نشرت مؤخرا دراسة في بريطانيا عن الكذب.. وانتهت إلي أن شهر الكذب عند الإنجليز هو يناير وليس إبريل الذي اقترن اسمه بالكذب في معظم دول العالم.. والبريطاني حسب هذه الدراسة يكذب أربع مرات علي الأقل في الأيام العادية من السنة.. لكن منسوب الكذب يرتفع خلال هذا الشهر إلي سبع مرات بسبب المناسبات وما تتطلبه من أحاديث استعراضية حول الشراب والطعام والجنس والأحوال الاقتصادية.. ورغم ذلك لم تدخل بريطانيا بعد إلي موسوعة جينز.. لأن هناك مجتمعات تكذب أربعا وعشرين ساعة في اليوم.. لأنها تكذب حتي في رواية الأحلام والكوابيس التي تداهمها أثناء النوم! تكذب كما تتنفس .. وحين حاول الناس تبرئة نوع من الكذب سموه الأبيض لم يخطر ببالهم أن من يبدأ بالأبيض سوف يمر بالأسود انتهاء بكل الألوان.. وهذا ما تنبه إليه الأديب الفرنسي العالمي ألبيركامو فكتب مسرحية لإدانة الكذب الأبيض لأن كذبة بيضاء واحدة أدت إلي قتل امرأة وابنتها الابن العائد بعد هجرة طويلة.. ويبدو أن الكذب كالفيروس شديد التأقلم.. ورشيق في ابتداع الأقنعة وإتقان الأدوار.. والغريب أن الناس الأكثر كذبا هم الأكثر ادعاء بالصدق.. لأنهم يتمسكون بمواصلة الكذب عندما يقولون بأنهم صادقون.. إن بعض الحيوانات تكذب أيضا.. فالحاجة هي أم الكذب والاختراعات كلها.. الحرباء تكذب لتنجو والأسود تكذب لتفترس والأفاعي تكذب لتلدغ.. لهذا قد يبدو كذب الإنجليز في يناير وبقية شهور السنة بدرجات متفاوتة أمرا عاديا لأن هناك مجتمعات بحاجة إلي مثل هذه الدراسات كي تدرك أنها قد تصدق مرة واحدة في العام أو في العقد.. وحين يكون الكذب من صلب التربية التي تحرض علي الانتهازية والفهلوة.. فالمسألة تصبح أشد خطورة.. لأنه يتحول إلي أمر مشروع ومألوف.. ويصبح الضحية هو الصادق الذي يصر علي ألا يشرب من نهر الكذب والجنون معا.. واختبارات الكذب سواء كانت شعبية متوارثة أوحديثة تختبر الأدرينالين أو اللعاب أو أية أعضاء أخري في الجسد لم تتوصل بعد إلي ضبط بعض المحترفين متلبسين بالكذب.. فهم بالممارسة والمران والتكرار أتقنوا الأدوار تماما.. ومن الصعب علي أي اختبار أن يتوصل إلي حقيقتهم.. لأن طبيعتهم كلها انقلبت وحين لا يجدون من يكذبون عليه يكذبون علي أنفسهم وقد يعزّ عليهم أنهم لا يستطيعون تغيير أسمائهم بالنسبة لمن يعرفونهم.. فيصدقون مكرهين بالرغم عن أنفسهم وليس برغبتهم.. لقد ضاعف الاستهلاك وثقافته المسعورة من منسوب الكذب.. لأن هاجس الامتلاك افترس هاجس الوجود والكينونة ..كما أن التقدم التكنولوجي قد شمل الكذب أيضا بنعمه.. وهناك هواتف محمولة تكذب بمهارة تكنولوجية.. فتسمعك صوت هدير البحر أو ثرثرة ركاب في حافلة.. أو أصواتا من فيلم سينمائي إذا قررت أن تكذب علي من يهاتفك.. ما من كذب أبيض أو رمادي أو بنفسجي.. لأنه لا يمكن تجزئة منظومة القيم .. فهي لا تعرف الكسور العشرية بحيث يكون هناك نصف جاسوس وثلث بغيّ وعشر وطني وثلاثة أرباع كاذب.. نتمني أن تتكرر تجربة هذه الدراسة علي مجتمعات أخري غير الإنجليز.. وآه.. لو أجريت عندنا فستكون النتائج بلا أدني شك زلزالية!!..