حمدى رزق يتنحي القاضي طوعًا أو كرهًا، طوعًا استشعارًا للحرج، وكرهًا إذا تم رده، وفي الحالتين تنحي القاضي من شيم العدالة العمياء التي توفر للمتهم أقصي درجات الأمان أمام قاضيه الطبيعي، لا إكراه في القضاء، نعم الملائكة لا يسكنون الأرض، والقضاة لم يتنزلوا من السماء، القضاة ليسوا ملائكة، يخطئون ويصيبون، العصمة لا تكون إلا لنبي. ولم يدع قاض النبوة، ولم يدع العصمة، وخير الخطائين التوابون، وخير القضاة المتنحون استشعارًا للحرج، وكفي الله المؤمنين من القضاة القتال الذي يأكل من سمعة القضاء المصري الشامخ رغم الأنواء والأعاصير التي تهب علي منصته العالية. ريح صرصر عاتية تكاد تقتلع أوتاد الوطن، القضاء عمود الخيمة، لم يتبق قائم يصلي في محراب الوطن سوي القضاة، يحكمون بين الناس بالعدل، صرح شامخ، هز هيبة القضاء في قضية التمويلات الأجنبية هدف خبيث لو تعلمون، هدف معلوم، القضاء صار هدفا، صار لوحة نيشان، إنهم يصوبون كثيرًا علي المنصة العالية، بل يتهجم الذي في قلبه مرض علي سدنة العدالة في بيت العدالة، ضاع بلد ضاعت فيه العدالة ومرغت في تراب الطريق ونهش في عرضها كلاب السكك الضالة. ليست مصادفة أن يتم استهداف القضاء في توقيت هو حياة أو موت بالنسبة لمصر بعد الثورة وقبيل انتخاب رئيس الجمهورية، هز القضاء وهم من سيشرف علي تلك الانتخابات، وهو من سيعلن نتيجتها علي الملأ، جريمة أن يتم اغتيال القضاء علي مفرق الوطن، أن تهز هيبة القضاء قبل إلقاء أول ورقة في أول صندوق انتخابي رئاسي، استباق الربيع الرئاسي بإسقاط القضاء لا يخفي علي أحد، كيف يشرف علي سلامة انتخابات رئاسية من كان عليلا، التشكيك في نزاهة القضاء كبيرة إلا علي الظالمين لوطنهم. القضاء حياة، ولكم في القصاص حياة، وعصب الوطن قضاء، وفي أعتي عهود الظلم والاستبداد كان القضاء حكما ونصيرا، ورغم صنوف العنت والتضاغط السياسي والحزبي والديني كانت المنصة عالية، محل اعتبار وتقدير، كان هناك حرص بين الجماعة الوطنية علي تنزيه القضاء، علي جبل القضاء علي استكمال رسالته وتأدية أمانته، إنا عرضنا الأمانة. القضاء حصن، ما رماه رام وراح سليما عناية الله جندي، كم بغت دولة علي القضاء وجارت ثم زالت وتلك عقبي التعدي، كم بغي علي القضاء حكام، كم نكل بالقضاء مستبدون، كم دقت علي رأس القضاء طبول، كان القضاة دوما صابرين محتسبين محتملين، ولسان حالهم أنني حرة كسرت قيودي رغم أنف العدا. القضاء ثورة، القضاة ثاروا قبل اكتمال قمر التحرير بدرًا، كان القضاة علي الدرب سائرين، ثائرين، كان مشهدا مهيبًا، قضاة مصر ينزلون الشارع تزينهم أرواب العدالة السوداء يتصدرون المشهد السياسي، لامهم وقتئذ من لام، وخشي عليهم وقتئذ من خشي، ولكنهم كانوا صداحين بالحق، كانوا سباقين بالثورة، قصب السبق، لم تكن مطالبهم فئوية، كانت استقلالية، استقلال القضاء من استقلال الشعوب. القضاة غاضبون، غضب نبيل، يخشون علي العدالة، إنها معصوبة العينين لا تري ما يكيدون، المحاكم تضرب في أطنابها الفوضي، المنصة صارت مستباحة، والمتهمون صاروا أسري غضب، سيرة القضاة صارت علكة "لبانة" في الأفواه الفضائية، معلوم القاضي لا يمدح أو يذم، القاضي الآن يذم بملء الفم، ويتهم في عدالته، وتشكك في أحكامه، بحسن نية وبعمدية، وظلم ذوي القربي أشد مضاضة علي المرء من وقع الحسام المهند، من بين الصفوف محسوبون علي القضاة يقطعونه بحد السيف. لا يكفي تأمين المحاكم بخمسين ألف جندي مما تعدون، تأمين المنصة العالية من المتقافزين، تحصين القضاة من الاستباحة التي يمعن فيها البعض، إبعاد القضاة عن الجدل الدائر حول مستقبل الوطن فرض عين، القضاء كالنهر يغسل نفسه، يغسل أحزانه، ينظف أدرانه، في سلك القضاة شوامخ لا تقبل الدنية في قضائنا، التفتيش القضائي لا يحتاج إلي مطهرات تزيل البقع أو تذيب العوالق، العدالة لابد أن تأخذ مجراها الطبيعي بلا عوائق ولا جنادل ولا شلالات. ما ينتظر القضاء كثير، ملفات فساد صارت جبالا، ومحكومون ينتظرون عدلا، وشعب ينتظر القصاص، وعالم من حولنا يرقب أحكامنا، وينتظر عدالتنا، وكما كانت الثورة ملهمة ينتظر منا عدالة ناجزة، العدل ضد الظلم، العدل مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه علي العدل، وأداء الحقوق والواجبات، وهو سيد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام. الثورة علي الظلم تعني العدل، والله عدل، والعدل بين يدي هؤلاء، لا ترعشوا أيديهم ولا تفتشوا في ضمائرهم، سدنة العدالة يحتاجون إلي سند من الشارع قبل الشارع، الأول الشارع المصري، والثاني المشرع المصري. ما ينتظر القضاء كثير، انتخابات رئاسية تحت الإشراف القضائي الكامل، علي الصندوق، ليس من مصلحة البلاد والعباد إضعاف القضاء، ليس من المصلحة الوطنية هز هيبة القضاء، الانتخابات الرئاسية عسيرة وصعبة وتحتاج إلي قضاء شامخ إلي همم عالية، إلي إحساس عارم بالثقة، لابد أن ينال القضاء الثقة الكاملة، ثقة الثوار، ثقة الشارع، ثقة المتنافسين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.