لقد سقطت كل الروايات القديمة، ومن أسف فقد أجهضت الحكايات الجديدة أيضاً، ولما نزل في انتظار مالا يجيء، ورغمها يحدونا أمل في إبداعات جديدة ملهمة لا يملؤها الشجن وإنما تشف عن إحساس بالعدالة والمسئولية، حكايات تزودنا بالقدرة علي رؤية الاشياء علي النحو الذي يراها به الآخرون، وتمدنا بالحكمة والاصالة والانسانية والخيال. الحكاية كلمات ومعان وأفكار، وهي أفق وحلم ورمز ودلالة، وهي أمنية نرجوها أوغاية ربما أخفقت أو هكذا أراها. يتفق معي في ذلك كله " فاتسلاف هافيل" وربما أضاف إليه منظوراً جديداً تردد في كثير من كتاباته أسماه "أزمة في الحكايات" وهو يري أن الشيوعية كانت حكاية والرأسمالية حكاية وكلاهما استنفد الغاية منه، وأن إشكاليات الوجود والسياسة في العالم كله مردها أزمة الابداع والتوهج والقدرة علي الخلق والتكيف والالهام والدهشة، وهو يري أن الانسانية لاتزال في انتظار حكايا جديدة، ربما جاءت في اكتشاف علمي ملهم أو أيديولوجيات جديدة أونظام عالمي جديد ومؤسسات جديدة او معطيات تكنولوجية حديثة تدفعنا الي اليقين والخروج من عالم ما بعد الحداثة ذلك العالم الذي بدا غاضبا ومغاضبا ومريضاً بظواهره وابداعه. فاتسلاف هافيل كان رئيسا وكاتبا وحكاية. وهو واحد من نجوم "ربيع الغضب" أو ثورة الشباب في أوروبا عام 1968 و التي أطلق عليها في براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا في ذلك الحين "ربيع براغ". كان هافيل واحداً من رموز الحركة الليبرالية الشابة في أوروبا الشرقية الذين خرجوا ضد غزو الدبابات السوفيتية لبراغ في محاولة لسحق الحركة الاشتراكية الإصلاحية التي قادها الكسندر دوبتشيك ضد النظام الشيوعي في بلاده. سجن هافيل ومعه مائة وخمسون من الكتاب والناشطين وخرج بعد معاناة السجن وعذاباته ليؤسس حركة "المنتدي المدني" وليواصل نضاله حتي أصبح رمزا للثورة من أجل الديمقراطية، وفي عام 1990 انتخب رئيسا لبلاده تشيكوسلوفاكيا ثم رأس بعدها جمهورية التشيك عام 1993 بعد الانفصال وحتي 2003، حيث تفرغ بعدها لعشقه القديم في المسرح والفكر والكتابة. في كل أعماله ومؤلفاته كان هافيل مفتوحا بفكره علي المفاجآت والإلهام والدهشة، من أهم أعماله : لعبة حقوق الانسان، أيام بورما الصامتة، رسائل الي أولجا، ما بعد أوهام الثورة، الشبع يزورنا من جديد، مازالت الشيوعية تعلمنا، ماذا يهدد هويتنا، الزوال، إلهام التجديد، وغيرها كثير. آمن هافيل بالليبرالية والديمقراطية وبشر بها وهلل لها وكذلك فعل" فرانسيس فوكوياما "أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدةالأمريكية والذي كتب "الانسان الجديد ونهاية التاريخ" مبشرا بانتصار الرأسمالية الحاسم وسقوط فكرة الاشتراكية بتفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية التي بنت عقيدتها علي النظرية الشيوعية كما أسس لها كارل ماركس باعتبارها رؤية في جدلية التاريخ أو هي حكاية التاريخ نفسه، وهي إلهامه الذي لابد أن يتحقق بانتصار اشتراكية الشغيلة - العمال - أو البروليتاريا كما أسماها في أدبياته. لكن من أسف سقطت حكاية الشيوعية واستحالت كومة من الحجارة في ضواحي برلينالغربية، وخلفت وراءها البروليتاريا وقد تبخرت أحلامها وتخلي عنها التاريخ بوعوده وراوغها وأدار لها ظهره. في كتابه "هل وصلنا نهاية التاريخ" الذي أصدره في 1989 نعي فوكوياما حكاية الشيوعية حيث قدم مرثية يتمازج فيها الفرح بإنتصار الرأسمالية الليبرالية مع الأسي لنهاية التاريخ بنهاية الحرب الباردة وعصر الصراع بأفكاره الكبري وقضاياه الإنسانية، جاء فيها " ستكون نهاية التاريخ حدثا جد حزين، فالنضال من أجل التفوق والمخاطرة من أجل هدف إنساني نبيل والصراع الأيديولوجي علي نطاق العالم بما يستثيره من جسارة ومثالية وخيال، ستحل محلها جميعا الحسابات الاقتصادية والاهتمامات البيئية والتكنولوجية وإشباع مطالب المستهلكين، في حقبة ما بعد التاريخ لن يكون هناك ثمة شعر ولا فلسفة، فقط ستكون الوصاية علي متحف التاريخ الإنساني". انتهت إذن حكاية الشيوعية لتبدأ الرأسمالية الجديدة في توحشها ونهمها وأنانيتها، تتسيد العالم وتتلاعب بمقدراته وتكون سقطتها الكبري في وول ستريت في سبتمبر 2008، وها نحن نعايش فصولا من أزمتها المالية الكبري. تلك الأزمة التي صدمت فرانسيس فوكوياما في كل مابشر به، فلم يكابر كما يفعل الكثيرون منا ولم يراوغ، واستشعر قدر الوهم الذي بني عليه حكايته وقام يواجه نفسه وأفكاره قبل مواجهة الآخرين حيث كتب مقاله الشهير "انهيار الاقتصاد الامريكي" في مجلة النيوزويك 14 أكتوبر 2008 قائلا " مع تداعي بعض أشهر الشركات في وول ستريت تداعت أيضا النظرة العامة للرأسمالية الجديدة" وتساءل "كيف يمكننا إعادة ترميم الثقة في النظام الأمريكي وسمعته" و قال أيضا "إن الخيار الذي نواجهه الآن يتجاوز خطة الإنقاذ المالية، ذلك أنه مع توالي السنين تحولت الأفكار التي كانت جديدة الي أيديولوجيات قديمه ومتصلبة". وهنا تصورت فاتسلاف هافيل يطل علينا وهو يومئ برأسه "ألم أقل لكم سنظل دوما في انتظار حكايات جديدة". وأحسبه محقا فيما عساه يري أو يقول، نعم فالحكايات علامة علي تجدد الفكر الإنساني وقدرته ووعيه ودونها حالة من الثبات والموت والجمود، حالة يكون فيها الإنسان نفسه مجرد شيء، وعندها سنواجه كل التناقضات التي يمكن أن نتخيلها، ساعتها ستكون تكلفة الموت أهون من حياة يكون فيها الناس أمام أحلام أجهضت وغايات أخفقت. لكن الناس لا يزالون يملؤهم الأمل، فهم يحتاجون كل يوم الي حكايات جديدة تلبي أشواقهم للعدل والحق والحرية وتضمد جراحهم جراء تعثر مسارات الثورة وتدني أداء السياسة والإعلام والنخبة. قصوا حكاياكم وأبدعوا فالحكايات حياة، والموتي وحدهم هم الذين لا يروون حكاياهم. مقال أعيد نشره إهداء لأستاذنا جمال الشرقاوي الذي لايزال يعلمنا بمواقفه وحواره وأحياناً بصمته.