فى أدبيات الهجرة يقولون «إن كل شامى مهاجر إلى أن يثبت العكس». وماذا كنا نقول نحن عن الهجرة والاغتراب وهل تغيرت مقولاتنا ولماذا؟.. إن أمثالنا الشعبية كانت حافلة بالأقوال غير المرحبة بالاغتراب «الغربة كربة تذل الأصول»، «ومن خرج من داره اتقل مقداره» و«عسرك فى دارك أعز لك من يسرك فى غربتك».. إلى غير ذلك من أقوال. إلا أنه يلاحظ أن هذه الأقوال بدأت تتراجع نسبيا، فأصبحنا نسمع من يقول إن «المال فى الغربة وطن ووطن بلا مال غربة»، فماذا حدث؟!.. إنه موضوع يطول شرحه. وباختصار لقد تغلبت عوامل الطرد، أى ببساطة صعوبة المعيشة وما يحيط بها، على عوامل الجذب أى تلك التى تدفع المواطن للبقاء فى بلده. ولقد أصبح الاغتراب والهجرة بحكم الضرورة بمثابة طبيعة ثانية مستجدة للمصرى (Second nature). فالهجرة ظاهرة حديثة بالنسبة للمصريين، ولذلك لم تنضج ثقافة الهجرة بعد فى مجتمعنا. والهجرة بطبيعة الحال هى قرار فردى يتخذه من نوى الهجرة بإرادته وبعد حساب أولى للتكلفة والعائد. ولكن من هم المغتربون والمهاجرون؟ أى عمن نتحدث؟ تقديرات وإحصائيات عدد المغتربين والمهاجرين متباينة إلى حد كبير من مصدر لآخر. فالأرقام لدينا فقدت عذريتها وتقديراتها مجرد وجهات نظر. ولكن ذلك لا يمنعنا من الحديث عن الأهمية النسبية الاقتصادية والعلمية لقطاع الهجرة. فعلى سبيل المثال حققت الهجرة عائدا سنويا يُقدر بقرابة سبعة مليارات دولار عام 2006 2007، دون احتساب التحويلات العينية التى لا تمر بالقنوات الرسمية، مما يجعل عائد الهجرة يزيد على التقديرات الرسمية المعلنة. وقطاع الهجرة المؤقتة فى منطقة الخليج وحدها مثلا يوفر مليونى وظيفة على الأقل. فكم يحتاج خلق هذه الوظائف فى الوطن الأم إذا علمنا أن تكلفة خلق وظيفة واحدة جديدة يبلغ 50 ألف جنيه؟ وإذا كان كل مصرى مغترب يعول على أقل تقدير ثلاثة أفراد، فإن قطاع الهجرة والمغتربين والمقدر عددهم بخمسة ملايين، يهم فى الواقع وبشكل أساسى 15مليونا من سكان مصر، أى قرابة 20% من سكانها. وبطبيعة الحال فإن للهجرة أثرا إيجابيا على مختلف الجوانب الاقتصادية والمالية والاستثمارية وعلى الحد من الفقر. ولعلنا لا ننسى أيضا الأهمية النسبية لعلمائنا فى الخارج وإمكانية إسهامهم فى التطوير التكنولوجى والعلمى فى مصر، إذا ما أحسن إيجاد القنوات المناسبة لذلك. ومع كل هذه الأرقام وغيرها يثور التساؤل ألا يستحق مواطنونا فى الخارج الرعاية والحماية المناسبين؟ إن المصريين فى الخارج مغتربون أو مهاجرون هم جزء غالٍ من رصيد ثروتنا البشرية خارج الحدود، وعلينا العمل على تقديم جميع وسائل الرعاية والحماية الممكنة لهم. وبطبيعة الحال لا يوجد بلد فى العالم يوفر الرعاية القانونية والاجتماعية لمواطنين بلا حدود، نظرا لتكلفتها المرتفعة. ومن هنا تتفاوت مستويات الرعاية من بلد لآخر، إلا أن أغلب الدول تسعى لتوفير الحد الأدنى لهذه الرعاية لمواطنيها، وأنشأت أجهزة متخصصة لها. والدول تعمل – وإن كانت بدرجات متفاوتة - على شمول مواطنيها بالخارج بالرعاية الممكنة. فالمواطنة تعنى انتماء المواطن إلى الوطن، والولاء لشعبه ومصالحه العليا. والمواطنة تعنى فى أحد معانيها تفاعل المواطن مع أحداث وطنه، وتمتعه بحقوق المواطنة، ومن ضمنها الحقوق المدنية والسياسية. فلكل مواطن حق التنقل، وحرية اختيار مكان إقامته فى وطنه أو خارجه. وقد أقر الدستور المصرى حق الهجرة للمواطن المصرى. عندما نتحدث عن المواطنة كنظام حقوق وواجبات، فإننا نعنى فى الوقت نفسه حقوق المواطن وواجباته فى الدولة، وبالمقابل حقوق الدولة وواجباتها بالنسبة للمواطنين، فحقوق المواطنين هى واجبات على الدولة، وحقوق الدولة هى واجبات على المواطنين. وفى رأى البعض أنه على هذا الأساس تقوم بين الوطن والمواطنين جدلية دقيقة، لا علاقة لها بجدلية التناقص، إنها جدلية تبادلية حميمة، يزداد غناها وترتفع حرارتها بقدر ما يتطابق الوطن الجغرافى والوطن السياسى والوطن الأيديولوجى فى وحدة الجماعة الوطنية. وقد حظيت فكرة المواطنة باهتمام كبير خاصة انتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية المرتكزة على تعزيز السلم المجتمعى والأمن الإنسانى، لاسيما فى ظل وجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار والمواطن كإنسان ضمن نطاق الحق والعدل. فالمواطنة وثيقة الصلة بمفهوم التضامن. فلا مواطنة حقيقية من دون وجود روح تضامن قوية تذود عن الوطن، وتوفر الرعاية لمواطنيه فى الداخل والخارج، وطالما ظلوا متمتعين بجنسيته، فلهم حقوق المواطنين المقيمين وواجباتهم. وما دمنا نتحدث فى إطار «المواطنة» فسأضع بعض مبادئ الرعاية تحت مظلتها:- حق المواطن فى التأهيل الجيد؛ فسوق العمل الخارجى سوق مفتوح وتتسم بالمنافسة الشرسة. وحسن التأهيل المهنى يزيد من فرص المرشحين للعمل بالخارج، وسوء التأهيل يقود إلى سوء التصرف. حق المواطن فى المعرفة؛ ويعنى أن تكون المعلومات الأساسية متاحة عن المجتمعات المضيفة أو المستقبلة للمغتربين أو المهاجرين، سواء فيما يتعلق بقوانين هذه المجتمعات وتقاليدها أو مستويات المعيشة فيها، وسبل حفظ حقوق المغترب وواجباته.. إلخ. حق المواطن فى تعامل كريم وميسر؛ وهو ما يقتضى إعادة النظر فى أسلوب تعامل أجهزتنا البيروقراطية مع المواطن المهاجر والمغترب، ولا شك أنه بُذلت جهود عديدة لترويض هذه البيروقراطية وتطوير أدائها. والتطوير عملية مستمرة تستوجب إعادة النظر فى مسارها كل فترة زمنية، لضمان تحديثها لتتماشى مع المستجدات. حق المواطن فى التوعية الإعلامية الصحيحة؛ وهو ما يتطلب توجيه خطاب إعلامى موضوعى ومجسد للأهداف والسياسات المتعلقة بالهجرة والاغتراب، وأن تعى وسائل الإعلام رسالتها، ودورها فى ترشيد السلوكيات السلبية للمواطنين. حق المواطن فى الحماية القانونية؛ بالعمل على الحفاظ على حقوق المغترب وكرامته الشخصية، وعدم تعرضه للاستغلال أو التمييز، أو فى حالات إنكار العدالة القانونية، فإن الرعاية القانونية تتوقف فى جانب منها على ما إذا كانت الدول المضيفة منضمة أو غير منضمة للاتفاقيات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمهاجرين فضلا عن حقوق الإنسان. والرعاية القانونية مكلفة وتحتاج لمصادر تمويل خاصة لها. المسئولية المشتركة؛ الرعاية بطبيعتها مسئولية مشتركة بين المواطن ودولته. فبقدر ما يقوم المواطن المصرى المغترب أو المهاجر بواجبه على الوجه الأكمل فى موقعه، ويحترم قوانين وتقاليد الدولة المضيفة، بقدر ما يكون خير سفير لبلده ويعزز موقف بلاده فى الدفاع عن حقوقه عند اللزوم. حق تكوين الروابط والاتحادات؛ من المفيد أن نعمل على تشجيع تكوين روابط مهنية نوعية كرابطة الأطباء المصريين فى المجتمعات الأوروبية، وروابط رجال الأعمال وغيرها، والهدف منها تعريف أبناء كل مهنة بمواطنيهم فى الدول الأخرى، وإيجاد قنوات اتصال بينهم وبين التنظيمات المقابلة فى الوطن، وعقد مؤتمرات دولية لهم فى الخارج والداخل. وفى هذا الصدد نذكر الدور الإيجابى «لجمعية أصدقاء المصريين العلميين بالخارج»، وكان يرأسها الدكتور محمود محفوظ رحمه الله، والتى تعقد مؤتمرا كل سنتين بالقاهرة، تناقش خلاله موضوعات تمثل أهمية خاصة للتنمية الشاملة فى الوطن.