طلب الهجرة من البلد أي بلد حق من حقوق الإنسان. فهو وحده الذي يقرر البقاء في هذه الدولة أو تلك. وهو وحده أيضاً الذي يقدر، ويحدد، أين يمكنه العثور علي العمل الذي يناسب مؤهلاته، ويتحصل منه علي عائدات أدبية، وحياتية، ومادية.. أضعاف ما يتحصل عليه منها حالياً. لهذه الأسباب وغيرها.. فقد انتعشت هجرة العقول، والأيدي العاملة، من الدول المتأخرة، والمستعمرة، إلي الدول المتقدمة، ومن المجتمعات الجاهلية إلي المجتمعات العصرية. وكانت الفائدة مزدوجة. المهاجرون استفادوا من رفع مستوي معيشتهم، وجلب زوجاتهم أو خطيباتهم للإقامة معهم وإتاحة فرص نادرة لأولادهم وبناتهم للتعليم والتدريب ونيل الوظائف. موافقة حكومات الدول الأوروبية علي هجرة آلاف، وملايين، من مواطني الدول المتأخرة إليها، لم تكن رحمة بهم، ولا لزيادة أعدادهم.. وإنما لأنها كانت في حاجة أولاً، وثانياً، وحتي عاشراً إلي أيد عاملة رخيصة، وقادرة علي تحمل وتنفيذ ما يطلب منهم من أعمال ثقيلة، وخطيرة، ومرهقة.. لا يقبل مواطنوها القيام بها ولا حتي بأضعاف العائد الذي يقبله »العربي« أو »الأفريقي«،أو »الآسيوي« وغيرهم. المهاجرون البؤساء ينسب إليهم أنهم هم حقاً، وتاريخاً الذين تحملوا العبء الأكبر في تنمية أوروبا وتغيير صورتها في العصور الوسطي، إلي ما أصبحت عليه فيما بعد. المهاجرون الأشداء هم الذين مهدوا طرقها في كل مدينة وقرية. وحفروا الأنفاق العميقة داخل جبالها. ومدوا خطوط سككها الحديدية بآلاف الكيلومترات لتجوب قطاراتها في طول القارة وعرضها.. شمالها وجنوبها. وقاموا ببناء عماراتها، وشيدوا قصورها، وارتفعوا بما يحملونه فوق رؤوسهم وعلي أكتافهم من مواد وأثقال إلي أعلي أدوار ناطحات سحبها في أشهر أحياء وميادين مدنها الشهيرة. ونفس هؤلاء الأشداء هم الذين شاركوا في إدارة مصانعها، ومعاملها، وداخل مناجمها، وعلي سفوح جبالها، وقذفوا بالفحم والخشب بلا كلل، ولا دموع.. خلال ساعات الليل والنهار في أفران سفنها التجارية والسياحية حتي يستمر دوران ماكيناتها وتنطلق بأقصي سرعاتها لتجوب البحار والمحيطات. تغيرت أحوال الغالبية العظمي من المهاجرين، وقرروا بعد إقامة طويلة إمتدت لسنوات إلي طلب جنسيات الدول الأوروبية التي عاشوا بين شعوبها. وإذا دققنا في أوراق رسمية، ومتاحة علي النت، فقد ندهش من النسبة الكبيرة التي يمثلها الأوروبيون من أصول عربية، وأفريقية، وآسيوية. وتزداد الدهشة عندما نسمع عن أجيال عديدة من ذرية المهاجرين الأول، يعيشون حالياً في أوروبا الموحدة التي يحملون جنسياتها ويعاملهم القانون والدستور علي قدم المساواة مع غيرهم في الحقوق والواجبات. أوروبا وإن كانت شعوبها تدين بالديانة المسيحية، إلاّ أنها كانت حريصة علي احترامها لباقي الديانات، وترحب ببناء دور عبادة للبوذيين، والهندوس، وللذين لا دين ولا ملة محددة لهم! ولم يكن هذا غريباً، ولا عجيباً في الزمن الماضي، عندما كان شعار العلمانية الشهير: »الدين لله و الوطن للجميع«، ينعكس بقوة علي التعاملات والمعاملات اليومية بين متعددي الديانات في البلد الواحد. هذا مسيحي يتردد علي كنيسته، وذاك مسلم يصلي داخل مسجده، وثالث يهودي يتوجه ناحية معبده. الثلاثة يحملون جنسية واحدة. يتحدثون بلغتها. ويتشابهون في ملبسهم، كما يلتزمون وهم في طريقهم إلي مقار عملهم، وبعد وجودهم داخلها، بما تعارف المجتمع عليه من عادات، ومظاهر، وتعاملات.. فيما بينهم أو مع المترددين عليهم من العملاء. بعيداً عن الأماكن العامة، وخارج مقار العمل والعلم.. يستطيع أي مواطن أن يمارس »أسلوب حياة« يختلف في كثير أو قليل عن أسلوب الحياة المتعارف عليه في الشارع ومقر العمل ومكان تلقي العلم. وداخل المسكن الخاص، يمكنه أن يمارس أسلوب حياة يختلف عن الأول. في البداية.. لم يشكل »أسلوب الحياة الجديد« أدني مشكلة لدي الآخرين. فعندما بدأ بعض المسلمين في أوروبا وأمريكا يعلنون عن ديانتهم بمختلف المظاهر والرموز، لم يجد الآخرون في ذلك ما يضيرهم من قريب أو بعيد. بل بالعكس.. كان كثيرون يعتبرونه حقاً للمسلم أن يرتدي ما يراه زياً إسلامياً، مثلما عرفوه حقاً لليهودي أن يرتدي البدلة السوداء، ويغرق نصف رأسه تحت قبعة أشد سواداً، وتتدلي خصلات ملفوفة من شعر رأسه وشعر ذقنه لتصل إلي منتصف رقبته! ولا فارق في هذا بين »الزي الإسلامي« و »الزي اليهودي« و الملابس الغريبة والألوان المختلطة التي يذهب بها بعض الشباب المسيحي في الشوارع والمدارس! ولم تستمر هذه النظرة السمحة طويلاً .. وبفعل فاعل! .. أواصل غداً. إبراهيم سعده [email protected]