة "الإحباط" التي ميزت السيكولوجيا السياسية للثائرين الساعين إلي تعويض ما شعروا به من فقدان الكرامة أمام طغيان المؤسسة الأمنية، ومن افتقاد فرص العمل وكسب الدخل الملائمة، وفرص تكوين "أسر زواجية" من ثم، أمام تغّول الطغمة المهيمنة علي النشاط الاقتصادي السائد. وتعكس تلك الأفكار في نهاية المطاف حالة "الاستلاب" أو "الاغتراب" alienation التي طالما تحدثت بها طلائع أجيال ثائرة سبقت علي درب التمرد السياسي والاجتماعي المجيد في عقد الستينيات من القرن المنصرم. ومن الجهة الثانية، في الناحية التنظيمية، لم تتوفر أداة أو أدوات متماسكة تنظيميا ذات قيادة معترف بها، رغم توفر القدرة علي التعبئة العملياتية الواسعة جداً باستخدام شبكات "التواصل الاجتماعي" الإنترنتي، إلي حدود الدفع المنظم بمئات الآلاف إلي حافة مليونية في مناسبات عدة. ونظراً للفقر الفكري والتنظيمي للطليعة الشبابية الثائرة، فقد سارت الأحداث باتجاه خضوع العملية الثورية لفاعلية قوانين الحركة الاجتماعية، حيث يهيمن الأوضح فكراً، والأقوي تنظيما علي دفة توجيه مسار الأحداث الفعلية باتجاه المستقبل في الأجل القريب والمتوسط علي الأقل، وهذا ما يعبر عنه في الحديث السائر باختطاف الثورة. وإذا استخدمنا هذا التعبير الجاري، فإنه يمكن القول بأنه تم (اختطاف) الثورة من قبل تيارين عريضين، اصطلح علي تسميتهما بالتيار الليبرالي والتيار الاسلامي. ويقصد بالتيار الليبرالي في مصر الآن، ذلك التيار الذي يجعل القيمة السياسية العليا Top value لديه هي قيمة "الحرية" ومعها "المساواة القانونية"، وفق تفسير انتقائي معين لبعض المفاهيم المنتشرة في الفكر السياسي الغربي السائد، كما عبرت عنه، بصفة خاصة، أنشطة ومنشورات المنظمات الدولية ذات الصلة، حكومية وغير حكومية، وفي مقدمتها منظمات الأممالمتحدة، كبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان وممارسة الانتخابات في دول الاتحاد الأوربي بصفة خاصة. وينتشر في أنشطة هذا الوسط استخدام مصطلحات معينة تعكس تسلسل منظومة القيم السياسية الافتراضية، مثل "المواطنة" و "الدولة المدنية" و "تداول السلطة". أما التيار الآخر المهيمن علي الفعل في ساحة "الثورة" الآن، فهو التيار السياسي الإسلامي، والذي يضم في إطاره العريض تيارات فرعية أهمها الإخوان المسلمون، و ما صار يعرف بالتيار السلفي، وأخيراً التيار الصوفي، إن صح اعتباره تياراً سياسياً، أصلاً. ويبقي المشهد السياسي الإسلامي في مصر محكوما في التحليل الأخير بالثنائية "الإخوانية - السلفية". وبرغم الاختلافات الفكرية بين ممثلي التيارين الفرعيين ل "الإخوان" و "السلف"، فإن هناك قاسماً إيديولوجيا مشتركاً بينهما، يتمثل في الدعوة إلي استعادة الدور الخاص للدين الإسلامي في التوجيه المجتمعي عامة، والسوسيولوجي - الثقافي خاصة، مع تباين يعكسه ما يمكن أن نعبر عنه بأولوية "أسلمة المجتمع" لدي التيار السلفي، و "إضفاء الطابع الإسلامي" علي الحياة الاجتماعية لدي "الإخوان المسلمين". ويبدو أن الوزن النسبي لكل من التيار الليبرالي والتيار السياسي الإسلامي، متقارب نسبيا علي صعيد النخبة السياسية والصفوة الثقافية العليا (الإنتلجنسيا) بينما تظهر الغلبة النسبية للتيار الثاني في مواجهة الأول علي الصعيد "الشعبي" العام، بما فيه الصفوة الثقافية ذات المستوي المتوسط، وما دونها. ورغم الضعف النسبي لليبراليين، في المجتمع السياسي، فإنهم أكثر وضوحاً وأعلي صوتاً، في مضمار الشعار السياسي الممثل للمهمة الرئيسية للمرحلة الانتقالية القادمة، وهو شعار "التحول الديمقراطي" أو "الانتقال الديمقراطي"، ومن خلال الآلية الانتخابية أساساً. وقد يتفق "الإسلاميون" أو "الاسلامويون" مع هذا الشعار في المجال السياسي، ولكنه لا يعبر عن جوهر توجهاتهم الفكرية، وهم لا يقدمون بديلاً واضحاً يتمتع بذات الجاذبية الحركية والتماسك الفكري، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن "المادة الثانية" من الدستور السابق، لعام 1971، والإعلان الدستوري الصادر عقب الثورة، بمثابة تحديد للمهمة الرئيسية للمرحلة الانتقالية : تهيئة المجتمع لتطبيق مبادئ الشريعة الاسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع. وفي مجال التشابك والاشتباك السياسي والمجتمعي، فإن التيارين الليبرالي والاسلامي يربط بينهما علي صعيد الفكر والحركة، ما يفرقهما معاً عن تيار ثالث غائب ذاتيا أو مغيب موضوعياً، إلي حد معين، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (التيار الوطني - القومي التقدمي)، والمكون من فصائل اليسار الاشتراكي والعروبي، حيث القيمة السياسية العليا مركبة من شقين : العدالة، والهوية العربية، علي اختلاف في نظام الترتيب ranking أو (التراتبية) Hierarchy بين كل من الفصيل الاشتراكي والفصيل العروبي :إذ تسبق العدالة كل ما عداها لدي الأول، وتتكافأ العدالة والهوية العربية دون أسبقية موضوعية وزمنية لأيهما علي الآخر، لدي الفصيل الثاني، العروبي. الجذور التاريخية للاستقطاب السياسي الراهن تجدر الإشارة، في هذا السياق، الي أن ظاهرة هيمنة ثنائية " الإسلاميين - الليبراليين " علي المسرح السياسي، والانزواء النسبي للتيار الوطني والقومي التقدمي، ليست مقصورة علي الساحة المصرية، بل تعم الساحة العربية كلها، كما يتجلي في البلدان التي تفجرت فيها موجات الغضب والانتفاض بصورة جذرية حتي الآن ( تونس - مصر - اليمن - البحرين - ليببا - سوريا ). ولعل السؤال الرئيسي الذي يتبادر الي الأذهان في هذا الصدد هو " ما العلة ؟ ويمكن أن نجيب بالعودة الي شيء من الجذور. ففي واقع "ما بعد الاستعمار "، داخل النطاق الإفريقي- الآسيوي، عقب الحرب العالمية الثانية، لم يكن الاستعمار ليخلف في الحياة الاجتماعية من قوة منظمة قادرة علي تسيير دفّة السلطة، سوي تلك القوي التي ارتبطت بها خلال الحقبة الاستعمارية مهمة المشاركة في حفظ الأمن، أي قوة ممارسة العنف المنظم، الآلة العسكرية - البوليسية، أو الجيش بصفة أساسية. ومن هنا اتكأت السلطة في البلدان المستقلة حديثا في الخمسيينيات والستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم،، إفريقيا و أسيوياً، علي العسكريين كعصب عضوي للدول الجديدة. وقد جاءت التحديات الماثلة بعد الاستقلال، منذ الخمسينيات إلي ثمانينيات القرن العشرين، ضمن البيئة الدولية الاستقطابية للحرب الباردة، لتكرس هيمنة النظم السياسية ذات العصب العسكري في عموم "العالم الثالث السابق". وكانت الدول الغربية، ممثلة في الولاياتالمتحدة ودول أوروبا الغربية، تهمين علي غالبية البلدان المستقلة حديثا، في المجالات الاقتصادية والسياسية العسكرية؛ وقد دعمت النظم ذات الطابع "الاستبدادي" في تلك البلدان، طالما حققت مصالحها في السيطرة علي إمدادات المواد الأولية والطاقة، وعلي معابر الجيو-استراتيجيا العالمية، تلك السيطرة التي كلفت الغرب "حروبا محدودة" طال أمدها في القارات الثلاث لإفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية، عبر محطات أبرزها ( كوريا - فيتنام - الجزائر - إفريقيا الجنوبية -كوبا ) ولما تبين مع مطالع السبعينيات والثمانينيات أن استمرار الحفاظ علي الأنظمة الاستبدادية في وجه التطلعات الشعبية، يقتضي من الغرب دفع ثمن باهظ، أخذت الدول الغربية تشجع نشوء نظم سياسة ذات طابع " تعددي" شكلا، مما يسمح باستيعاب النزعات المتعارضة، ضمن الإطار العام للحفاظ علي المصالح الغربية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وهكذا أنتجت الهيمنة الغربية في تلك القارات الثلاث نوعين من النظم -والنزعات- السياسية، منذ الثمانينيات حتي الآن: نظم "تسلطية"، بأشكال ومضامين متنوعة، كما هو الحال في معظم بلدان الوطن العربي (وخاصة في مصر وتونس والأردن وشبه الجزيرة العربية)- ثم نظم- نزعات- موسومة جزئيا بالليبرالية، كما جري لفترات متقطعة في عدد قليل من البلدان العربية الأخري. نفوذ الإسلاميين وكرد فعل علي الهيمنة الشاملة، ومعقباتها المأساوية علي صعيد محاولات تدمير جذور الهوية القومية- الروحية، تعاظم نفوذ التيارات والحركات السياسية الإسلامية أو" الإسلاموية "، والتي جعلت شعارها الرئيسي الضمني " الإسلام هو الحل". وهكذا تواجهت ثلاث قوي : قوة الأنظمة التسلطية، وقوة شرائح "ليبرالوية" متصالحة مع النفوذ الغربي بشكل عام، ومن أمامهما وخلفهما: تيارات سياسية دينية، ذات طابع "أصولي"، تنافح القوتين السابقين في معظم الفترات. تضاف إليها جميعا، قوة رابعة، متبقية من جردة النظام الدولي والإقليمي، في غمار نهايات الحرب الباردة بين الولاياتاالمتحدة والاتحاد السوفيتي، آخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات؛ تلك هي قوة أنظمة سياسية "وطنية"-كما في العراق وسوريا وليبيا، قد حاصرها العداء التقليدي من جانب الغرب، باعتبارها حليفة سابقة للسوفييت (والصين) وباعتبارها ذات رصيد متفاوت من مساعي مقاومة الهيمنة الغربيةوالأمريكية علي منابع النفط العربي، ومقاومة العدوانية المتوسعة للكيان الصهيوني إسرائيل. وقد تحصنت هذه الأنظمة السياسية في وجه البيئة الدولية والإقليمية المعادية لها، باحتكار كامل للسلطة، وتزايدت نزعتها التسلطية مع كل زيادة في منسوب العداوة من البيئة المحيطة، فاستحالت إلي نظم "استبدادية" عبر الزمن. ومن عجب، ان القوي الأربع السابقة كلها، قد أنتجت حركتها، من الناحية الموضوعية، توافقا غير مقصود، علي الحد من نفوذ (التيار الشعبي الوطني-القومي التقدمي)، أو ما يمكن أن نطلق عليه "اليسار الاشتراكي والعروبي". وظل الحال، في حقل الحراك السياسي العربي، علي هذا المنوال، حتي تفجّر موجات الغضب العظمي، خلال النصف الأول من عام 2011، فإذا بنا أمام خارطة سياسية عربية، تتسم بالملامح الآتية: 1-أنظمة تسلطية موالية للغرب، تتصدرها الأنظمة الحاكمة في كل من مصر و تونس والأردن وبلدان الخليج. 2- تيارات "ليبرالية" متصالحة موضوعيا مع الغرب، ومشتغلة في علاقة غير تناقضية تناقضا عدائيا مع الأنظمة السابقة. 3-تيارات سياسية إسلامية، تواجه عداء بصفة عامة من الأنظمة التسلطية ومن الغرب، وتواجه جفاء من الشرائح "الليبرالية". 4- أنظمة تسلطية، من نوع آخر، يبادرها الغرب بالعداء، أو تبادره هي بالعداء المتقطع، وتتعمق نزعتها التسلطية مع تفاقم البيئة العدائية من حولها. 5- تيار وطني-قومي تقدمي (اليسار الاشتراكي والعروبي) تتوافق القوي الأخري علي محاصرته وإضعافه، ويقف مجردا من مقومات القوة الذاتية الضرورية والكافية، في مواجهة المحيط العدائي المستحكم، طوال الأربعين عاما الأخيرة، منذ رحيل القائد المعتمد للحركة الوطنية-القومية التقدمية العربية، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد نكبة فلسطين: القائد جمال عبد الناصر. ...في إطار هذه الملامح للخارطة السياسية العربية، جاءت (ثورة) 25 يناير في مصر، ومعها سائر (الثورات) و(الاحتجاجات) في بلدان عربية أخري، لتعكس ملامح خارطة الحركة السياسية العربية، آنفة الذكر، فإذا بها ( ثورات ) و (احتجاجات) تهيمن عليها التيارات الإسلاميةو "الإسلاموية"، والتيارات الليبرالية و "الليبرالوية"، في مواجهة أنظمة سياسية تسلطية، بعضها تقليدي موالٍ للغرب، وبعضها الآخر، معادٍ للغرب وإسرائيل. ولكن الغائب-الحاضر، أمام هذا المشهد المعقد كله، هو التيار الوطني-القومي التقدمي.. فلا هو يمارس دوره المفترض في الحركية السياسية للانتفاضات والاحتجاجات، ولا التيارات الفاعلة ليبراليا وإسلاميا تذكر شعاراته في شيء: فلا التنمية والاستراتيجية التنموية من شعاراتها، ولا تأكيد الانتماء العروبي، ولا مواجهة النزعة العدوانية الأمريكية، او مواجهة عدوانية الوجود الصهيوني، من بين أولوياتها الراهنة. ولعل هذا هو سر مراوحة حركة ثورة 25 يناير، حول ذاتها، في غير تقدم موضوعي للأمام، نحو تطبيق الأولويات الوطنية-القومية التقدمية، وهو سرّ التركيز المبالغ فيه أحيانا كثيرة علي الجوانب التي يمكن وصفها ب "البروتوكولية" في العملية الكبري لمواجة شخوص ورموز النظام السابق. هذا هو سر مأزق (الثورة) باختصار. ولن يقدر للثورة أن تعثر علي موضوعها الحقيقي سوي بالتقدم باتجاه المستقبل العربي التنموي، كمخرج وحيد من المأزق المحيط. وليكن ذلك من خلال التأكيد علي الالتحام الموضوعي بثورة 23 يوليو وبمنهج الناصرية العربية في التحليل القومي والاجتماعي، استفادة من تراث الفكر القومي والاشتراكي، علي الصعيدين العربي والعالمي، دون ارتباط بممارسات محددة للنظام السياسي الرسمي في الدولة المصرية عبر الفترات المتعاقبة لثورة 23 يوليومن 1952 إلي 1970.