من الصعب عدم التعليق علي "الخبطة" الصحفية الهائلة التي انفردت بها الأخبار، لأنه ليس من تحصيل الحاصل الإشادة بحوار الأستاذ ياسر رزق مع محمد حسنين هيكل، الذي يصعب الآن البحث عن لقب يوضع قبل اسمه، مثلما هو الحال لأعلام من الرتبة نفسها في سلم العقل الإنساني، ولا أريد أن أذكر أسماء بعينها حتي لا يزداد وجع الذين مازالوا يحاربون معركتهم مع ما يمثله محمد حسنين هيكل.. وربما جاز لي أن أتذكر توينبي، بحكم دراستي للتاريخ واهتمامي بالسياسة. لقد استطاع رئيس تحرير الأخبار بأسئلته أو بالخطوط التي رسمها لمسار الحوار أن يطلع قارئ العربية وليس قراء الأخبار فقط علي رؤية مكتملة تعد نموذجا لما يجب أن يكون عليه التحليل السياسي، ضمن ضفيرة شديدة الدقة مع التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا وعلم النفس الاجتماعي والسياسي، بل والأدب العربي أيضا نثرا وشعرا. ليس من تحصيل الحاصل، لأن الحاصل هو أن مئات الحوارات أجريت مع هيكل، وانتقي هو منها مجموعة رآها متميزة ضمها في كتابه "أحاديث في العاصفة"، وكان لي حظ أن ينشر في الكتاب حوار أجريته معه عام .1985 ولكن حوار ياسر رزق متفرد عن غيره، وأظن أنه يصلح للنشر كتابا مرجعيا يفيد الباحثين في المجال الأكاديمي ويستفيد منه من يريد من الناشطين في الحقل السياسي العام، وما أكثر زعاماتهم الذين يخلطون بين الألف وكوز الذرة! من الحديث عن الكنز الصحفي والمعرفي المتمثل في حوار الأخبار مع هيكل، أنتقل لما يحدث الآن لبورسعيد مدينتنا الباسلة، التي تتواتر الأخبار والروايات عن حصار فرض عليها بعد المأساة الدموية التي جرت في ملعب لكرة القدم. إنني أتمني أولا أن يكون ذلك المتواتر مبالغات من قبيل ما تعودت عليه الروايات الشفهية الشعبية، بوضع كثير من البهارات علي أية حكاية، أما إذا كان هذا التمني أمرا يكذبه الواقع، فإن المأساة معقدة ومركبة لأن مصر عندئذ تكون بصدد تكريس التفتيت الجغرافي، بعد أن عاشت محنة التفتيت الاجتماعي، بوجود اللصوص المليارديرات في نظام مبارك، وعاشت محنة التفتيت الطائفي بوجود الاستقطاب الديني والمذهبي بعد أن غاب دور الدولة ومؤسسات التماسك الاجتماعي، وعاشت التفتيت الثقافي بتهميش بل إعدام دور المثقفين المحترمين في صياغة العقل الوطني، وبإهمال منظومات ثقافية بأكملها كان في مقدمتها الثقافات الفرعية الموجودة في أقاليم مصر وبين قواها الاجتماعية! حصار بورسعيد وتخويف الآخرين من مختلف أرجاء مصر من الذهاب إليها، وبالتشنيع علي أهلها، وبمنع الموارد الاقتصادية والخدمية بدعوي خطورة الوضع الأمني، هو جريمة في حق مصر وحق المستقبل الوطني الذي لن يكون مشرقا ما لم ينته هذا التفتيت علي كافة المستويات. بورسعيد جزء من الوجدان الوطني ومن الذاكرة الجهادية المصرية والعربية والإسلامية والإنسانية ولا ينكر دورها وفضلها إلا جاحد.