عقود عديدة ماضية، وتركيا حكومة وشعباً تحلم بانتزاع موقعها وتراثها وماضيها وحاضرها من آسيا والشرق الأوسط لتنضم إلي القارة الأوروبية، اعتماداً علي وجود بقعة أرض داخل الحدود التركية يمكن أن تنسب إلي أوروبا. عندما ألغي أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة الحروف التركية/ العربية/ الفارسية للغة التركية وأبدلها بالحروف اللاتينية ربما إعلاناً من جانبه عن قطع صلاته القديمة مع العرب والفرس حيث لم يجن الشعب التركي/ العثماني من تلك الصلات غير المزيد من التخلف، والجهل. وقطعت تركيا شوطاً طويلاً في الالتصاق بأوروبا والأوروبيين بصفة خاصة والتقرب من الشعوب والحضارات الغربية، بصفة عامة.. في الوقت الذي تنكرت فيه لماضيها الجاهلي، الاستعماري، الإستبدادي.. مع الدول والشعوب العربية التي احتلتها وحكمتها علي الطريقة العثمانية: بالحديد والنار. وزيادة من جانب تركيا في »التطهر« من ماضيها المثقل بكل الذنوب، لعل وعسي تتقبلها القارة الأوروبية كعضو في اتحاد دولها.. رأيناها تتباعد عن الدول العربية وتدخل في تحالفات معادية لهم، في حين أقامت علاقات متينة مع إسرائيل، ومع الإمبراطورية الإيرانية، لا لشيء إلاّ لأن الدولتين العبرية والفارسية كانتا آنذاك الحليفتين الرئيسيتين للولايات المتحدة في المنطقة، وتحظيان بالتالي بثقة ودعم أوروبا الغربية وقتذاك. وباءت كل الجهود التركية المبذولة من أجل الفوز بالعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي بالفشل علي الطريقة الدبلوماسية الأوروبية. بمعني أن طلب العضوية لم يرفض صراحة، وإنما ما يزال قيد الفحص والتمحيص، وخاضعاً للدراسة الدقيقة والمتأنية، تحت سمع وبصر جميع رؤساء دول الاتحاد البالغ عددها: 27 دولة! المهم أن عضوية تركيا تأخر قبولها كثيراً جداً، في حين أن العديد من دول أوروبا الشرقية حظيت بالعضوية الكاملة، والدائمة، رغم تأخرها في تقديم طلبات العضوية عن الطلب التركي! النظام الحاكم الحالي في أنقرة قرر منذ شهور أن يتعامل مع الأوروبيين بأسلوب »الترهيب والترغيب« كحل، ومخرج، للأتراك من »التسويف الاستهبالي« الذي يمارسه الأوروبيون منذ سنوات ولأجل غير مسمي! العبقرية السياسية لنظام: »جول/أردوجان« تمخضت عن التلويح أمام الأوروبيين بأن تركيا قررت العودة إلي جذورها التاريخية، الجغرافية، بعد غياب طويل، لأن قادتها اهتدوا أخيراً إلي حقيقة كانت غائبة عنهم وعن كل الحكومات التي سبقت حكومتهم. تتلخص تلك الحقيقة المكشوف عنها الحجاب في أمرين لا ثالث لهما. الأمر الأول: إقناع الشعوب العربية قبل حكوماتها بأن الأتراك هم أكثر شعوب العالم قاطبة تفهماً للقضايا العربية العالقة منذ عقود وقرون ماضية دون أن تجد حلاً. والدليل علي ذلك أن أنقرة قررت تقديم خدماتها للشعوب العربية بدءاً بتبنيها القضية الفلسطينية، وتحديد »جدول زمني« لحلها حلاً نهائياً، وعادلاً، ودائماً.. حتي لو اضطرت أنقرة إلي قطع علاقاتها مع إسرائيل، والتصعيد في خلافاتهما حتي حافة الهاوية. وليس مهماً حالياً تحديد عمق تلك الهاوية! والأمر الثاني: تدهور العلاقات الحميمية مع إسرائيل، سيكون رسالة تحذير شديدة اللهجة من أنقرة إلي مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، مفادها: إن تركيا قررت الاعتراف بانتسابها لهويتها الآسيوية، وارتباطاتها التاريخية العربية، وإحياء أصولها الإسلامية بالالتزام بمبدأ: »أنا وأخويا المسلم علي ابن عمي اليهودي«. ونفذت أنقرة كلا الأمرين. الشعوب العربية أيدت، وهللت، لتدفق النفوذ التركي علي بلادها، والترحيب أكثر بتبني أنقرة للقضايا العربية المصيرية علي رأسها حل القضية التي لا حل لها حتي الآن وأصبح رئيس الحكومة التركية »أردوجان« ، أو حتي رئيس جمهوريتها »جول« أشهر من نار علي علم في معظم العواصم العربية، وهو أمر لا أستبعد معه أن تسارع جماهيرنا العربية بحمل سيارة بداخلها »أردوجان« أو »جول« ورفعها عن الأرض.. كما سبق لجماهير دمشق حمل سيارة عبدالناصر احتفالاً بتحقيق الوحدة بين سوريا ومصر.. وهي نفس الجماهير التي غيرت رأيها فيما بعد ونددت بالوحدة، وهاجمت عبدالناصر! ويبدو أن الرسالة لم تصل إلي بروكسل. فلا رؤساء دول الاتحاد الأوروبي خافوا، وارتعبوا، من تهديدات أنقرة بالعودة إلي جذورها الإسلامية، السلفية، الفارسية، الآسيوية، العربية.. في الوقت نفسه الذي تهدد فيه بالمواجهة العسكرية مع إسرائيل لإرغامها علي حل القضية الفلسطينية بشروط »حركة حماس« الفلسطينية، وموافقة »حزب الله« اللبناني. تجاهل الأوروبيين لتهديدات أنقرة هو الذي أزعج أنقرة، وأرعبها.. بدلاً من حدوث العكس. وبالأمس.. قرأنا حديثاً لرئيس جمهورية الأتراك »عبدالله جول« نشر في صحيفة ال »تايمز«،اللندنية، نفي فيه بشدة أن لدي بلاده أي نوايا مبيتة تدعو أوروبا للريبة من التقارب التركي/ الشرق أوسطي! فتركيا كما أكد رئيسها »مستمرة حتي الرمق الأخير الوصف الأخير من عندي في تعزيز علاقاتها مع أوروبا لتحظي بعضوية اتحاد دولها باعتبار ذلك عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية التركية«. المهم في حديث الزعيم التركي/ »العربي« عبدالله جول أنه يطمئن الأوروبيين إلي إنه لا ضرر ولا ضرار بهم مع استمرار توغل النفوذ التركي الحالي داخل العواصم العربية. فليس صحيحاً أننا نبحث عن حلفاء جدد، فتركيا جزء من أوروبا. وعلي أمريكا وأوروبا أن ترحب بالتوجه التركي لإقامة علاقات قوية مع دول الشرق الأوسط لأن تركيا ستروج لمباديء الديمقراطية في تلك الدول التي تهيمن عليها »حكومات استبدادية«! ليتنا نسمع تعليقات ملوك ورؤساء دولنا العربية علي الوصف المهين الذي أطلقه الرئيس التركي علي الحكومات التي يترأسونها؟! إبراهيم سعده [email protected]