أول ما نبدي القول نبدأه بكلمة مأثورة للخواجة وليام مكدوجال »دا مش صاحب دكان هامبورجر أو فرن بيتزا« وإنما فيلسوف بريطاني شهير قال »اننا نضحك لأننا تعساء والضحك يجعلنا نشعر بأننا في حال أفضل!.. ولأنها لم تكن في حال أفضل بل من تنتمي لعائلة فقيرة هي خليط من الفلاحين وعساكر البوليس التعساء كان الأفضل لها ان تضحك وتلاطف الجميع بقفشاتها لمداواة تعاستها!.. هذا هو حال عمتي أم الساخر الكبير الراحل محمود السعدني »بنت عم والدي مباشرة« والتي كنت أناديها دائما بلقب عمتي!.. أذكر انني ذهبت مع قريبي الفنان صلاح السعدني لزيارتها وتناول الغداء فاستقبلتني بالاحضان.. ازيك يا واد يا فؤاد. ازي ابوك.. أمك لسه عيانة.. وكان لنا قريب اسمه »حمدان« فقد احدي عينيه في حادث فأكلمت تسألني: وأخبار عمك »مصران« الأعور ايه؟!.. كانت بارعة في اختيار الوصف والتشبيه في الوقت الذي لا تستطيع ان تغفل ما في سخريتها من التناغم الضاحك. إلي جانب التلاعب بالالفاظ بين كلمتي »حمدان« و»مصران«!.. ضحكنا انا وصلاح في الوقت الذي انشغلت هي عنا بالدخول إلي المطبخ لتجهيز طعام الغداء!.. أثناء ذلك وهي في المطبخ نادت علي صلاح ليفتح راديو قديما كان عندها موضوعا في صالة الشقة لنفاجأ بمحمد عبدالوهاب يشدو باحدي أغنياته »طيفك دا تمللي شاغلني.. مطرح م أروح يقابلني« فسألها صلاح زاعقا: عبدالوهاب بيغني الأغنية دي لمين يا أمه؟!.. ردت صارخة حتي نسمعها: باين لواحد كان عبدالوهاب واخد منه قرشين سلف وداير وراه عوز يرجعهم له!.. ها ها.. ها.. أثناء ذلك بحثت عمتي أم محمود عن خبز فلم تجد في البيت إلا رغيف بلدي واحد استطاعت ان تحوله إلي »شقتين« ناولت كل منا شقة محشوة بالبذنجان المقلي والبطاطس المحمرة وهي تقول: الرغيف أبوشقتين ياكلوه اتنين!.. بعدها انتفضنا قرب الباب قائمين لمغادرة المنزل بينما كانت تجهز الشاي تدعونا لتناوله: مش فاهمه متسربعين ليه زي ما يكون في »......« بيضة!.. يا واد منك له أقعدوا لغاية ما تشربوا الشاي واللا ما بتعرفوش تقعدوا غير في عيد الجلوس؟!.. »عيد الجلوس احدي المناسبات التي تحتفل بها البلاد لعيد تولي الملك فاروق حكم مصر وجلوسه علي العرش«.. وفميا يبدو هو كل ما كانت عمتي أم محمود تتباهي به وتتذكره من أعياد!. لقد كان أهم ما يميز عمتي أم محمود بجانب خفة ظلها طيبتها وانسانيتها التي تظهر دائما عند ادائها الواجب لكل من تعرفه سواء من الأقارب أو الجيران! ذات يوم اخذت بعضها بعد ان ارتدت ملابس الخروج وحملت معها كيس برتقال بلدي وسكري لزيارة شقيقتي المريضة وكانت تسكن في الجيزة بجوارها فوجدت شقيقتي في السرير وهي ترتدي جلبابا أبيض منقوشا في كل جزء منه وردة.. وردة حمراء ووردة صفراء واخري باللون البنفسجي فلم تفتها النكتة وهي توجه كلامها إلي شقيقتي: حلوة الجلابية الملونة اللي انت لابساها دي.. ضروري الدكتور قال لك لازم تغيري المناظر!.. كانت النكتة تستهويها وتنعش حياتها وعلي استعداد ان تطلقها حتي ولو كانت في جنازة!.. دخلت مأتما لأحد من أقارب جيرانها وبعد ان شربت القهوة قالت لأصحاب المأتم الذي ناولها الفنجان.. دايما!.. دايما كانت لدوام شرب القهوة أم لدوام وفاة بقية أهل الجار الله وحده يعلم فالمعني بالطبع في بطن أم محمود وبطن القفشة ربما!.. كان الضحك عندها الوانا واصنافا.. لاذع وحراق وبعضه لا يفهمه الا الاذكياء وحدهم!.. استمع لهذا الحوار الذي دار بينها أثناء زيارتها ل»ستي عديلة« فأرادت ستي ان تقوم بواجب الضيافة المعتاد فسألتها: اجيب لك فنجان قهوة يا أم محمود؟!.. - مش عايزة قهوة!.. - أجيب لك كوباية شاي؟! - مش عايزة شاي!.. - تتغدي؟!.. عندنا فضلة خيرك بامية باللحمة الضاني!.. - مش عايزة بامية!.. والاذكياء وحدهم لا يمكن ان تفوتهم اين تكمن النكتة هنا.. بالطبع تكمن في رفضها للبامية ولكنها ترحب كل الترحيب باللحمة الضاني فقط!.. عندما أبلغوها بهجرة محمود السعدني إلي الكويت بعد خروجه من السجن بسبب أحداث مايو 1791 شعرت بالوحدة واظلمت الدنيا في وجهها واصيبت بالاكتئاب وانعزلت عن زيارة الجميع وادركت ان عصر البهجة قد ولي وزمن الفرفشة قد انقضي والأيام لم تعد هي الأيام فانزوت طول الوقت تتطلع إلي صورة للسعدني معلقة علي حائط تناجيها: واحشني يا ابني.. واحشني يا ابني.. وإلي ان ماتت كمدا!.. بالرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما علي رحيلها فان توابع خفة ظلها مازالت قائمة!.. آخرها يوم ذهاب والدتي لتقديم واجب العزاء في مأتم لأحد الأقارب وبعد ان شربت القهوة المعتادة قالت أثناء وضعها الفنجان علي صينية يحملها شقيق المتوفي.. دايما ان شاالله!.. رحم الله عمتي أم محمود.. التي كثيرا ما كانت تضحك من الحياة.. واحيانا تضحك عليها!..