لم يترك الدالاي لاما ديانة إلاّ عكف علي دراسة كتبها وتعاليمها، كما زار بلادها، وتحاور مع رموز مرجعياتها من الدعاة والعلماء والرهبان والحاخامات، وتردد علي المعابد والكنائس والمساجد. ومن حصيلة هذا كله استطاع أن يقارن بين الأديان بحثاً عن توافق فيما بينها علي مباديء وقيم وتعاليم يلتزم المؤمنون بها علي امتداد آلاف السنين. خلال سنوات البحث والتنقيب في كل الديانات لم ينس الدالاي لاما ديانته الذاتية البوذية أو ينشغل بغيرها. علي العكس كان يرجع إليها في كل ما قرأه وشاهده وسمعه عن ديانة أخري بحثاً عن توافق يجمع بينهما.. وما أكثر ما عثر عليه وسلط عليه الضوء في كتابه الرائع والمذهل الذي أصدره منذ أيام. تحت عنوان: »الإسلام، المسيحية، اليهودية.. كيف يعيشون في سلام؟«. لم أتوقف كثيراً أمام الاثباتات العديدة التي طرحها الدالاي لاما كدليل قاطع علي تشابه وتوافق البوذية مع الديانات الآسيوية الأخري من الهندوسية، والسيخية، وغيرهما.. وإنما ما أذهلني حقيقة وتوقفت أمامه طويلاً، هو التوافق الذي عثر عليه الدالاي لاما بين ديانته البوذية والديانات السماوية بترتيبها الزمني: اليهودية، والمسيحية، والإسلامية. القراءة الجادة لهذه الديانات الكبري وفرت للدالاي لاما الأدلة التي كشف عنها في كتابه المثير إثباتاً لتوافقها مع العديد من تعاليمها الثلاثية، من جهة، وتعاليم وقيم الديانة البوذية، من جهة أخري. لم يستند الدالاي لاما إلي أقوال أو تصريحات حاخامات وقساوسة وشيوخ تلك الديانات الثلاث، وإنما ركّز فقط علي المعاني النبيلة التي تضمنتها كتبها المقدسة وتعاليمها وتطبيقاتها. فمثلاً.. في الكنائس يبتهلون إلي السيد المسيح ليجعل منهم أداة لنشر السلام الذي نادي به، والمحبة التي دعاهم إليها بديلاً عن الكراهية. فالصفح أفضل من الصراع. والعفو أجدي من الانتقام. والأخطاء تكشفها الحقائق. والشك يبدده اليقين. والتفاؤل بدلاً من اليأس. والأفراح تعالج الأحزان. هذه المعاني النبيلة وغيرها في الديانة المسيحية عثر الدالاي لاما علي مثيلاتها في صلوات وطقوس ديانته البوذية. ففي ابتهالاتهم نسمع من يقول: [أتمني أن أكون حامياً لمن لا حماية لهم، وملجأ لمن يتعرضون لأخطار، وضوءاً للباحثين عن النور، ومقراً لمن لا مأوي له، وخادماً للمحتاجين والمحرومين]. ما نجح فيه الدالاي لاما في الجمع بين بعض تعاليم الديانتين: المسيحية والبوذية، كرره أيضاً بالنسبة للديانتين السماويتين: اليهودية، والإسلامية. ففي تعاليم البوذية نجد تشجيعاً وحثاً علي إنكارالذات قولاً، وفعلاً. فمساعدة الآخرين بالغة الأهمية لمن يعتنق البوذية. وربط الدالاي لاما بين إنكار الذات في البوذية وإنكارها أيضاً في اليهودية من خلال نص يهودي يقول: هناك أربعة نماذج للرجل: الرجل العادي يقول: [ما أملكه هو ملكي. وما تملكه فهو ملكك]. والرجل الجاهل يقول: [ ما أملكه هو لك. وما لك هو لي]. والرجل النصاب يقول: [ ما تملكه هو ملكي. وما أملكه سيظل ملكي]. أما الرجل النبيل فيقول: [ ما تملكه هو ملكك. وما أملكه هو ملكك]. .. وللحديث بقية.